الناقد عبد القادر الرباعي يخط “عرار: الرؤيا والفن قراءة من الداخل”
عرار:
عزيزة علي
عمان- ضمن منشورات مكتبة الأسرة الأردنية “القراءة للجميع”؛ أعادت وزارة الثقافة كتاب “عرار: الرؤيا والفن قراءة من الداخل”؛ للناقد الدكتور عبدالقادر الرباعي. كتب تقديما للكتاب د. زياد الزعبي الذي أشار إلى أن هذا كتاب كبير عن شاعر وأديب كبير، وكلاهما يتمتع بالعمق والجاذبية، فإذا كان عرار قد شغل الناس وجذبهم بما تفرد به من سمات شخصية، وبما قدمه من فن شعري متميز برؤاه الفكرية وبإثاراته الفنية وأبنيته اللغوية؛ فإن هذا الكتاب يجتذب القارئ مرة بموضوعه المحوري وتفصيلاته التي تشمل أبعادا نقدية: نظرية وتطبيقية تقرأ عرارا وشعره بعمق مستندة إلى ثقافة معرفية ثرية وممارسة نقدية خلاقة، وأخرى بمنهجه القويم ولغته العلمية الرصينة التي نأت بنفسها عن ضجيج التمجيد، وعن صخب النقد الاستعراضي المتعالم. ولذا فإنه يمثل علامة بارزة في إطار الكتب النقدية العلمية عن شاعر حظي باحتفالات وكتابات احتفالية كثيرة؛ لكنه لم يحظ بدراسات علمية حقيقية كافية تسبر أغوار الشاعر وشعره لتقف على تكوينه الثقافي، ومرجعياته المعرفية، وتحفر في أعماق نصوصه وطبقاتها وأبنيتها وجمالياتها وآفاق الرؤى، كما بدا ذلك واضحا في هذا الكتاب”. ويرى الزعبي أن هذا العمل المثير والمتميز الذي يقدمه لنا د. عبدالقادر الرباعي قد نقل الاهتمام بعرار من دائرة الاحتفال إلى دائرة النقد العلمي الرصين، ومن حالة القراءات والإسقاطية: السياسية والاجتماعية والفنية التي تفصح عن آراء كاتبيها وأهوائهم أكثر مما تكشف عن صورة الموضوع في نصوصه، إلى ممارسة القراءة النصية التي تعاين موضوعها بوعي يستند إلى رؤية منهجية صارمة، وأدوات معرفية فعالة، وثقافة علمية عميقة، وتجربة نقدية طويلة جعلت من هذا العمل نموذجا في القراءة النقدية المسؤولة التي تحاور موضوعها في نصوصه المبدعة، وتتقصى أبعاده في ذاته هو، وتنأى بنفسها عن أن تكون تعبيرا سافرا عن ذات الناقد أو مواقفه ورؤاه السابقة في وجودها على موضوع البحث. ويشير الزعبي إلى أن الرباعي يفتتح كتابه بتمهيد حول “عرار في الخطاب النقدي المعاصر”، حيث يعرض فيه الرباعي آراء النقاد والباحثين في خمس من القضايا المحورية التي تتعلق بعرار؛ شخصيته وثقافته وشاعريته، والمكان ودلالته في شعره، وكذلك موقفه السياسي والاجتماعي، وقصيدته في لغتها وشكلها، وترجمته لرباعيات الخيام، وهو في عمله المنهجي العلمي هذا يحاور الآراء النقدية المتعارضة بعمق وموضوعية وجرأة تدخل قارئه دائرة المتعة التي تتشكل بفعل الموقف الحواري النقدي الذي قد يتفق أو يختلف معه، لكنه لا يملك إلا أن يشعر بالإعجاب والإثارة التي تنشئ دون شك، حوارا جديدا ومتجددا حول نقد النقد. وينوه الزعبي إلى أن الفصول الأربعة التي يتكون منها الكتاب تتأسس على مداخل نقدية معاصرة في قراءة النص الشعري، يتحدث الفصل الأول، عن “الصورة والرؤيا في شعر عرار”، حيث يحيل قارئه مباشرة إلى الاهتمام المحوري، لافتا إلى أن الفصل يستند إلى تجربة نقدية ثرية وظفت القراءة الداخلية في ابعاد الكلمات والأشياء التي ركبت صوريا في شعر عرار، وعلى نحو يطرح مسائل