عبق اللّغة .. وحديث اللّيل ـ في شعر " رحيمة بلقاس "بقلم : حسن بنعبدالله / تونس
عرار:
عبق اللّغة .. وحديث اللّيل
ـ في شعر " رحيمة بلقاس "
بقلم : حسن بنعبدالله / تونس
شاعرة الكلمة الصادقة والمواقف الوطنية النبيلة, هي الأم الحنونة في منزلها, والتربوية القديرة في المدرسة , هي كاتبة لم تكتف بالشعر بل تداعب القصة القصيرة جداً كذلك وجدانها فتسكب من روح الحرف والموقف أروع القصص, لها إصداران شعريان "عناق سحر الحياة" و"أحلام باكية", تنشر في العديد من الصحف المغربية والعربية, لها عدد من القصص القصيرة جداً التي نشرت في كتاب عربي مشترك "قصص عربية بلا حدود", هي إحدى الفائزات بجائزة غاليري الأدب في شعر الهايكو .. وهي المـتألقة بروحها ومن روحها تُعطي من وجدها وجدّها ومن كبدها للوجود ـ بلا حدود ــ رحيمة بالقاس " الشاعرة " اخترتُ من روائعها ـ من باب الاعتقاد الشامل في ذاتي وفي ذاكرتي " أنها صاحبةُ مشروع وتجربة وفيها من " الامتلاء " و" الامتثال " ما يجبُ على النقّاد تقديمه في شأن مباهج ما تبذله وتمنحه للأدب والحياة :
ناذر أنت أيها الحلم الشارد في تخوم السراب
جسرك يشرينني في دروب الغياب
ويبرعمني باقة جمر
تتلألأ حمرتها في مقلتيك
تحت ظلة مواجعي
تورق الأنامل.. تمسح عن ذاكرتي
نفحة نسيان
فتضيء شمسك الحارقة رحم العمر المهزوم
كيف يولد من جديد ذاك البريق الجارف
لتحترق مدني الباردة
بحضورك يلبس المدى عيني
ويسربلني شفاها
تلثم وجنتي الفجر الآتي من عينيك
إن اللغة الشعرية هي هوية الإبداع الشعري، وهي العلامة الدالة على انتمائه إلى دائرة الشعر... ولهذا وضع النقاد القدامى شروطا محددة للكلام الشعري بحيث ليس الكلام كله يكون صالحا لينتمي إلى هذا الفن... بل لابد أن يتحرى الشاعر كثيرا في تعامله مع اللغة، حتى لا ينجرف مع لغات أخرى تبعد عمله من صفة الشعرولهذا طالب النقاد باختيار الألفاظ وانتقائها حتى تتميز لغة الشعر عن غيرها من اللغات المستعملة في العلوم والصنائع وكلام العامة ... " فحين نتحدث عن اللغة في الشعر والأدب عامة نقصد اللغة في خصائصها الفنية التي من شأنها أن تثيرها بتعمق مدلولاتها، وتنظيم سياق ألفاظها وجملها بما يوسع نطاقاتها الصوتية والإيحائية، ويجدد قرائنها ويغني مجالاتها التعبيرية ... وعلى هذا الاعتبار، لا يمكن أن تكون كل لغة مادة صالحة للشعر، " لأن لغة الشعر متميزة وذات خصوصية، لأنها لغة إيحاءات، إنها تقف على نقيض اللغة العادية أو لغة العلم التي هي لغة تحديدات ولغة الإيضاح ...
والذي يجعل لغة الشعر تتميز عن غيرها، أنها أكثر من وعاء لحمل المعاني، وأكثر من وسيلة للتعبير عن الأفكار بحيث تتحول إلى مقصد أساسي في الخطاب الشعري، وإلى هدف مركزي في العملية الإبداعية. "إنها ليست وسيلة لأداء شيء ما، وإنما هي الغاية في حد ذاتها... فالشاعر يبحث عن المعنى، وحيث يعثر عليه، يبنيه بناء شعريا من خلال اللغة ...وترتبط اللغة الشعرية بثقافة الشاعر وبمرجعياته الفكرية وبكل العوامل الذاتية والموضوعية التي تساهم في تجاربه الشعرية... فهي ترجمان لتصوراته وحساسياته، كما أنها صورة معبرة عن انشغالاته وهمومه الفكرية والنفسية والاجتماعية... والشاعر دائم الاختيار والانتقاء بين الألفاظ سعيا وراء ما يمكن أن يخدم مقصديته، ويقدم صورة تقريبية لما يعتمل في ذهنه وأعماقه ... وهكذا تأتي اللغة الشعرية منسجمة مع السياق النفسي ومع التجربة الداخلية للمبدع ... كما أنها تأتي منسجمة مع السياق الثقافي العام، ومع الاختيارات الفنية والجمالية التي أقرها المجتمع الأدبي، واستساغها الذوق الفني السائد ... لأن الشاعر يبقى دائما ابنا وفيا لبيئته، ولسانا صادقا حاملا لرؤية المجتمع الثقافي الذي ينتمي إليه ... وفي هذا السياق نجد الأديبة الشاعرة رحيمة بلقاس منخرطة تماما في هذا السياق وهذا التوجه العام الذي حدّد ه النقاد فهي مع اللغة من خلال اختياراتها الصائبة والهادفة للألفاظ والجمل مؤكدة قاموسها الشعري وملتزمة بالقيمة عندما تباشر نحت القصيدة فإذا بها لوحات تعبيرية مكتنزة جدا بالصور والمعاني والدلالات وقد وقفت على هذه الحقيقة من خلال قراءتي لما تنشره يوميا في صفحتها الرسمية وما تتلقّاه من جمل متفاعلة خاصة عندما يكون أصحابها من العارفين المختصين ــ وهي حريصة حرصا خصوصيا على عدم السقوط في التكرار أو النزول عن المستوى الذي التزمت به مع نفسها أولا ومع المتلقي في هذا الفضاء المفتوح والواسع ــ تصل أفكارها من بيئتها ومن وطنها المغرب إلى كلّ العالم فتزداد ثقتها بمنتوجها وتجد الأواصر والأرواح التي تستقبل هذه القصائد القصيرة التي تختزل الكثير وتقول بأكثر شفافية ووضوح عن المشاغل اليومية التي تعيشها شاعرتنا مع ذاتها ومع محيطها ومع الطبيعة تقول :
2 ـ
مثقلة عيون الليل بالأرق
ترعى الحلم في جفون القمر
يا حادي النجوم
ارسل شعاعا
لترسو على ضفاف الأمل
سفينة تمزقت أشرعتها
كسرى تبتهل جرعة وسن
........
