|
عرار:
د. حنين إبراهيم معالي يقلّب الدكتور إبراهيم خليل أوراق ذاكرته مشيرًا إلى عناوين تشوّق القارئ؛ لقراءة هذه الأوراق التي كشف فيها عن محطات مهمة من سيرته الذاتية، ورؤيته للحياة وللأدب، ونقل للقارئ خبرته التي اكتسبها من الدراسة، والسفر، والوظائف التي عمل فيها في الجامعات المختلفة، ومن خلال مشاركته في أنشطة ثقافية متعددة، و كان سرد السيرة في نسق حكائي، كأنك تقرأ مجموعة من القصص المتتابعة، والمتداخلة التي يؤدي بعضها إلى بعض بأسلوب سلس ومشوق، مستخدمًا عناوين متعددة بدأها بـ «أول الغيث» فتحدث عن طفولته، وأبرز محطاتها التي أثرت في حياته لاحقًا، فقد تنقّل بين عدد من المدراس؛ ليحصل على تعليمه الأساسي، والإعدادي، ثم الثانوي، متنقلًا بين جنين، ويعبد، ونابلس، وغيرها. ونجد أن المؤلف اهتم بالمكان ووصفه بدقة؛ ليمنح القارئ فرصة تخيل الأحداث في هذه الأماكن، وكأنّ القارئ يعيش مع الكاتب في زمنه من خلال وصف معالم المكان، التي تكشف عن طبيعة الأماكن التي تجمع بين البساطة، وعبق التاريخ، وعراقة المدن، والدول التي زارها؛ ليأخذ المكان حيزًا لا بأس به من السيرة، ويربطه بأحداث حياته في مراحل مختلفة. وتكشف هذه الأوراق المليئة بالأحداث عن نقطة مفصليّة في حياة ناقدٍ حصيف، وكاتب متمرس، وهي اللحظة التي جعلت صاحب السيرة مندهشًا من المطالعة، واصلًا إلى سر جمالها، كاشفًا عن أهميتها، وقدرتها على تكوين ثقافة الإنسان، متعلقًا بها، ويظهر ذلك في قوله: « ففي العطلة الصيفية وقبل الانتقال إلى الثاني الثانوي عثرتُ بالصدفة بين كتب قديمة لأخي الأكبر فؤاد على كتاب بلا غلاف، فشرعت في قراءته فشدني ما فيه من حكاية عن الحب الذي ربط بين قلبيْ ماجدولين وستيفن»؛ ليتابع القراءة في الروايات، والقصص والشعر. ثمّ انتقل إلى فصل آخر سمّاه: «مدارات المعرفة والبحث» وفي هذا الفصل تحدّث المؤلف عن مرحلة الانتقال من المدرسة إلى الجامعة، وعن دخوله إلى الجامعة الأردنية طالبًا متتلمذا لأساتذة كبار كان لهم الأثر الكبير في تشكيل ثقافته الأدبية والعلمية، منهم: د. محمود السمرة، ود. عبد الرحمن ياغي، ود. هاشم ياغي، ود.عبد الكريم خليفة، وغيرهم من أساتذة اللغة العربية في الجامعة، واستطاع أن يتذكر بعض آثارهم الأدبية والنقدية، ويذكر ما ألفه عنهم في كتبه المتعددة؛ ليعرّف القارئ على بعض إنجازاتهم وكتبهم، مواصلًا حديثه عن الأدب، والكتابة، والنقد، ذاكرًا بعض أسماء الأعلام وكتبهم، دون أن ينسى الحديث عن الأحداث التي حدثت في فلسطين في عام 1967، وحرب 1973، وغيرها من الأحداث. أمّا في الفصل الثالث الذي جاء بعنوان: «تغريبتي» فقد تحدث عن انتقاله إلى المغرب للعمل فيها، واصفًا بعض المناطق التي زارها مثل: نهر أم الربيع، وجامع الفنا، وقصر البديع في مراكش، وغيرها، مركزًا على وصف المكان، وجمالياته، جامعًا في ذلك بين التشويق والتماسك النصيّ، وقادرًا على تقديم وصف وافٍ، يساعد القارئ في تخيل المكان، والاستمتاع بجمالياته الظاهرة في ثنايا النص. ولم ينسَ الكاتب الناقد أن يستفيد من رحلته تلك للتعرف على الأدب المغربي، وبعض الكتّاب والأدباء المغاربة، ولذلك نجده قرأ للقاص محمد زفزاف، وتتبع آثار الكاتب المخضرم «عبد المجيد بن جلّون» وذكر بعض كتبه، واهتم بكتابات «عبد الكريم غلّاب»، وقرأ بشغف كتاب «عبد الله كنون» الموسوم بعنوان: «النبوغ المغربي في الأدب العربي» الذي أتاح للدكتور إبراهيم خليل أن يطلّع على جوانب من الأدب المغربي، نغفل عنه في المشرق العربي، وهذا ماجعل المحرر الثقافي في صحيفة الرأي في ذلك الوقت المرحوم « إبراهيم