أجوبة عسيرة وأسئلة كامنة في ديوان «عندما نقمت علينا الريح» للنوباني
عرار:
عبدالرحيم جداية إضاءة: حين يسيطر الألم في الوجود نبحث عن حلول غيبية. عنوان الديوان: من المغالطات النقدية استبدال النقاد عنوان الديوان بمصطلح عتبة النص، فالعتبة لا تعني الولوج بصعوبة ولا الدخول إلى فضاء النص، بل تعني حيزا فاصلا بين القارئ والنص، إلا إذا داس القارئ العتبة السفلى للنص وتعداها، ولا يقصد النقاد بعتبة النص العتبة العليا بل السفلى، ولو قصدوا ذلك لكانت المسافة بين العتبتين ما يشكل دهشة التركيب بين العتبة السفلى وهي البنية السطحية للتركيب، والارتفاع رأسيا إلى البنية العميقة للتركيب، التي تمثل الفهم الإبداعي للنص أو الجملة أو الكلمة واللفظ بدلالته. ولو فكر النقاد بالمسافة بين العتبتين لشكل الأمر خطاً طوليا، وخطاً عرضياً بين عضادتي المدخل، ليحسب النقاد مساحة الفضاء المستطيل رياضيا حتى تصبح العلامة الحسابية دالة على قيمة العتبة، وهذا الشكل الهندسي يمكن التعرف على عمقه، والتعرف على حجم الفضاء الذي يتحرك به النص الشعري على فرض أن الشكل الهندسي منتظم، ولكن الواقع اللغوي لا يعبر عن واقع منتظم للقياس، فانحرافات اللغة ذات قيمة دلالية وتعبيرية عالية، ولا يمكن تجاهل هذه المتغيرات في عنوان ديوان علي النوباني «عندما نقمت علينا الريح». فالريح الناقمة ريح عاقلة غاضبة، تحمل حقدها داخلها وتسعى للانتقام من مجهول لا نعلمه، فهي ليست عاقلة رغم تشخيصها إنما تدل دلالة راسخة على عاقل انتهكت عوامل الثبات لديه فاشتعلت ثورته مسخرا الريح لتنتقم ممن حطم قواعد الثبات أو زعزعها، والأمن من أهم أسباب ثورة الريح والبشر للإنتقام من فاعل غاصب، لكن الريح ناقمة علينا بدلالة (نا) الفاعلية، فماذا فعلنا كي تنقم الريح علينا، أو ننقم على أنفسنا من سلوك لم نرتضيه لأنفسنا، لكن العنوان قد ابتدأ بالظرف (عندما)، وهو ظرف زمان يعني (في الوقت الذي). والجملة ليست شرطية بل تأخذ دلالة الجملة الشرطية التي تتضمن فعلا ماضيا، ولو كان مضارعا لدل على المستقبل، فالعنوان: عندما نقمت علينا الريح لا بد لها من جواب كأن نقول: كنا من الخاسرين، أو الذين حبطت أعمالهم في الحياة الدنيا، وقد اسقطت دلالة الماضي في عنوان الديوان لنبحث في جواب مستقبلي في فكر المتلقي، وإن لم يجد دلالة مستقبلية خاصة، فعليه البحث في متن الديوان الذي يشكل في مجمله جوابا شرطيا ماضيا مثل هلكنا. وتاء التأنيث في نقمت، تأخذ دلالة الجنس الناقم، ودلالة الجنس المنقوم منه، (فنا) الفاعلية هو جنس الذكور المنقوم منه، لأن الناقم أنثى، والريح أنثى، وكلها جنود الله على الأرض يضرب بعضهم ببعض، فالعلاقة الفاعلة في الضمائر المتصلة علاقة صراع وانتقام وحرب، فما الذي سينتج عنها في المستقبل حين دخلت عندما على فعل مضارع. وهذا يقودنا لإعادة دراسة العنوان بمعنى الزمان والوقت، واللحظة، فعندما نقمت علينا الريح، يعني في الزمن أو الوقت، أو اللحظة التي نقمت علينا، وكلها تدل على زمن مختلف الطول أو المسافة، لكن اللحظة الفاصلة هي أولى بالأهتمام لأنها تجمع محصلة التاريخ والزمن، حين تحرك الحدث باتجاهنا كي يعاقبنا. ماهية السؤال: وهذا