|
عرار:
خالدي وليد/ الجزائر رواية «النزيلة» للكاتب الأردني محمود اليوسف، عمل سردي ترتحل في ملفوظاته طولا وعرضا الأحلام والأماني المترامية الأطراف، التي تحملها بطلة الرواية نورسين على كاهلها، من أجل كسر رتابة الحياة كي تبعث الكينونة من الرماد مجددا، ولا مناص في أن وجع الانتظار عكس تلك الطاقة الحيوية في بعث الحياة والأمل للآخر، كجرعة تروم من خلالها الإمساك بذاك القدر المجهول، ولا ريب في أنها خطوة تفصح عن حاجة المرء في اعتلاء قارب النجاة المنقذ من أسر الضياع والتشظي والاستلاب، بقدر ما هو استيعاب للتحولات الطارئة في لحظتها الراهنة، إذ تواكبها تغيرات جوهرية على مستوى القيم التي تشغل حيزا واسعا، مبرزة في مضامينها أدوارا تتراوح بين السلب والإيجاب، والانسجام والتناقض، والتطابق والانفصال، وهي رواية تقع في 282 صفحة من القطع المتوسط، صادرة عن (الآن ناشرون وموزعون في عمان/ الأردن)، 2020م في طبعتها الأولى. 1- انشطار الكينونة / سمفونية الأمل: فالذات بما تعيشه من انشطارات داخل ردهات الواقع المعيش، فإنها في المقابل نجدها ذاتا متفردة ومميزة، وبعبارة أخرى، ذات روح رومانسية حالمة ومرنة، محبة للحياة إلى درجة تأبى الجمود والانكفاء، وهو ما يفرز حالة من حالات التفاؤل والطموح على الرغم من الضغوطات التي تقف كعائق وجودي في طريقها، أي أن التفكك والتشظي المتغلغل في أحشاء الكينونة يتحول إلى نور صادح لصالح بنى جديدة في ملامسته للآخر، نستشف ذلك عبر الفطرة السليمة المحبة لفعل الخير، من خلال التفاني في العمل المساعد للآخرين، فتصبح الذات كالشمعة التي تحرق نفسها كي تضيء ليل الحياة، الذي يطفئ جمرة الانتظار، لمن هم أهل لذلك أو حتى في حق أولئك الجاحدين الناكرين للجميل، بوصفه شكلا من أشكال النضال الذي يحيل إلى الجانب الأخلاقي، إذ يحقق للذات مكانتها المرموقة داخل نسيج العلاقات الاجتماعية، ما يسمح للكينونة في إبراز الانسجام الإيجابي المتمثل في زرع الثقة في نفسها، يليق بمقامها الاجتماعي والأخلاقي، ويستجيب بشكل جوهري إلى التطلعات الإنسانية في شكلها الحالي، أي الصراع من أجل الاعتراف بتعبير الفيلسوف الألماني أكسيل هونيت Axel Honneth، وعلى وجه التحديد، ينبثق مفهوم الصراع من أجل الاعتراف الذي يدور حول ما ننتظره وما نتوقعه ونتطلع إليه من قيم ومعايير ذات طبيعة أخلاقية.. وذلك من أجل أفق يعمل على توفير الظروف الاجتماعية المناسبة لقيام علاقة إيجابية مع الذات ومع الآخرين كما ذهب إلى ذلك الزواوي بغورة. وفي ضوء ما تقدم، جاءت هذه الأصداء والإشارات في العديد من الصفحات، وهو ما يعكسه بوضوح عودة الحرب التي كانت مدعاة في ارتحال الغريب مينهارد الذي تعلقت به نورسين بطلة الرواية، فقد أقام في نفس المنطقة التي تسكنها، وكان عاملا يدويا داخل متجر ورثه من عمه، ملما بأعمال النجارة، وهو الذي لم يمض في البلدة على مكوثه سوى شهر، فكان كل أملها أن تنساه الحرب، فجهزت نفسها للرحيل بمغادرة المكان، وقد لملمت شتاتها وأنفاسها المتقطعة حاملة معها شهادتها، التي من خلالها تستطيع القيام بعملها كمسعفة في حالات الطوارئ أو الحروب، وقررت الذهاب واللحاق به، وهي تحمل هدفا جديدا لحياتها، فتوجهت مباشرة إلى مركز التجنيد والمساعدات، لعلها تظفر به ليتجدد اللقاء بينهما، ولما وصلت عند أحد الأطباء المسؤولين، وجدها كما قال السارد « أجمل من أن تحرق في حرب عشوائية، قال: لا نقدم أي مساعدات مادية، قالت بتنهيدة: هه.. لا أريد مالا، أريد فقط ما ضاع مني، وافق على طلب انضمامها، محتارا