الناقد محمد المشايخ شهدت المملكة في العقود الماضية، أدباء تخصصوا في الكتابة عن مدنهم، منهم: حسني فريز الذي تخصص بالكتابة عن السلط، وبدر عبد الحق الذي تخصص بالكتابة عن الزرقاء، ومحمد داودية وعصام الموسى وسمير اسحاق الذين تخصصوا بالكتابة عن المفرق، وغالب هلسا الذي تخصص بالكتابة عن مادبا، ونايف النوايسة، وأحمد الطراونة، ومحمد غالب المدادحة، وسليمان الطراونة، وحكمت النوايسة، الذين تخصصوا بالكتابة عن الكرك. وأخيرا صدرت رواية الأديب عبد الهادي المدادحة (كرك موبا: رسائل المدينة) عن دار الآن ناشرون، لتقفز بكرك الحاضر باعتبارها مدينة، إلى ماضيها حين كانت مملكة (مملكة الكرك، ومملكة مؤاب) التي تمتد من سيل الحساء جنوبا إلى سيل الزرقاء شمالا، ولتشعرنا أنه سيكون لهذه الرواية أصداء كالتي أحدثها رسول حمزاتوف حين كتب(داغستان بلدي). في رواية المدادحة، يعيد القراء اكتشاف الكرك باعتبارها مفتاح القدس وبوابتها، بل سيدة المدن، وسيدة الحضارة،وذات الأهمية الدينية، والإستراتيجية، والجغرافية، والسياسية، الكرك التي تكسّرت وتحطمت على قلعتها أطماع غزاة الغرب والشرق، بعد أن قدّمت الشهداء،واستحالت عشائرها وشخصياتها(المسلمة والمسيحية)إلى رموز للمقاومة، فتركت في سفر الوطن العربي النموذج الأروع لمدينة القومية العربية، ومدينة الوحدة الوطنية، المدينة التي تتوحد فيها الأديان، ويسود فيها التعايش والتسامح والوئام الطبيعي، قبل قراءة ما يحث عليه القرآن، وما يدعو إليه الإنجيل. وتقدم هذه الرواية نماذج من الأحداث التي تؤكد على عظمة شيوخ عشائر الكرك وزعمائها، وأنفتهم وعزتهم ونخوتهم كلما تعلق الأمر بأرضهم أو بكرامتهم، أو بكرامة أي من أبناء الكرك، وظل شيوخ الكرك يفتدونها بأرواحهم، ويحمون الدخيل عليهم ولو بأبنائهم، أما العشائر نفسها، فكانت في قمة الوعي والنضج الوطني، وكانت تشارك في كل الأحداث العسكرية التي وقعت أيام ميشع والأنباط والرومان والبيزنطيين والمماليك والعثمانيين، وما حدث لـ»أرناط» وحده أيام الحروب الصليبية، يقدم درسا لكل من فكر أي يمسّ الكرك أو يستفز أبناءها. تتلخص هذه الرواية في قصة الحب العظيمة التي جمعت بين (قمر) المسيحية، و(مصباح) المسلم عام1879، وتأثير تلك القصة على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهجرة عائلات من الكرك لمادبا على إثرها..وحين أراد المدادحة في روايته تحويل تلك القصة إلى فيلم، حدثت قصة حب جديدة بين المشاركين فيه: (صخر)المسلم، وأنجيلا (المسيحية)، ورغم إشادة الروائي بالكرك ورجالها ونسائها، ورغم انه قدمها كنموذج على التعايش الذي لن يتكرر في غيرها، إلا أنه هنا ينتقد جميع من عاشوا عام 1879 لأنهم فشلوا في إيصال الحبيب إلى حبيبته بالحلال، مخالفين بذلك دينهم، وربهم الذي يدعو إلى المحبة. وانتهز الروائي قصة الحب هذه، ليوضح الأطماع الأجنبية بالكرك، والتي لم تتوقف منذ فجر التاريخ وحتى الآن، بدليل أن أحدهم أحضر قطعة فخارية عليها أحرف عبرية ليدفنها بين آثار المدينة، وفيما بعد يتم استخراجها للتأكيد على الوجود المزيف للصهاينة في المدينة. على الصعيد الجمالي، كانت البطولة في هذه الرواية للمكان، لمدينة الكرك، أكثر مما كانت لأي من شخصياتها، واعتمد الروائي فيها على أسلوب الرسائل، والوثائق، ووجهات نظر الشخصيات، بل كتب متوالية قصصية، وكتب قصة داخل قصة، واتكأ على التاريخ، ومر ذلك الاتكاء بسلام، لأنه تجاوز التسجيلية، ولم يورد أحداثه كما هي، بل أعاد صياغتها فنيا، بل كان المدادحة نجم الصياغة، ونجم التشويق والجاذبية ، لكثر ما اثـّر في قرائه، بل تسبب لهم بالبكاء في بعض المواقف. يستحق الروائي عبد الهادي المدادحة، تسمية شارع في الكرك باسمه، مثلما يستحق أن يكون وزيرا للثقافة، أو مستشارا ثقافيا في الديوان الملكي العامر، أو في رئاسة الوزراء، بالإضافة للطلب من وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي، اعتماد روايته في مكتبات المدارس والجامعات كمرجع للطلبة، فهو أول من صاغ فنيا تاريخ الكرك كما دونه العرب، ولم يعتمد ما كتبه الأوروبيون عنها وعن تاريخها، كما يفعل العالم المعاصر، وهو الذي أكد أن المحبة في الكرك ستستمر، بل ستنشر المحبة في كل محافظات المملكة، وستتوارثها الأجيال، من خلال جمعه في مدرسة اللاتين في الزرقاء، بين قمر المعشوقة، وبين قمر حفيدة حبيبها مصباح. لا أعتقد أن تكريم المدادحة بدرع أو وسام يوفيه حقه، فما قدمه للمملكة وهي تحتفل بمئويتها، وما قدمه للكرك التي زحف سكانها لقلعتها (حين وطأها الدواعش)، وهم يهتفون: الكرك لينا وحقها علينا، يستحق من كبار المعنيين في الأردن ونهضته وازدهاره وضعه في أثناء حياته المديدة، في المكانة التي يستحقها، وتكريمه بما يليق به وبإبداعه.