العنوان: «عندما نقمت علينا الريح» لم يخبرنا ما حدث، فهل ننتظر لنعرف ما حدث أم نلج صفحات الديوان علنا نعرف ما حدث، وقد لا نعرف نتيجة نقمة الريح، لكننا نكون قد حظينا بشرف البحث، محاولين الوصول إلى جواب مقنع شاف. الأجوبة العسيرة تولد من أسئلة كامنة لم يطلقها الشاعر في فضاء النص الشعري، لذلك فالأجوبة معلقة في زوايا ضيقة تجعل من العسير على القارئ الإجابة عن سؤال لم يطرح بعد، بل هو كامن في نفس الشاعر، لكن رحلة البحث واجبة للإجابة عن شبه أسئلة، أو تكوين أسئلة لأجوبة مفترضة. فما ماهية السؤال المفترض طرحه لديوان علي النوباني؟ تقدم لنا قصيدة (الشوك جميل أيضا) جوابا لسؤال كامن مفترض، يتنفسه الشاعر بأشواكه، وخذلانه، وكل وجه يستعيره لحالة تقدم جوابا لسؤال مفترض لا يطرحه الشاعر، بل يلعب معنا لعبة الإيهام بأنه طرح سؤالا يمكن الإجابة عليه. كلما عدمنا السؤال وجب علينا أن نعيد تشكيله وطرحه حتى يتناسب مع جواب ليس منفصلا عن عنوان القصيدة، ويمثل في القصيدة خاتمة من المفترض أن تجيب على سؤال، لنجد الجواب على سؤال نفترضه نسأل فيه: ما الذي سيعرفه؟ سيعرف ما لم يتخيل؟ وما الذي لم يتخيله يوما؟ فالذي لم يتخيله أن الشوك جميل أيضا، لنسأل أيضا: إضافة إلى ماذا؟ فلا نجد جوابا، لجواب حاضر في قوله (ص 5): «أيّاً كانَ الدربُ/ سأعرفُ ما لمْ أتخيل يوماً/ فالشوك جميل أيضاً». من أساليب التخييل اقحام القارئ في سؤال يفترضه جوابا، فتفضي الأجوبة إلى أسئلة صغيرة، لا تشكل سؤالا كليا لإجابه كبرى، وهذا التخييل الفني هو جزء من لعبة الإيهام الذي يقوم على شيء يبدو عاديا، فيشتت الانتباه، وعندما يعود للعادي تجده مدهشا حقا، فلا أنت فهمت الإجابة، ولا استطعت طرح سؤال يعبر عن فحوى الجواب البسيط في كلماته، وأسلوب تعبيره، ورقة تراكيبه، لتعرف أن السؤال عسير وأصعب مما يتصور القارى، فهل هذا السهل الممتنع؟ وهل تحتوي القصيدة على أسئلة ظاهرة؟ ليس السؤال مضمرا، فالديوان في قصيدة (الكاهن والقصيدة) يحتوي ثلاثة أسئلة وهي: السؤال الأول: «كم داعبَ صمتي وجهُكَ/ يا ترحالي الظامئَ/ يا وجهاً أبدياً مسكوناً بالعبراتْ» المتحدث في هذه السطور الشعرية هو الكاهن الباحث في ظمئ ترحاله حين يخاطب وجها أبديا مسكونا بالعبرات، فهل يخاطب الكاهن ذاتا زائلة، أم أبدية تستطيع الإجابة عن سؤاله بواسع العلم الغيبي، فالكاهن يؤمن بالغيب كما يؤمن بالوجود، فما جدوى الكاهن دون ثنائية الغيب والوجود؟ والأصح ما جدوى إيمان الكاهن إن فقد أحد أداتي الإيمان؟ حتما سيخرج من ملكوته الإيماني إلى مساحات فلسفية فكرية تحكم وتؤمن بالعقل إلى عقل ناقد للواقع والوجود، أو ناقدا للغيب حينها سيخسر قيمته الكهونوتية الدينية خارجا من إيمان وربما يقع في الشرك والإلحاد. فهل يمكن لهذا الصمت التأملي أن يبتعد عن ذات أبدية قادرة إلى ذوات مسكونة بالعبرات والخوف والقلق، وكأن الشاعر يحمل الكاهن على سؤال صمت عنه طويلا، ربما خوفا من إجابة تخرجه من تلك الطمأنينة الروحية إلى شقاء الأسئلة الوجودية، فالشاعر علي النوباني والكاهن كلاهما على يقين أن الإجابة على هذه الأسئلة الكامنة هي إجابة عسيرة النتائج. السؤال الثاني والثالث: «كيفَ يُغني؟