ماذا أضاعت تلك الجميلة في غبار الحرب، لم يكن يعلم ما كانت تفكر به. أول يوم في القتال ارتدت ذلك المعطف الأبيض». وينمو هذا المعنى، ويزداد إيضاحا، حينما نتأكد من أن الروائي محمود اليوسف لم يوظف اسم نورسين اعتباطا، ملقى في جسد النص الإبداعي بدون دلالات، بل أقحمه وهو يشع بالمعاني التي نتلقفها هنا وهناك، والعلامة الفارقة في هذا السياق، أن للاسم سحره الخاص الذي يكون له مدلول متباين مع نظيره من الأسماء الأخرى، إذ يجعله يتصف ببعض الصفات، التي يكون لها نصيب أكبر من شخصيته، أو صاحبه الحامل له، فاسم نورسين كما هو متعارف عليه يدل على ضوء القمر أو زهرة برية نادرة، وفي الغالب أن صاحب هذا الاسم يحب الوقوف إلى جانب الآخرين، والمثابرة في الوصول إلى أعلى المستويات، فضلا عن ذلك، يتمتع بشخصية قوية، طموحة، إيجابية، حنونة، عطوفة، يسكنها النقاء الداخلي المغلف بطيبة القلب، وهذا ما يلمسه القارئ طيلة مسار الحكي، بأحداثه المتشابكة والمتنوعة وألغازه التي تحتاج إلى فك شفراته، أو القدرة عن الإجابة عليها، فالنص بشكل عام، يغلب عليه طابع التشويق والإثارة والفانتازيا والخيال المجنح، يعكسه أسلوب الكاتب في صياغته الفنية البارعة. وتأسيسا على ذلك، فالمطلع للعمل الفني الذي بين أيدينا، يدرك تماما ما أشرنا إليه في هذه العجالة، على الرغم من الغربة الوحشية التي كانت تعيشها بكل ما تتضمنه من عنف وقساوة، وسط مجتمع رأت فيه حركة تسير عكس ما كانت تطمح إليه، فيطالها ذاك الحزن المدجج بالأوهام والأحلام الخاوية من نبض الحياة، إلا أن موقع الذات في ظل هذه الظروف غير المتكافئة، حملت معها طاقة إيجابية تجاة الآخر في سياق حركي تفاعليّ، يفتح أمامها ممكنات جديدة يغني عالمها وطريقها المنشود، فكانت نورسين بطلة الرواية بمثابة الشعاع الذي ينير المكان الذي تحل فيه، تمثل أمامنا هذه المرة القصة المدرجة داخل المتن الحكائي، والأمر متعلق بقصة نورسين مع الضابط سيغوالد أحد الشخصيات الثانوية التي ساهمت في بناء المعمار السردي، وهي تتوسط ساحة الحرب لا تهاب الدماء، لأن شغلها الشاغل كان متوقفا في البحث عن ذاك الغريب مينهارد، وفي الوقت ذاته كانت شعلة تنير درب الآخرين، وهذا ما يؤكده سؤال سيغوالد الذي لا يخلو من التجاذبات والتفاعلات والتوترات، عن سبب تواجدها في هذا المكان، ومن كان المسؤول الأول في إجبارها على قدوم هذه الحرب الملعونة، وحتى تكتم حقيقتها التي تخفيها بين جوانحها، اضطرت إلى أن تراوغه بكذبة، ولكنها كانت في مجملها تحمل نقاء داخليا مخافة اكتشاف أمرها، حتى تتمكن من مواصلة مسيرتها التي ترفع تحديا في منح الآخرين الطمأنينة والراحة التي لا تحدها حدود، يقول السارد على لسانها بضمير المتكلم « منذ صغري وأنا أحلم بعلاج المرضى، وخياطة الجروح، وإعطاء الأمل لمن حولي «. 2- الحرب وآثارها المقيتة: ما تزال الحرب إلى وقتنا الراهن، تلقي بظلالها الحارقة على الأمم والشعوب، وهي ترجمة للوقائع المبتذلة التي تعيد تشكيل الهويات، من خلال ما تركته من بصمات كشاهد عيان على مجرياتها، وقد أسهمت تجاربها المريرة في جعل الذوات تعيش فوضى عارمة وسط جحيم آثارها، وبناء على ذلك، فظروف الحروب القاسية كما يرى الكاتب أو الروائي، تجعل من الإنسان يدفن أحزانه في أعماقه محركة مجموعة من الهواجس والنوبات الهستيرية والاضطرابات النفسية والخيالات، ومما يزيد الطين بلة، عندما تكون لها آثار طويلة المدى، فتعطل بذلك حركة التواصل مع الطرف الثاني أو شريك الحياة أو الأحبة، تحت وطأة الغياب المفاجئ، وهو ما تعكسه