3 ـ
يا ليل
لا تسدل سدوفك المعتمة
لعينك أبسط ديباج المدى
وعلى ثغرك ورود الندى
فابتسم يا ليل
فالظلام راحل الى غير هدى
فاللّيل وهو من الطبيعة نجده موثقا تماما في أغلب القصائد التي تبثّها الشاعرة رحيمة بلقاس مدللة على كونه مصدرا رئيسيا يعود تأثيره المباشر على مشاعرها ومخزونها اللغوي فتخرج العبارات متوهجة بالظلام وبالسكون وبالعلاقة ... علاقة التناسب البنيات النصية و قيمة الليل ومكانته لدى الشاعرة، وهي بذلكتُخلخل الثوابت الشعرية العربية القديمة، إذ كان الليل علامة كونية تحيل على الحزن والخوف واللامنجى وبه تشبه الهموم والبلاوي والمصائب، وقد يُقرن طوله بالإحساس النفسي الذي كان يُراود الشاعر وهو ينتظر النهار بصبر طويل ... ولعل أول ما يستدعي الإضاءة في هذه الفرضية هو الأشعار التي قيلت في الليل... يقول النابغة الذبياني :
كليني لهم ياأميمة ناصب
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
ويقول امرؤ القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنـواع الهـموم ليبتلي
قرن النابغة الليل بالقسوة والامتداد، وشبه امرؤ القيس ظلام الليل في هوله ونكارة أمره بأمواج البحر... إن قراءة البيتين في موضوع الليل يُمكننا من رصد الحكم التالي: علاقة الشعر بالليل وصراعهما مع خيبة الأمل والخيبة هنا بوصفها موضوعا مقترنا بتصدعات الواقع من جهة وانتظارات الشاعر من جهة أخرى ... في حين ترى الشاعرة رحيمة بلقاس عكس ذلك فتنير الليل بما يتوهّج فيه ومن خلاله من أفكار واستعارات ضوئية وأحكام فتقول
ـ فابتسم يا ليل
فالظلام راحل الى غير هدى ...
ومع امتداد الليل نجدها في خلوتها العميقة تخاطب حادي النجوم داعية
أن يرسل الشعار لاقامة الأمل وتوسيع الأفق :
مثقلة عيون الليل بالأرق
ترعى الحلم في جفون القمر
يا حادي النجوم
ارسل شعاعا
لترسو على ضفاف الأمل
سفينة تمزقت أشرعتها
كسرى تبتهل جرعة وسن
رغم الانكسارات التي تفضحها كلماتها ورغم الانتكاسات التي نجدها مسجلة في أغلب النصوص وهي بهذا التراكم تحيل مباشرة إلى روح متعبة وقلب مفعم بالأوجاع والحزن وتكتب من خلالهما من الوعي وللوعي تقول
أتأملني من خارج الذات
أبكي من فرط الأسى
لمَ انفضَّ من حولي فرحي
وشدّني دمعي الفيّاض إلى قعر الألم
ونحن نعلم قيمتها في مجتمعها بوصفها أستاذة وسيّدة مجتمع بامتياز ولها حضورها الباهر في عديد المناسبات الأدبية والفكرية وقد كانت نجمة الامتياز معنا في احتفالية اتحاد الأدباء الدولي في تونس سنة 2017 وقد كلّفت ضمن الهيأة التأسيسية لفرع المغرب الشقيق ـ مستشارة مكلفة بالتواصل ولها قيامها الشعري في عمق الليل من خلال القصائد الكثيرة التي رصدتها وقدّمت بعضها وفي قصائد أخرى نجد مضامين متنوعة أهمها مسحة الحزن والأسى ولكل مضمون عالمه وأسراره في حياة الشاعرة رحيمة بلقاس وربما يكون للنقد دوره في اكتشاف هذه الملامح وتأطيرها وتثبيتها في دراسات علمية أوسع وأشمل ـ وهي جديرة بكل الجهود وكل الأبحاث وتقديمها قيمة ابداعية عربية وعالمية لاعتمادها لغة راقية للتبليغ وتخريجها من أعماقها جملا ذات عمق ومعنى تقول :