|
عرار:
أحمد المديني/ المغرب في كل المدن الحقيقية والحواضر العريقة أماكنُ ومعالم، إذا لم تقصدها فكأنك لم تزُرها، وهذه منصوحٌ بها ومُعيّنةٌ في مطوياتِ ودليل السائح، وإن اخترتَ السفرّ مع سياحة القطيع، فسيقودك المرشدُ إليها في برنامج لا تختاره أو تجد نفسك منساقاً كأنك مُسَرنَم أو(مسحور)! في جولتي الصباحية، أراهم قادمين زرافاتٍ ووحداناً، وفي كل الفصول، نحو برج إيفل، يتطلعون إلى هذا (المعبود) بلهفة وعيون مسلوبةٌ تراها من حِدّة انشدادها ذاهلة، غيرَ مصدقة. هذا ما يحدث عادة مع كل طوطم، بل مع أشخاص تؤلّههم كراسي الحكم أو يتسيّدون وحدهم يحسبون العالم لا يمكن أن يوجد ويمضي بدونهم، ويفتون في كل شيء، ينسون أن الملك لله. إحدى قريباتي تطالب مديرها بإطلاق سراح ترقية مستحَقّة منذ سنين، فيُجيبها من علوٍّ أعلى من ارتفاع برج إيفل (سأرى)، ويضيف قد نفد صبرُه، هذه إدارتي أفعل فيها وناسَها ما أشاء! في كل مدن العالم توجد شِعابٌ عميقة وظلالٌ خلفية، هي التي تستحق الزيارة، عدا المتاحف والآثار الصامدة والدّارسة، صحيح أن أهل مكة أدرى بها، والمرهفين الصبورين خاصة، الذين يجوبون الأزقة والدروب الخفِية والناس نيام، ويشمّون الهواء ثم يفركونه وبالعين والخطو والرائحة يحدسون تاريخَ العصور ونبضَ البشرية مذ أكل آدمُ التفاحة وخسِر الجنة.إلى جانب قوة موهبتهما ونفاذ بصيرتهما، فإن غنى روايات نجيب محفوظ وباتريك موديانو الفرنسي، متأتٍّ من خبرتهما الدقيقة بمدينتَيهما القاهرة وباريس وأحوالِ وخبايا ساكنتها، ومن يريد أن يعرف هاتين الحاضرتين حقَّ المعرفة لا غنى له عن خرائطهما رسماها بدقة متناهية. لكنك إذا امتلكتَ بعض الفضول ستكتشف الدنيا من ثُقب باب، كما يُكتشف الشعر الحديث كلُّه من قصيدة واحدة لإليوت «الأرض الخراب». هَب أنك ذهبت إلى عمّان، لا محالة ستنزل في هذه المدينة الجبلية من أعاليها إلى قاعها حيث العمران القديم بين صعود وهبوط، لتلفَى نفسك في منطقة «وسط البلد»، ولكل مدينة وسطُها، لكنه في عمّان هو عصَب التاريخ وروحه، نعم، بلي، تقادم، أُنهك، صاخبٌ ومختنق، إنما تَعتّق، تحتاج إلى أنف تشمّم كلَّ خوابي الزمن لتتذوق طعمَه، جرعةً، جرعة، يَسري في بدنك خدَرٌ وارتخاء، وتنسى القرن الواحد والعشرين، وتتخللك كلمات الأنبياء وحوارات العلماءونداءات الباعة وترفُل عيناك في رقص الألوان، ستعرف، ستفهم، ستحسّ أن العربيّ ليس كائنا بالصدفة، بل بعراقة الزمان ولهب الوجدان. الأردنيون النّشامى، والعرب مثلي من قحطان، يعرفون أن وسط البلد يوجد أو لا يوجد إلا بثلاث، وهم مثل الراحل الملك حسين ووريثه الملك عبد الله لا يمكن أن تفوتهما إذا نزلا إلى الوسط، لقمة طيبة في (مطعم هاشم)، متخماً أو على جوع ستجد قدميك وبطنك يقودانك إلى هاشم؛ ولن يفوتك أداء الصلاة إن أذّن المؤذن في المسجد الحسيني وإلا تلجه تصلي ركعتين، لوجه الله أعطاه، حسب ما روى أحمد بالسند