|
عرار:
ابراهيم خليل بعْدَ دواوينه «احتفال الشبابيك بالعاصفة» 1993 و»غبار الشخص» 1997 و»الطفل إذ يمضي» 2006 و»رأس الشاعر» 2013 تصدر للشاعر عمر شبانة مجموعة جديدة بعنوان «حديقة بجناحين» (كتاب الرافد، الشارقة، ط1، 2018) أما الحديقة، فهي مزيج من موقعين: أولهما فلسطين، بما تعنيه. والآخر سورية، بما تعنيه هي الأخرى لدى الشاعر، والقارئ، على السواء. وفي هذا المقال نقفُ عند الجناح الأول من جناحي هذا الطائر المحلق في فضاءات شعرية جديدة، على أن نرجئ النظر في الجناح الثاني لفرصة أخرى. كان محمود درويش (1941- 2008) قد كتب قصيدة في ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» في الراحل إدوارد سعيد (1935- 2003) أحد المبدعين الفلسطينيين في مجالات كثيرة: كالنقد، والنقد الثقافي، والأدب المقارن، والسيرة(بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، ط2، 2005 ص 177). ومن يقرأ القصيدة الأولى لعمر شبانة، في هذا الديوان، يتَّضح له حجم التراسُل الذهني، والنفسي، والدلالي، بين القصيدة موضوع الحديث، وقصيدة درويش المذكورة. ولا جرَمَ أنّ شبانة قد عايش هذه التجربة، فنبه على شيءٍ من هذا في الاستهلال بقوله « كُتبتْ هذه القصيدة في الذكرى الأولى لرحيل درويش 2009.» وقيمة هذه الحاشية تنْحَصرُ في تحديدها لتاريخ كتابةِ القصيدة. أما ما عدا ذلك، وما دونه، فهو مما يستنتجه القارئ، ويسْتَشِفُّه، دون أن يحتاج لهذا الإيضاح. ففي الحوار الذي يبتدئ به الشاعر شبانه قصيدته، يتّضح أنه يتذكر فيها الراحل الكبير، مقتبسًا من قصيدته الأخيرة ما يؤكــّد ذلك: كنتُ أسألهُ عن نهاياتِ هذا الألمْ فيقولُ: من أنا لأخيّبَ ظنَّ العَدَمْ فهذه إشارةٌ أوضح من أنْ تخفى على قارئ لشعر درويش، متابع لعطائه المتألق، مؤكــّدة علاقة هذه القصيدة مباشرةً بقصائده، ولا سيما بقصيدته «لاعبُ النرْد». ولا يفتأ الشاعر يتجاوز ذلك لاستعادة شيء من سيرة درويش، مثلما استعاد درويش في قصيدته (طباق) شيئًا من سيرة إدوارد سعيد، ولا يفتأ يتحدّث إليه، ويحاورُه، تمامًا مثلما تحدث درويش لهذا الأخير وحاورهُ. فها هو ذا يروي لنا في المقطع الأول من القصيدة ما يُعد، بصورةٍ من الصُوَر، ومضاتٍ مضيئةً من حياة الراحل الكبير: منذ ستين عامًا عصافيرهُ في الجليلْ بلا أجْنِحة وهذه الإشارة لمجموعة درويش الأولى «عصافير بلا أجنحة» لا تعني أنّ الشاعرَ يسردُ لنا سيرة درويش سردًا. فهو يتواثبُ في القصيدة من لحظة لأخرى، كأنما هو يمتطي موْجة تضطَّرب به صعودًا وهبوطا في مدٍّ تارةً، وجزْر تارةً، فإذا هو – مثلا- يقفنا على أبواب اللحظات الأخيرة، مشيرًا بقليل من الكلمات لمعاناة الشاعر درويش: بعد ستين كأسًا تجرَّعها بين سجْنٍ ومنْفى ترجَّل في خفَّةٍ مثلما يترجَّل فُرسانُ ملحمةٍ يذهبونَ إلى الموتِ كيْ لا يباغتَهم موْتُهم نائمين فالقصيدةُ لا تفتأ تفتح