التكنولوجيا والنوستولوجيا في زمن القلق قراءة في (سِفر السلام) لإبراهيم غرايبة
عرار:
غسان إسماعيل عبد الخالق ما أسهل أن نبسّط فهمنا للشكل الكتابي الذي اختاره إبراهيم غرايبة لسفره الأحدث، فنقول مثلاً: إنه ضرب من ضروب تداخل الأجناس، وقد تضافرت الرواية والسيرة والقصة القصيرة معًا، لإيصال ما أراد الكاتب أن يوصله لنا؛ تصريحًا أو تلميحًا. ولأنني أعتقد بأن هذا التسويغ قد استُهلك حتى صار ذريعة لكل من تقطّعت به سبل السّرد أو النقد، فسوف أُسارع للقول بأن (سِفر السلام) ضرب من النثر المنقوع في التأمّل والاعتراف واليوميات الوامضة. فهو إذن ليس رواية ولا سيرة روائية ولا مجموعة قصصية طويلة، بل هو سرد فكري سريع الإيقاع؛ استعار من الجاحظ سمة الاستطراد من موضوع إلى موضوع، واستعار من بعض كتاب الغرب المحدثين سمة التمرّد على التجنيس. وقد أحسن الكاتب أيّما إحسان حينما أردف العنوان الرئيس: (سِفر السلام)، بعنوان فرعي شارح وحاسم: (متوالية الذكريات والتجارب)! ومع أن هذا الشكل الكتابي الذي اختاره إبراهيم غرايبة، يضم كثيرًا من المحرّضات على الاسترسال في تفكيك سماته الفنية التي تقف اللغة الثالثة (لغة المثقفين الواقعة بين الفصيحة المتعالية والعامية البسيطة) على رأسها – إلى درجة أنه يستخدم أنِي بدلاً من أنا في غير موضع- إلا أن مضمون هذا السفر، بدا لي أكثر تحريضًا على الاسترسال في تحليله للأسباب التالية:
أولاً: الكتاب ينتمي بشقه الذاتي وبشقه الموضوعي، إلى حقل الأنثروبولوجيا الثقافية التي يمثل (الإنسان) لحمتها وسداتها. ومن الملاحظ أن إبراهيم غرايبة قد تحرّى ملازمة هذا المؤشّر، من الصفحة الأولى وحتى الصفحة 436 التي اختتم بها الكتاب. فالقيمة المضافة عنده محسومة دائمًا، لصالح التفكير في (الإنسان)، وبغض النظر عن ماهية الموضوع. ثانيًا: على الرغم من أن الوجهة الأنثروبولوجية تهيمن على (سفر السلام) إلى حد بعيد، فإن هذا السفر منقوع أيضًا في الحنين الجارف (النوستالوجيا) إلى المكان البعيد الذي كان معمورًا ثم صار مهجورًا، وإلى الزمان المنقضي الذي كان جميلاً ثم صار مؤلمًا، وإلى الذات الطفولية البريئة التي كانت ذكيّة وتفيض بالدهشة ثم صارت بليدة، وإلى الواقع الصاخب الذي كان واعدًا ثم صار عقيمًا، وإلى الأفكار المحلّقة التي كانت مغرية ثم صارت عقابًا، وإلى الآخرين الذين كانوا مخلصين ثم صاروا جحيمًا!
ثالثًا: مع ضرورة التذكير بخطورة المفارقة الماثلة بين الوجهة الدراسية الأنثروبولوجية والنزعة النوستالوجية العميقة، فإن (سفر السلام) ينطوي أيضًا على حس رثائي شامل؛ للذات والموضوع وللماضي والحاضر، إلى درجة أن الكاتب لم يستطع التصدي لإغراء تضمين البيت التأسيسي للموقف الطللي، وأعني به بيت امرئ القيس العتيد (قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل/ بسقط اللّوي بين الدّخول فحومل) وهو البيت الذي صاغ وما زال يصوغ بأشكال ومضامين مختلفة، كثيرًا من تجلّيات الثقافة العربية القديمة والحديثة والمعاصرة.
رابعًا: وحتى تبلغ المفارقة مداها الأقصى في هذا السفر، فإن إبراهيم غرايبة لا يتردّد في استحضار تكنولوجيا الاتصال من جهة، وروافعها العتيدة (الفيسبوك وتويتر) من جهة ثانية، من منظور نوستالوجي وطللي! خامسًا: وإذا أضفنا إلى كل ما تقدّم، حقيقة أن إبراهيم غرايبة لم يتردّد أيضًا في إبراز كشف حساب قاسٍ للسلطة السياسية ومجتمعات النخبة والمعارضة والإعلام والثقافة والتربية والتعليم، صار بمقدورنا الزعم بأن (سِفْر السلام) هو العنوان المعلن، لأن العنوان الحقيقي المضمر هو (سفر القلق)، الذي يمكن أن يفسّر ويبرّر هذه المراوحة الممضّة بين الغفران والغضب وبين النسيان والتذكّر. لقد تعمّدت إيراد الملامح الرئيسة للمفارقات الثاوية في خطاب (سفر السلام) على هذا النحو (كشف الحساب)؛ من باب الحرص على التماهي التام مع منهجية الكتاب الذي أودعه إبراهيم غرايبة، ذكريات تجاربه ومعارفه على امتداد خمسة وخمسين عامًا، بدءًا من مسقط الرأس ومرابع الصبا في عجلون، مرورًا بصدمات الحداثة في عمّان وتحوّلات الانتماء الإيديولوجي من الإسلام السياسي إلى الإسلام النقدي، وليس انتهاء بأوهام المجتمع المدني. وعلى نحو يتداخل فيه التاريخ مع الجغرافيا والاقتصاد السياسي وفقه اللغات السامية والأساطير القديمة والحديثة والشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي. وما أقسى أن يكون حصاد هذا التطواف الشاسع بعد أن بلغ الكاتب الستين من عمره: قبض الريح!
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-11-2022 09:05 مساء
الزوار: 647 التعليقات: 0