«رؤى نقدية في الثقافة الأردنية» للأستاذ إبراهيم العجلوني
عرار:
نايف النوايسة ما يبقى من المرء بعد وفاته إلاّ ما تركه من عمل طيب يُذكر به، وهل يترك المفكرون والأدباء وأصحاب القلم إلاّ ذوب أنفسهم على الورق، وما تسطره أقلامهم من نتاجات ثقافية يستفيد من مضامينها القراء بشتى مشاربهم، بمعنى أننا ما زلنا مع الأولين من غابر الزمان حتى الآن، ونجلس على موائدهم الثقافية دون ملل. إبراهيم العجلوني واحدٌ من مثقفي الأردن الجادين، قام على مشروعه الثقافي الكبير الذي يسمو فيه من شأن الإنسان، ويستغل كل المساحات الفاعلة في عقله ليقدم للناس ما أوجبه عليه الخالق تعالى من معاني الاستخلاف وحمل الأمانة، واستثمار ذلك كله بصياغة آفاق الحرية والعيش الكريم في عالم اكتنفته الصناعات وصنوف الاستقواء فضلاً عن سيطرة ألوان من العولمة على الضعفاء من خلق الله. في كتابه (رؤى نقدية في الثقافة الاردنية) يقول العجلوني في مقدمته: (تمثل هذه المقالات/ رؤى وألواناً من المواكبة النقدية لكثير من الوقائع الثقافية التي شهدتها بلادنا في ما يقارب ربع قرن من حياتنا الأدبية والفكرية وذلك بحسب تواريخها المثبتة ازاءها، وهي، وإن تقاطرت آحاداً وتقاربت أغراضاً، إلاّ أنها في جملتها، تأخذ سَمْتها في نسق مضطرد تتابعت فيه للكاتب بإصداراته (نظرات في الواقع الثقافي الأردني) و(هموم أردنية) و(العقل والدولة) و(كلام في الإعلام) و(دون مقام الرضا) و(في الثقافة الاردنية الرؤيا والواقع) وغيرها من الإصدارات). إذٍ، هي مجموعة من المقالات حمّلها العجلوني رؤيته في الحاضر والمستقبل وما ينفع الإنسان في جميع أحواله. هذا الكتاب يضم أربعاً وثمانين مقالة نشرها العجلوني في جريدة الرأي ما عدا مقالة واحدة أو اثنتين تداخل بها الأدباء فخري قعوار والأديب جورج حداد والشاغر نايف أبو عبيد والأديب أحمد المصلح على مقالة العجلوني المعنونة بـ(قضية البطيخ)، إذ نشر قعوار مداخلته في جريدة شيحان، ونشر جورج حداد مقالته في الدستور، ونشر أحمد المصلح ونايف ابو عبيد مداخلتهما في الرأي، وحمّل العجلوني مقالته تلك بعضاً من رؤاه الفكرية، وصادفت هذه المقالة المثيرة صدىً عند هؤلاء الكتّاب. وسأبدأ رحلتي مع هذه (الرؤى) بتقديم المقالة الأولى التي تمثل عندي تطواف المضطر على تضاريس الخطر المُحدق، وعنوان المقالة (الجامعة الإبراهيمية)، وما نداء إبراهيم إلاّ صيحة في بلقع صامت، إذ تحدث في المقالة عن إرهاصات لتأسيس هذه الجامعة وما يشوبها من خفاء، وكشف الغطاء عن حقيقتها التي سيولد منها نسل لا علاقة له بالأديان والأخلاق والحضارات، منطلقين إلى الوعي الكوني المتجرد من كل شيء. والجامعة كما بقول العجلوني لا تصلح لجيلنا الذي ما يزال يتمسك بالدين والأخلاق وثقافة الأجداد، اي أنه لا يصح أن نتخرج منها، ويتمنى أن نكون تراباً ولا نرى ذلك متحققاً، وها هو يغيب ويكرمه الله بأن لا برى مثل هذا الهبوط والتدني في تاريخ الأمة. أمام هذا التدفق العميق من الرؤى النقدية للعجلوني قمت بترزيمها حسب القضايا التي قصدها الكاتب حتى أسهّل على القارئ التفاعل معها، وأتمكن من