الوجود والحياة كما صاغها خيال الشاعر مشفوعة بأجوبة نبعت من الواقع. ومغذاة بأمانيات الشاعر وأحلامه وانفعالاته الجوهرية التي تشكل رؤاه. بينما يتحدث المؤلف في الفصلين عن “صورة في المفارقة” و”بناء اللغة”، في شعر عرار، حيث يمعن الرباعي في قراءة موضوعاته قراءة فنية تنبثق عن تأمل النصوص الشعرية في تكوينها وأبنيتها وصولا إلى استجلاء احتمالات تأويلها وتأثيرها. ويشير الزعبي إلى أن هذا “العمل” يتم في إطار مرجعيات معرفية ومنهجية علمية في النقد كرسها المؤلف عبر تجربته النقدية المتصلة منذ عقود، والتي تجلت في بحوثه ومؤلفاته، مبينا أن قراءة المؤلف لـ “قضايا الفن الشعري عند عرار”، تدخل في إطار السياق العام للدراسات النقدية المعاصرة، وتخرج تلك القضايا من الدائرة الضيقة التي حوصرت فيها زمنا طويلا. الدكتور عبدالقادر الرباعي، يقول في مقدمته للكتاب: “لا شك أن عرار شاعر فذ، وقد تبعث شاعريته وموهبته الكتابية مبكرا، ثم امتدت جامحة عبر سنين عمره، لا تستكين، وقد غذاها عصنران مهمان: أولهما شخصية عرار المتمردة، وثانيهما أحداث عصره المثيرة، فعرار الذي مارس التمرد منذ كان فتى يافعا في البيت مع والده، وفي المدرسة مع السلطات التركية، لم يستقر له قرار بعد ذلك، بل استمر يقارع الخصوم في وطنه، وقد كانوا متعددين منهم المستعمر الأجنبي، الذي فرض هيمنته على مقدرات البلاد والعباد، ومنهم المرابون المستغلون الذين أرهقوا الناس فساموهم ألوان الخسف والطغيان. ويوضح المؤلف أن مقارعة عرار تلك كانت غالبا ما تصل به إلى باب موصد بمتارس كبيرة وقوية، ذلك كان يهرب إلى ما ينسيه انكسار سيفه على عتبات تلك الأبواب، وهكذا ظل يعيش حالة من التناقض موزعة بين انتصاره حينا، وانكساره حينا آخر، بل إن هذه الحالة القلقة شكلت ذات عرار التي غدا التناقض سمتها الكبرى أو الأساسية. وإذا كانت هذه الحال جلبت لعرار مآسي كثيرة وكبيرة من جهة، فإنها قد خلفت آثارا أدبية عظيمة تمثلت في ديوان شعر ضخم وآثارا نثريه متنوعة من جهة ثانية. ولقد استثارت هذه الآثار مجموعة من الباحثين والدارسين الذين انصرف بعضهم إلى جمع هذه الآثار، بينما راح بعضهم الآخر يتناول بالدرس بعضا من جوانبها المختلفة، حتى أصبح لعرار تراثا أدبيا عظيما، سواء في النص المبدع، أو في القراءات المتعددة لهذا النص. ويوضح المؤلف أن ما كتب عن عرار حتى الآن ما يزال في بدايته، ذلك لأن إبداعات عرار النوعية: فكرا، ولغة، وفنا ما تزال تنتظر مزيدا من الجهود التحليلية المتميزة على كل المستويات العلمية والبحثية والنقدية، فـ”عرار الشاعر، والناثر، والباحث، والمترجم”، حيث يقف اليوم متحديا الأقلام الماهرة في مجال القراءة والتلقي والنقد علها تتقدم إليه فتستخرج من كنوزه دررا أنقى من أي درر، ونقاش أبهى من كل نفيس. وعن الكتاب يقول الرباعي: “إنه واحد ممن حاولوا اقتحام عالم عرار الشعري وقراءته من الداخل، كي أتبصر رؤياه للعالم وللوجود من خلال نصوصه المبدعة، على أساس أن النص هو غاية الدرس ومنتهاه، ثم إن قراءتي هذه ليست منصرفة إلى اكتشاف نظام التشكيل اللغوي بما فيه من أساليب لغوية وبلاغية فحسب، ولكنها قراءة تحاول رصد المعاني العميقة والمرامي