العجلوني» أن يقول له رأيه فيما يكتبه عن الأدب المغربي، قائلًا: «كم من الناس الذين عملوا في المغرب والجزائر، وفي دول الخليج ممن.. لم نعرف أحدًا منهم اكتسب من ذلك شيئًا غير المال، أمّا أنت فقد اكتسبت الثقافة، والعلم، والمعرفة بالبلد الذي عملت فيه، وأفدتنا بما لا يُقدّر قيمته». ومن الأمور اللافتة في هذه السيرة إصرار كاتبها على زيارة إسبانيا، وقد سمّى هذه الجزئية بـاسم «زمن الوصل» وكأنه يحاول أن يربط بين ما قرأه في متون الكتب الأدبية والتاريخية وبين الزيارة الحقيقية للمكان، موشحًا ذلك ببعض الأبيات الشعرية في ثنايا النص. ويسهب المؤلف في وصف بعض معالم إشبيلية، وقرطبة، وقصر الحمراء في غرناطة، متعجبًا من بهجة هذا القصر وجماله، حتى بعد مرور هذا الزمن الطويل على بنائه. ثم انتقل إلى الفصل الرابع الذي يحمل عنوان: «الجامعة مرة أخرى» متحدثًا فيه عن إكمال دراساته العليا إلى جانب العمل الصحفي والتحريري، الذي مكّنه من استئناف حضوره النقدي والأدبي في الصحف، مستمرًّا في نشر كتبه النقدية والأدبية، ومنها: كتاب»في الأدب والنقد» (1980)، ومجموعة قصصية بعنوان: «من يذكر البحر»، وديوان شعري بعنوان: تداعيات ابن زريق البغدادي»، وهذا الشغف والعناية بالأدب جعلت صاحب السيرة ينهي دراسة الماجستير عام (1986)، وتابع بعدها الدراسة في الدكتوراه مختارًا موضوعًا شائكًا يحتاج إلى جهد كبير وهو: «السياق وأثره في الدرس اللغوي في ضوء علم اللغة الحديث»؛ ليتعمق أكثر في الدراسات اللغوية، واللسانية، متزامنًا مع مواصلة الكتابة في الصحف على الرغم من الأعباء الملقاة على عاتقه. وكما هو متوقع عن الطالب المتميز الذي يعرف مساره البحثي جيدًا، أنجز موضوع أطروحته في أقل من فصلين، وتمت المناقشة، ثم الحصول على درجة الدكتوراه، وبعدها في عام (1992) عُيّن في الجامعة الأردنية أستاذًا مساعدًا، وواصل عمله الأكاديمي، والبحثي، مضاعفًا جهده في الكتابة، وقد نشر أول كتاب له – في هذه المرحلة- وكان بعنوان: «الرواية في الأردن في ربع قرن» 1993. وبعدها انتقل للحديث عن ذهابه إلى سلطنة عُمان للمشاركة في الأسبوع الثقافي الأردني في عام(1992)، ثم عاد إليها عام (1999)؛ لقضاء إجازة تفرغ علمي هناك، وقد وصف الأماكن التي زارها، متحدثًا عن بعض الجوانب الأكاديمية. ويسرد صاحب السيرة بعض مشاركاته النقدية والأكاديمية، واصفًا بعض المواقف التي مر بها، ذاكرًا بعض الكتب له، ولغيره، وقد واصل الحديث عن رحلاته الأكاديمية بين تونس، ومصر، وسوريا، والجزائر، وأخيرًا إلى الرياض التي قضى فيها عامين، ثم عاد إلى الجامعة الأردنية؛ ليصبح في عام (2013) برتبة أستاذ، ومشرفًا على العديد من الرسائل العلمية، وذلك بالتزامن مع متابعته للحركة الأدبية، والنقدية العربية، مواصلًا شغفه في الكتابة والتأليف. صفوة القول هي أن كتاب «أوراق من الذاكرة» لإبراهيم خليل كتاب يجمع بين التشويق والتماسك مع انسيابية السرد في الانتقال من جزئية إلى أخرى، بطريقة تبعد الملل عن القارئ، وتدفعه لمواصلة قراءة نص متنوع، يمزج فيه كاتبه بين التنقل في محطات الحياة، رابطًا ذلك بالحديث عن الأدب، والثقافة، والمعرفة، مستفيدًا من ذلك كله في إغناء التجربة الحياتية لكاتب السيرة، مما ميزه بخبرة كبيرة، وتجربة متميزة تجعلها مثالًا يُحتذى لمن يريد أن يصبح ناقدًا حصيفًا، وأكاديميًّا متمكّنًا. هوامش: أوراق من الذاكرة، ط1، عمان: دار الخليج، 2024 ص 34 المصدر السابق نفسه، ص 66 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 07-06-2024 07:09 مساء
الزوار: 278 التعليقات: 0
|