الوقوف على هذه القضايا التي شغلت فكر هذا المفكر طوال حياته واستبانت له فاقتحم مغاليقها بلغة ذات سبك قوي وبيان عالٍ، وراح يخوض في عجاجها باقتدار ومكنة فائقة غير هيّاب ولا وجل. في مجالات الثقافة نجده قد دلف إلى قضاياها من عتبات وزارة الثقافة التي عمل فيها وخبِر أوجاعها وما تراكم من مشكلاتها، فأولاها بعضاً من وقفاته، ومنها: هل من الضرورة الثقافية تأسيس وزارة خاصة بالثقافة تطامناً أمام الترضيات الإدارية على حساب جودة الأداء الثقافي الذي التفت إليه العجلوني وثمّن الجهود المبذولة وبخاصة من مثقفي الأطراف فياساً على ما يجده مثقفو المركز من فرص ومنابر. ووجه نظره إلى قضية تشغل بال المثقفين وهي تغليب الأيديولوجي والسياسي على الثقافي مما يقود إلى خلق أجواء تسيطر فيها الشللية وهي التي تتجافاها الثقافة، ولعل ما يؤرق بال المشاركين في المنصات الثقافية هو ضعف الإقبال الجماهيري على الحضور والتفاعل قياساً على ما يكون حين تقف على هذه المنصات مطربة بائسة. يذكر العجلوني في إحدى رؤاه النقدية أنه ابتعد عن الكتابة السياسية المباشرة التماساً للكتابة الحرة التي يحقق منها ما يصبو إليه من التصالح مع ذاته، وهو من أبعد الناس عن الأضواء واحتياز الشهرة، هذا وغيره ما باعد بينه وبين الكتابة السياسية ومثل ذلك التكريمات التي يحرص عليها نفر من الكتاب، ودعا إلى ضبط التكريمات كي ينالها من يستحقها لأن في ذلك تكريماً للوعي الثقافي والفكري، ولم ينس قضية الجوائز الثقافية التي يرى بعضها تمنح لمن لا يستحقها، وفي هذا تشويه لرسالة الثقافة التي غابتها صياغة وعي ثقافي حقيقي لا مزيف. وتحدث عن التنمية الثقافية وبحث في مفهومها وحدد مساراً حقيقياً بين حديها الكمي والكيفي وعلاقة ذلك بالثقافة الوطنية والعربية الأصيلة، وفيما يسهم في تعميق جذور هذه التنمية طرح قضية المجالس الأدبية وأهمية دورها في احتضان الفعل الثقافي الجاد، وليست المجالس وحدها تُلبي الرغائب الثقافية، وكن وجود مجلة فكرية غدا ضرورياً لاحتضان ثمرات أقلام الأدباء والمفكرين على غرار المجلات الفكرية العربية المعروفة. ولم تغب المدن الثقافية عن نظر العجلوني، إذ طالب في إحدى رؤاه بمعالجة مبدأ التنافس لاختيار المدن الثقافية الأردنية، ورأى أنها جميعها مدناً ثقافية مكتملة، وتمتلك كل واحدة منها وزنها الثقافي المميز، ويتصل بمشاريع وزارة الثقافة أيضاً مشروع التفرغ الإبداعي الذي يجب أن ان يُراعى في من يُمنح إجازة التفرغ أحقيته الموضوعية في ذلك. ودعا بإلحاح لتأسيس مديرية للثقافة في التلفزيون الأردني لتعميق رسالته الإعلامية والثقافية دوره وإخراجه من حالة التسطيح الثقافي الذي يضر بواقع الحركة الثقافية الأردنية. والذي يجعل العجلوني واثقاً من نظراته ورؤاه النقدية هو أنه أصاب حظاً وافراً من العمل في الصحافة كمثل عمله في المؤسسات الثقافية الحكومية والجامعية، فهو على دراية مؤكدة بموضوعاته دراية المتبصر الخبير، وأجمل تماساته مع هموم الصحافة جاء على النحو التالي: وجه نظره ـ بدءاً - إلى الأعمدة الصحفية، وهو كاتب عمود، وقرأ المستوى الثقافي