البعيدة التي توحي بها تلك الأساليب في تلاحمها داخل سياق نصي بنائي تكاملي تلتقي فيه أطراف متوائمة، وأخرى متغيرة، ولكنها جميعا متحدة على نية إنسانية، سواء أكان مبعثها دخيلة الشاعر، أم دخيلة القارئ، أم دخيلة الإنسان، أي إنسان في كل زمان ومكان. يوضح المؤلف أن الكتاب يتألف من أربعة فصول وتمهيد، ففي التمهيد إطلالة على عرار في عيون دراسيه، لذلك جاء عنوانه “عرار في الخطاب النقدي المعاصر” وقد تناول فيه الرباعي أهم المشكلات التي أثارت النقاد واختلفت فيها آراؤهم، مثل شخصية عرار وثقافته، والمكان ودلالته، والموقف من السياسة وقضايا المجتمع، واللغة، وشكلها، ثم ترجمة عرار للرباعيات، ولما كان دارسو عرار كثيرين فان المؤلف اكتفى بما جاء في الكتب المطبوعة والدوريات المعروفة. بينما يقوم الرباعي في الفصل الأول بتحليل صور عرار الشعرية ليتبين من خلال نماذج مختارة منها رؤيا عرار، وقد حصر مناقشته في هذا المجال بثنائيات عدة تؤلف أطرافا متبانية كالنموذج الإنساني: سالبا وموجبا، والأنا والآخر، والمكان والزمان، والثبات والتحول، والجد والهزل، كما قدمت لهذا الفصل مفهوما للصورة الفنية كونته من مؤلفات عربية وأجنبية معتمدة في دراسة هذه الوسيلة البلاغية الممتازة. وخصصت الفصل الثاني للمفارقة في شعر عرار؛ ذلك لأني وجدت أن أسلوب السخرية والتهكم أسلوب طاغ على شعره، لكن الرباعي يناقش المفارقة ضمن موضوعات أربعة هي “الوطن، والمجتمع، والذات العرارية المتمردة، والقيم الدينية والأخلاقية”، ويمكن القول: “إن المفارقة عند عرار جزء أساسي من سلاحه في وجه الأعداء والخصوم، الذين كان اصطدامه بهم يتكرر كل يوم”. ويقدم في الفصل الثالث دراسة لأهم الجوانب البنائية التي امتازت بها لغة عرار، لذلك أطلق على هذا الفصل اسم “بناء اللغة في شعر عرار”، وقد ناقش فيه بنية كل من “التضاد، والتناص، والسخرية التهكمية، واللغة الشعبية، والصورة والإيقاع”، حيث اعتمد في دراسة هذه الأبنية على مواقعها داخل سياقاتها. وفاعليتها داخل هذه السياقات، ثم تفاعلها معا بما يغني القصيدة العرارية ككل. وخلص إلى أن عرار شخصية عجيبة اجتمعت لها متناقضات كثيرة في التفكير والسلوك، ولهذا وصفه هذا الكتاب بأنه النسمة العليلة، والإعصار المدمر، كما وصف لغته بأنها بسيطة غير أنها عميقة، سهلة لكنها متمتعة قريبة إلا أنها قصية، متمنيا أن يفي هذا الكتاب عرارا بعض حقه علينا، ما يحفز النقاد والباحثين على استمرار الاهتمام بإبداعاته. ويذكر أن الدكتور عبدالقادر الرباعي؛ يعد واحدا من أبرز النقاد الأردنيين والعرب، عمل أستاذا للنقد والأدب في عدد من الجامعات الأردنية والعربية، وتبوأ عددا من المناصب الأكاديمية الرفيعة ومنها رئيسا لجامعة جدارا، وصدر له العديد من المؤلفات والأبحاث والدراسات عن هيئات نشر أردنية وعربية وازنة ومن كتبه، “صورة الفنية في شعر زهير بن ابي سلمى” 1984، و”طاقة اللغة وتشكل المعني في قصيدة (الربيع) للبحتري” دراسة نصية” 1992، و”من آراء المستشرقين بالتراث: قراءة في فكر استتكيفتش حول القصيدة العربية واللغة العربية” 1993، و”جهود استشراقية معاصرة في قراءة الشعر العربي القديم” 2008 وغيرها الكثير.