الأوضاع المعيشية الكارثية على جميع المستويات، يقول « نعم الحرب تكسر الرجال، والقلوب والأرض، وتنزع اللقاء من محاصيلها». والمنعطف الخطير تتوضح صورته بشكل أفضل، عندما يتطور هذا الأمر إلى حالات نفسية مهزوزة لا تحدها تضاريس الواقع، فتظهر هذه المعضلة الشائكة على عدة أشكال، وتكون الذات أمام هذا الواقع المرير عرضة للقلق والاضطراب والاكتئاب والسلوكات العدوانية وغيرها، فالجندي يوهان كما حكى أخوه الضابط سيغوالد، كانت زوجته ريليندا ممرضة مثل نورسين، فقد خاطرت بنفسها وانضمت إلى زوجها لتكون قريبة منه كسند له، ولكن شاء القدر أن تفرق الحرب بينهما، ما ساهم في انتزاع الحياة من صدره، فسرقت هذه المصيبة إشراقة الحياة من أمامه، عندما أنشبت الحرب أظفارها في كسر تلك العلاقة التي أندثرت وتلاشى بريقها، كأنها تتوسد التراب في مقبرة منسية، فقد وجد جسد زوجته محترقا داخل بيتهما الذي لم يتبق منه إلا الرماد، فقد تم ضربه بقذيفة « ومن يومها وهو يرفض الحرب، ويخرج للحرب من دون درع أو بندقية.. وها هو يرتحل بين الناس، حاملا كل الذكريات وقلادة، وبعض الكلمات غير المفهومة، اشتقت لأخي، اشتقت له جدا، ويبدأ بالبكاء دون أي هوادة «. فاستفاقت على وقع هذه الحادثة الأليمة، فوجدت نفسها لا تزال حبيسة الخيالات الهائمة، عندما علمت من الممرضة أنها كانت تحدث مجنونا يدعى يوهان، والصورة الحية التي نستخلصها من هذه القصة؛ المواساة التي كانت تهبها نورسين بالسماع والحديث للآخرين، حتى تخفف عنهم من وقع المصيبة الناتجة عن الخيبات المتلاحقة التي تخلفها الحروب بفضل الانتهاكات البشرية المتنوعة في أساليبها، وما تعكسه على مستوى الأفراد والجماعات، وكان ذلك يتجلى في الصراعات السيكولوجية والتغيرات المجتمعية المادية والمعنوية، والكاتب محمود اليوسف في هذا السياق، يصور لنا الأحداث في قالب خيالي طوباوي، ويتماهى في الوقت نفسه مع عالم الممكن، أي أن المعالجة الإبداعية تشير إلى تلك العودة التي من شأنها أن تقع في ساحة الحدث لو عاد بنا التاريخ ولم نستفد من أخطائه السابقة، فالرواية هاهنا تتناول الواقع من زاوية فنية مختلفة، فيكون لهذه الواقعة بشكل عام أثرها الظاهر على كل شخص يمر بهذه المحنة الصعبة، التي تولدت حتما من رحم الظروف القاسية الواحدة تلو الأخرى. ومن الواضح، في أن رغبة الكاتب الشديدة المتطلعة للتغيير، جرت على لسان شخصياته من أجل التمرد على الواقع القائم، وعلى هذا الأساس، وظف شخصية نورسين في إطار معادلة تشي بتلك المقاومة التي لا تعرف لليأس مكان، حيث تقودها إلى مواجهة معترك الحياة، من خلال مجابهة العوائق والأزمات والمحن في تلويناتها المختلفة، تجسدت في تلك المعاناة الخاصة بها ومن خلال معايشتها لهموم الآخرين، في زمن اختلت فيه الموازين واختلطت في الأمور، وتعاظمت فيه المصائب، تمثل هذا الشكل في استرجاع حبها الضائع؛ إذ جعلها تقدم تنازلات في حق ذاتها مقابل تضحيات جسام، من أجل بناء علاقة متينة تأخذ أبعادا كبيرة، بسبب الصورة الإيجابية التي ما فتئت تكونها عن الطرف الآخر، حيث تتمنى أن يكون شريك حياتها في السراء والضراء، وإذا أردنا التمثيل على ما تفضلنا به آنفا، تسعفنا المقطوعة السردية التي يقول فيها الراوي العليم «أكملت طريقها بين أصوات الصراخ والألم وتحت وابل الرصاص والقنابل، ولكن كلها كانت أضرارا جانبية لعشق الغريب، قيل لي من قبل: إن الحب حرب لا خسائر جسدية فيها.. «. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 19-08-2022 10:20 مساء
الزوار: 696 التعليقات: 0
|