الصحيح عن النبي (ص) ما سأل مُعجّلا أو مؤخراً. فإن قضيت حاجتك، وأنت عائد في شارع الملك فيصل واجتزت متاجر الصاغة ثم البنك العربي، ستتوقف تلقائيا ولو كنت أعمى، كما لو أنك إحدى شخصيات سراماغو في روايته الشهيرة «العمى»(1995) عند نقطة التقاطع مع زقاق فرعي على يمينك على الجدار العالي المقابل لك ينهض كشك قسمُه الأكبرُ يتكئ على الزاويه والباقي ينثني إلى الشارع. هذا المكان العائد إلى منتصف السبعينيات اسمه « كشك أبوعلي» وأبو علي أشهر من نار على علم، استيحاءً من رثاء الخنساء (ت644) لأخيها صخر «كأنه علم في رأسه نار». هنا تجد ما تبحث عنه من كتب أو لن تجده في أي مكان، فينظر إليك صاحبه بعينين ضيقتين من وراء نظارتيه وتجاعيد السنين ويكون قد فحصك وخبر قدرك، وميّزك بين الخاصة والعامة، وبصمت تفهم أن شبيك لبيك كتابك لك وإما غدا حتما بين يديك. وستلفاك تقتني تلقائيا كزائرٍ لكنيسة يشعل شمعة، وتمضي حفِيّاً بما حملت يوجد عند غيره، لكنك ستمضي وأنت راض أنك اقتنيت عند (أبو علي) بالذات، وستخبر الأهل والأصحاب، كطفل يضيق به فرحُه إن لم يَزهُ بلعبته ويفرج الأتراب، فهذا كشك أبوعلي الذي اعترفت به الدولة رسميا حين كرّمه الملك عبد الله بوسام، وقبل هذا وبعده أكثر صار عنوان وسط البلد. أمس مات أبوعلي رحمه الله. أستدعي هذه الذكريات والأخبار، وبالبال رجل ولا كالرجال، مذ حللت بالرباط في عقد خلا أصبح لي، وهو للمئات، نقطة وقفة ولقاء. مهما تنقلتَ وجلتَ في عاصمة الفتح، لا غنى لك عن المرور صعوداً ونزولا بشارع محمد الخامس، وخصوصا في الممر الطويل تمتد على جانبيه المتاجر والمقاهي ويمشي فيه المشغول والعاطل والسائل، وأهم ما فيه قبالة مبنى البرلمان الموجود في الرصيف الآخر هناك؛ الأهم عند كثير هو كشك لا يقل أهمية وذُخراً عن كشك أبي علي، يقوم عليه الرجل المقدام الصبور الشهير باسم الرّوبيو، تمر الأعوام والفصول وتتوالى حوادث الدهر ويشيب الشباب والولدان وهو هنا يعرض الكتاب والمجلة والصحيفة، عشيرُ الكتاب والمثقفين والصحفيين والدبلوماسيين، لا أعلم هل البرلمانيون يقرؤون لأضمّهم إلى زبائنه ومعارفه، ولا أظن سيبقى لشارع محمد الخامس طعم وإشعاع إذا مررنا ذات يوم ولم نجد الروبيو وكشكه. واتفق أن الرجل مرّ أخيرا بضائقة ولم يسعفه أحد. هذا خطاب لمن يعنيه الأمر، هبّوا لنجدة الرجل فهو من ذاكرة الرباط إذا كنتم تحبونها! واتفق بحكم الأقدار، ولا راد لقضاء الله، أن رحل إدريس الخوري (1939 ـ 2022). لا يُعرّف الكاتب والصحفي والإنسان شاغل الأزمنة وله في القلوب منازل. شيءٌ ما على غير ما يرام بعد رحيل أبّا ادريس، حتى إن أهله وعشيرته الأقربين والأباعد أيضا لمّا يصدقوا بعد رحيله، وينتظرون مروره، عودته؛ أيّ حياة هذه بين لوعة الحضور وقسوة الغياب! الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 01-04-2022 10:19 مساء
الزوار: 1326 التعليقات: 0
|