قوسًا، وتُغلق قوسًا، بين مقطع وآخر، جاعلةً من حياة درويش، وذكراه، رقعة رقْشٍ عربية تتكرر فيها لحظاتُ التجلي، وومضات التألق، والتحلّي، في سيرة الشاعر: ظلّ يرفع مملكة الشعرِ في وطن الأنبياءْ ويرفع مملكة العِشْقِ في وطن العاشقينْ ومن أجلِ أنْ تتجانس لحظاتُ التجلي، وتتواتر وَمضاتُ التحلّي، يعود الشاعر شبانة بنا بين مقطع وآخر لبعض أشعار محمود درويش. فهو يُذكــِّـرنا بقهوة أمه، وبأثر الفراشة، وبالسنابل التي تمحو صوَرَ القَتَلة، وبلاعب النرْد، وبديوانه الأخير الذي صدَرَ بُعيْد وفاته «لا أريد لهذي القصيدةِ أنْ تنتهي». فمن هو الشاعرُ الذي يستطيع أن يتابعَ هذا العطاءَ الجزْلَ المتين، وهو لا يملكُ – في رأي شبانة- مواهب درويش، وقُدُراتِه: فمن يجرؤ الآنَ أنْ يُكمل النصَّ أوْ يُغلقَ القافيهْ؟ فدرويش، في رأي شاعرنا، لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يملأ الفراغ الذي تركَهُ برحيلهِ الفاجع، ولا أنْ يواصل مهمَّة صعبة نهَض بها نُهوضَ مَنْ لا يبالي بأيّ مثبِّطات تضعف العزيمة، أو تفلّ الإرادة، فالحديد لا يفله شيءٌ سوى الحديد: أراهُ على عرْش أشْعارهِ في سماءِ الزمنْ في خزائنهِ ذكرياتُ الدُهور، أرى ذكرياتِ الوَطنْ ولا ريبَ في أنَّ مثل هذا الحوار يتطلَّبُ اطّرادَ الأسئلة، وتناسُل الإجابات، واحدةً من أخرى، وهذا يذكــّـرنا بصورة أوضح مما سبق بقصيدة «طباق « لدرويش، التي نسَج عمر شبانة على منوالها في أداءٍ اضطرّهُ إليه الموقِفُ، فدرويش يقول في طباق: (كلانا يقول كلامًا، إذا كان ما ضيك تجربةً ، فاجعل الغدَ معنىً، ورؤيا... وإنْ متُّ قبلك؟ قال: أعزي جبال الجليل) إلخ... ويقول شبانة على لسان درويش، مثلما يقول درويشُ على لسان إدوارد سعيد في طباق: رغم ذاكَ.. أنا لم أقلْ ما أريد لم أقلْ قِصّتي لم أقلْ رحلتي لم أقلْ غيرَ بيتٍ صغير عن الأمّ قلتُ الكثير عن الموتِ لكنني لم أقلْ غير بيتٍ قصير عن الحبّ غير بعْض الذي كنتُ أحْلُم في قوْلهِ غير بيتٍ صغيرٍ عن الملحمهْ تطَّرد في القصيدة عباراتٌ، مثل: لم أقلْ، وتذكرته، و قلتُ له، أو كنتُ معه، التقيتُه، كنتُ أتبعه، قال لي مرَّةً، وهو في بعض هذا الحوار يجدِّدُ فتح الأقواس، متنقلا من تضمين لاقتباس، ومن اقتباسٍ لتضمين: ماذا سأكتبُ بعد امرئ القيس بعد المعرّي، ولوركا ومجنون إلزا قالَ لي مرةً ما الذي سوفَ أكتبه في الرواية حين أعودُ إلى سيرتي هل سأكتبُ سخْريَّة المتشائلِ أمْ عائدًا لا يعودُ إلى أرض حيفا* بهذه الإشارات المقتضبة لبعض الإبداعات الأدبيّة، والدُرَر: المتشائل، عائد إلى حيفا، الجدارية، لماذا تركتَ الحصان وحيدًا، كزهر اللوز أو أبعد، أثر الفراشة، في حضرة الغياب، في مقطع واحدٍ مكثَّفٍ من مقاطع القصيدة،كأنَّ الشاعر شبانه يجد نفسه مضطرًا للتفاصيل، مدفوعا لتجنّب الإيجاز. ساعدهُ على ذلك إيقاع القصيدة الذي اعتمد فيه تفعيلة المتدارك (فاعلن) وصُوَرها المتعددة (فَعِلُن، وفاعِلُ، و فَعْلُن)، فجاء هذا الوزن باقترابه من النثر ليُفْسحَ للشاعر ما يحتاج إليه من هوامشَ مرنةٍ، ومتَّسعةٍ، لاستيعاب التفصيلات، والصور المتراكمة، والاقتباسات المتزايدة. فضلا عن أنه بهذا التوسُّع سمح للقصيدة أن تتحول بيُسرٍ من الغنائي إلى السرْدي، وهذا يسمَحُ باطّراد الأزمنة بعضِها تلوَ بعْضِ: كان سرحانُ يأتي ويشربُ قهوته معنا في المقاهي القريبة من حرَم الجامعة يجلسُ منتظرًا قهوةً من قصائدَ تهفو إلى الأمَّهاتِ في هذه الوحْدة السردية يضمِّنُ الشاعر، ويقتبسُ، بعض ما يقوله درويش في قصيدة «سرحان يشربُ القهوة في الكافتيريا». والقصيدةُ معروفة لدى جمْهرة المتابعين الملمّين بشعر درويش، وبإشارته لسرحان والقهوة يستحضر القصيدة، ويستحضرُ بها الكثير من الدلالات المرتبطة بالأمّ تارة، وبالبيت، والبلدة، وبالذكريات. وهي إشارةٌ تستدعي حكايته في « أحنُّ إلى خبز أمي « و « قهوة أمي «. ومثل هذا، ونحوهُ، ذلك الذي يرتبط بأحمد الزعتر، وقصيدته. وبالفينيق، وانبعاثه من رماده. ومهما يَكُنِ الأمر، فإنّ قصيدة عمر شبانة هذه تتجاوز الرثاءَ، والتأبين، وبكائيات الراحلين التي درَج عليها الشعراء عادةً، تجاوُزَ مَنْ يعبّر تعبيرًا دقيقًا وجماليًا عن وقْع فقْداننا لدرويش، من حيثُ هو شاعرٌ كبيرٌ ترك بصمته على الشعر العربي، والعالمي، الحديث، وهو مع ذلك لم يمتْ، إنما بدأ طريقا جديدًا للحياة عبر تأثيره الذي نفذ في الجميع، حاضرًا، ومستقبلا، من خلال الأجيال الصاعدة. لذا يختتم الشاعر قصيدته هذه بالقول على لسان الشاعر الراحل مثلما تخيَّله: MSISDN: 962779816057 عصفتْ بي دروبُ الحياةِ وما عادَ لي وطنٌ يحتوي قلقي ففتحتُ الطريقَ لأنْهي نهاياتِهِ وبدأتُ طريقَ الحياة تلكَ هي الخاتمة التي يختتمُ بها الشاعر قصيدةً تقفُ بنا إزاءَ محطاتٍ، ووَمَضاتٍ، من سيرة الشاعر الراحل وشعْرهِ، وما يتخللها من لفتاتٍ لأبرز إنجازاته، المنشورة منها، وغير المنشورة، نعني تلك التي تتجلّى في حرصهِ على بقاء صوتهِ مدويًا، وعاليًا، في أصوات الآخرين من الموهوبين القادرين على مواصلة القصيدة، وتمريرها من جيل لآخر، ومن عصر إلى عصر، ومن وطن للعشّاق إلى وطن آخر للعشاق القادمين، كي تحتفظ له ببقائه الأبديّ، وديمومته الخالدة. فالشاعر الحقيقيّ لا ينبغي له أنْ ينتهى، أوْ يُنسى. * إشارة للشاعر الجاهلي صاحب المعلقة المشهورة قفا نبك، والمعري (363 - 449 هـ) صاحب رسالة الغفران، ولوركا ( 1898 - 1936) شاعر إسباني مؤلف مسرحية عرس الدم، ومجنون إلزا: لويس أراغون(1897- 1982) والإشارة لديوانه عيون إلزا. وعائد إلى حيفا رواية غسان كنفاني(1936- 1972) المشهورة، والمتشائل إشارة لرواية إميل حبيبي(1921- 1996) «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 29-01-2022 10:05 مساء
الزوار: 1190 التعليقات: 0
|