ولكتابها وبين نقاط الضعف والقوة، وهو بذلك محق ولا يحيد عن الصواب، كما نظر في الصفحات الثقافية في صحافتنا الأردنية ودعا إلى تنقيتها من الخَبَث والضعف وما يعتريها من رداءة المضامين، حتى لا تستباح الصحافة الثقافية ممن لا يمتلكون الشروط الموضوعية للكتابة الإبداعية وأولها القراءة الإبداعية والوعي المعرفي، وهذا ما عناه الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي الذي استحضر العجلوني آرائه في سياق حديثه، والرافعي لا يحبّذ أن يقترب الأديب من الصحافة حتى لا تؤثر على سويته الثقافية العالية. وفي عموم الرسالة الإعلامية نادى العجلوني بضرورة الالتفات إلى قيم الحضارة الإسلامية ومبادئ النهضة العربية، وهذا بمجمله لا يتم إلا من جهود لجان وطنية مختارة يتم تشكيلها لتوجيه الإعلام توجيهاً وطنياً حراً، وألا تكون هذه اللجان لحظية مرهونة بقناعات الوزراء والمسؤولين الذي يتعاقبون إدارة المؤسسات المعنية، ومثل ذلك طالب بتأسيس مجلس أعلى للإعلام قادر على تحمل المسؤولية، وتهيئة الظروف الموضوعية لبناء حياة إعلامية وازنة. وكان أكبر ما يؤرق بال العجلوني هو التساهل المُفرط باللغة العربية في أوعية العلم والمعرفة وعلى رأسها ميادين الأدب الإعلام، ولا تبتعد عينه عن دور مجامع اللغة العربية، وما ينبغي أن تكون عليه هذه المجامع، فمن واجبها أن تتصدى لكل قضاي اللغة المتراكمة وألا ينحصر عملها في حدود ضيقة دون أن تخرج إلى الميدان، واقترح العجلوني تشكيل لجان خاصة للدفاع عن اللغة العربية وحمايتها من التعدي على مكانتها، وفي موضوعات اللغة رغب في كتابه بنشر رسالة المرحوم د. عود الله القيسي وحملت من هموم اللغة ما فتئ الكاتب يُذكِّر بها بين حين وآخر، وأولها اللحن في اللغة الذي فشا في المدارس والجامعات والمساجد وبين كثير من الكتاب، وأفضت به هذه التذكيرات لأن يحصرها في (لحن اللغة ولحن التفكير ولحن الأخلاق)، وأنه ولا يقدر على مواجهة هذه الاختلالات إلاّ المخلصون من المفكرين والأدباء. ولا يكف العجلوني من التأشير إلى عبث المستشرقين ودسائسهم على اللغة، وأخطرهم ما صال وجال في بعض مجامع اللغة في الأقطار العربية مثل (جب وماسينون ومارجليوث وغيرهم). ونبه في أكثر من مقالة إلى ضعف اللغة الذي استشرى في وسائل الإعلام المختلفة وبخاصة المرئية منها والمسموعة، ويقع هذا الضعف بين العجمة الفاضحة واللحن المُخل، وحَريٌّ بهذه المنصات الإعلامية أن تتوخى أعلى درجات الدقة والأخذ بمحاسن لغتنا الخالدة. ولا يفوت العجلوني في (رؤاه) أن يفتح دفاتر ميدان العمل التربوي ويفكك قضاياه المتشابكة وأحماله الثقال، فتحدث عن المنهاج المدرسي وما يعتوره من مثالب وضعف كالغياب الفاضح للنصوص الأدبية الأردنية، والمواد المتعلقة بالنهوض الوطني وبخاصة الشخصيات الوطنية ذات الأثر التاريخي والاجتماعي والثقافي والحضاري على عمومه، وعزز هذا النظر بإشاراته الى الخطر الصهيوني المحدق بنا ومراهناته على الأجيال القادمة، ولم يكتفِ بهذه التنبيهات عند حدود المدرسة، وإنما تجاوزها إلى التعليم الجامعي وما يتلبسه من علل واختلالات، واقترح