/ كيف يُرَتِل بعض نشيدٍ؟/ ولسانُ الصبحِ مليءٌ باللَكَناتْ» أما السؤالان التاليان عن آلية الغناء والترتيل فهما سؤالان ماكران، فالسائل مضمر قد يكون هو أو هي أو قد يكون الشاعر الذي يسأل عن حال الكاهن الذي يغني ويرتل في فوضى الوجود، والشك بالغيب، ليكون الشاعر معادلا موضوعيا للكاهن المؤمن المطمئن، فالشاعر قلق من حقيقة هذا الوجود الذي يمكن أن يكون حلما أو وهما وخرافة، فكيف له أن يتعرف على ما لا تدركه الحواس وهو الشاك بوجوده وحواسه، فيراوغه الإيمان الذي يعيش الكاهن لتخلق القصيدة نموذجين يتحاوران في المحسوس والغيبي بين شك الشاعر ويقين الكاهن المطمئن وهو يرتل ويغني، فيقول الشاعر في خاتمة القصيدة:
«نامَ الكاهنُ/ كانتْ كلماتٌ أخرى تسبحُ في الفوضى/ تترنحُ مثل صبيٍ متعوسٍ/ أدركهُ الليلُ/ ولم يقطف من مس الظهر سوى الحسراتْ» جاءت خاتمة القصيدة بإجابة مضطربة بالفوضى والحسرات لأسئلة الكاهن، يساورني الشك بوجود كاهن لكن الشاعر والقصيدة موجودان بحكم التلازم، فلزوم القصيدة شاعر، ولزوم الشاعر قصيدة، فهل يكون الكاهن قناعا يلبسه الشاعر ليحاور نفسه، فالشاعر المتأمل شاعر روحاني يبحث بهدوء عن حقيقة الوجود فيصحو الشاعر بقلقه وينام الكاهن بطمأنينة رغم الفوضى.
الأسئلة الظنية وجواب محدد: تحمل قصيدة (حكاية الأيام) سبعة أسئلة ظنية تفيد الشك أو عدم اليقين، كما تفيد الشك بمطلق الشك واللايقين، وقد استعمل الشاعر كأن أحد أخوات إن في سبعة مواضع في قصيدته العمودية استهل الأبيات بأداة كأن التي تدخل على الجملة الاسمية فتنصب الأول ويسمى اسمها وترفع الثاني ويسمى خبرها، وهذا الدخول يخلخل تركيب الجملة الإسمية، مما يشكل فوضى خلاقة يعيشها الشاعر بالظن والشك واللايقين، باحثا بالظن عن إجابة فضفاضة وقد تكون محددة، لكن الشاعر اختار التحديد بعد أن خلخل القناعات عند المتلقي ليصدمه بخاتمة يقينية كلاسيكية عاشها كل من سبقه من الشعراء بقول زهير: ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب، ومنهم من قال عن الشيب غبار السنين، لتكون الإجابة موعضة يقر بها النهاية الحتمية بالمسير إلى الفناء والعدم بقوله في خاتمة القصيدة: «هِي الدنيا مَرافئها ظــلامٌ/ يُضيءُ عَلى أواخِرِهِ المَشـــيبُ» بعد شكوكه المتلاحقة كيف لنا أن نتقبل الجواب الذي صعقنا به بعد رحلة شك لا يأتي جوابها إلا عسيرا، فكيف خلص على النوباني إلى إجابة عجلى لا تعبر عن فكره العامر بالسؤال والشك والتحري والتقصي بقوله في نفس القصيدة: «كَأنَ حـِــــــــــكاية الأيـــــــامِ نارٌ/ تَـأَجَــجُ عندما يأتي الغــُـــــروب/ كَأنَ تميمةَ العُشـاق طوقٌ/ تؤَلِفهُ المواجع والكـروبُ» وقوله: «كأنَ حكاية الأيام ثلـجٌ/ يَذوبُ إذا تَجَمَدت القلوبُ/ كأنَ حكايةَ العشّاق سطرٌ/ تـُمَـرِغُـهُ أوابدُ والسهـوبُ». وقوله: «كأنَ حكايةَ الإنسان سطرٌ/ يَخيطُ حُروفَهُ دمعٌ سَـروبُ/ كأنَ براثنَ الأيامِ وحشٌ/ وبيدَرهُ العواطفُ والقلوبُ/ كأنَ الأرضَ تُنبتنا زهوراً/ فيَحصُدنا التَجَهُم والنَحيبُ».
مصدر : الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 31-01-2020 09:21 مساء
الزوار: 639 التعليقات: 0