تشكيل لجان وطنية من المفكرين والادباء وأصحاب الخبرة للمساعدة بوضع منهاج مدرسي مناسب. وربط في (رؤاه) بين المخرجات التربوية والمدخلات الجامعية بحيث لا تكون فجوة معرفية قد تدمر التراكم المعرفي عند الطالب، بمعنى، لا بد من التنسيق بين الجانبين التربوي والجامعي. وأخذت اليهودية والصهيونية حيزاً كبيراً في رؤى العجلوني وأفرد لهما من مقالاته وكتبه ما يدفع إلى النظر الحصيف والقراءة المتدبرة في المخاطر المتقاطرة من هاتين الأفعوانين، وربط بينهما وبين الاستعمار الغربي والأمريكي، وما يتصل بذلك من أخطار متأتية من الغزو الاستشراقي المتغلل في حياتنا بسهامه الملوثة. ولم يفته بين حين وآخر أن ينبش في وحل الفساد الذي يتلون بألف لون، إذ نجده في الترهل الإداري، وفي الاسباب المؤدية إلى البطالة، وفي إبعاد الأشخاص الأكفاء عن المواقع التي ينبغي أن يكونوا فيها، وفي تجاهل ذوي الخبرة وأصحاب التجارب الناجحة من أن يكون لهم سهم ومشورة في القضايا الملتبسة، ولا نعدم
من العجلوني وسيلة لتشخيص أدواء هذه العلة المستكنة في مفاصل بلدنا. وبين في واحدة من (رؤاه النقدية) خطر الاستثمار في الصحافة وما ينجم عنه من آثار مدمرة من شأنها التأثير على سوية الخطاب الفكري والرسالة الإعلامية والوعي الحضاري، وتكمن الخطورة في مثل هذه الحالة بأن تتورط الصحافة في مقاييس الربح والخسارة فينجرف كتابها لمجاراة هذه المقاييس وتتحول كتابتهم إلى ما يشبه البضاعة المزجاة. وأورد في كتابه أسماء لعدد كبير من الكتاب والأدباء الأردنيين والعرب والأجانب، وهم ممن تساوقوا ومستواه الرفيع في الادب والفكر والفلسفة، ورأى في بعضهم نماذج ذات جلد وصبر ومضاء عزيمة، وبعضهم الآخر واتته الحظوظ في الوجاهة الحكومية لكنه بقي مُحافظاً على مستواه الثقافي العالي ليبقى به مذكوراً. أما فلسطين والأقصى فهما حاضران بين عينيه ولا يغيبان عن قلمه، وحديثه عنهما حيث المتألم الموجوع، وله في هذا الأمر من الإشارات ما يثير في نفس القارئ الغيرة والنخوة جراء ما يجري على التراب الفلسطيني من عدوان آثم. وأعرف ميل العجلوني الغلاّب للدرس الفلسفي، وهو الجلد الصبور على نُشدان ميادين الفلسفة بكل مذاهبها، ويراها اليوم في كرب شديد شأنها شأن علوم أخرى مثل (أصول الدين وأصول الفقه)، ومن المحزن أن يعتبرها بعض الناس ترفاً محضاً. ويخلص العجلوني من كل هذه الرؤى إلى أمر خاص به هو اعترافاته بما تورط به من كتابة (مقدمات) لبعض الكتب، ويراها لا تليق به، فضلاً عن أن الوظيفة الحكومية جعلته منقادا للكتابة (القلقشندية) لبعض الوزراء والنواب، وهي كتابات جاءت من خارج قناعاته، من هنا رفع صوته وكرر نداءاته لينعتق الكاتب من كل قيد يصادر حريته وقناعاته ومواقفه، والأمر الذي يؤكده دائماً هو ألا يسخر الكاتب قلمه في غير ميدانه النقي الحر. كتاب المرحوم إبراهيم العجلوني ثري بالرؤى التي عالجت الكثير من قضايا الثقافة المتراكمة، وهي في ظني ضوء ينير عتمة التخبط لا ينطفئ.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 29-11-2024 08:18 مساء
الزوار: 88 التعليقات: 0