|
عرار:
د. علاء شدوح/ أكاديمي وناقد أردني فإنّ مهمة المبدع الأولى تكمن في أن يُولِّدَ نصًّا إبداعيا لجمهوره، أمّا الناقدُ فيكونُ في شغفٍ ليولِّدَ نصًّا جديدا من رحِمِ ذاك النص الإبداعي. ومن هذا المنطلق رأيت أن أنظر بعينٍ فاحصة إلى المجموعة القصصية: (كحلٌ أسود) للكاتبة الأردنية مُسيَّد المومني والصادرة عن دار كفاءة المعرفة للنشر في عمان/2023، لتجلية خفاياها وأسرارها وللكشف عن الرسائل التي تريد القاصّة إيصالها إلى القرّاء. من عادتي في قراءتي النقدية للنصوص الإبداعية المحصورة بين دفتيّ كتاب -لا سيما القصصية منها- أنْ أبدأ بتفحّص العتبات الأولى لها، فهي المدخل المهم إلى أغوار النصوص، وهي بصيص الضوء الذي يقود إلى كشف المستور خلف رمزية الكلمات وضبابية التعابير. وجدتُ عنوان المجموعة (كحلٌ أسود) عنوانا مُثقلا بالثنائيات الضدية، على الرغم من التناسب اللوني بين كلمتي «كحل وأسود». لقد كانت القاصّة ذكية جدا في اختيار هذا العنوان، ويكمن الذكاء بأنّ هذه الضدّيات كانت مبثوثة في كل أجزاء المجموعة؛ بدءًا بالعنوان، ومرورا بالغلاف والإهداء، وانتهاءً بآخر قصة. فأسقطتِ المومني هذه الضدّيات على الأنثى الشرقية التي لها من السمات السيكولوجية والسيسيولوجية ما يميزها عن غيرها من النساء في العالم. إنّ الكحلَ الأسود أداة تستخدمها الأنثى لتجميل عينيها وإبراز جمالهما، وهو رمزٌ من الرموز الدالّة جمال الأنثى، وهو وسيلة للغواية وسمةٌ من سمات الأناقة، لكنه في الوقت نفسه قد يخفي خلفه ألما كبيرا وحزنا عميقا، فمن البَدَهيّ قول ذلك؛ فالعرب كانت تربط اللون الأسود بالوجع والتشاؤم والخطيئة والخوف والظلام والموت والفناء. عطفًا على ما سبق، فإنّ المرأة الشرقية التي سيطرت على معظم شخصيات القصص، مرّت بمواقف كثيرة يعتريها الغموض والتشتت الناتجة عن ازدواجية المشاعر لديها، وعن ضديّة التصرفات مع نفسها أو مع غيرها – لا سيما الرجل – أو مع مجتمعها. فصحيحٌ أنّ المومني اختارت عنوان مجموعتها بنفس عنوان قصة (كحل أسود) ص 39، وصحيح أنّ هذا حال أكثر المبدعين المُحْدثين في مؤلفاتهم، لكنّ من الصحيح أيضا أن نعترف بتميز المبدعة بأنْ ربطت كل أجزاء المجموعة بخيط متين يحركه العنوانُ كيفما ومتى ما شاء. امتدّ ذكاء القاصّة ليصل إلى الغلاف، فهو غلافٌ مميزٌ ولافتٌ بطريقة فريدة، وذلك بأنْ وضعتْ صورتَها الشخصية الحقيقية على الغلاف، فلا بدّ أنها تريد من خلال هذا أنْ توصلَ إلينا مجموعة من الرسائل أهمّها: أنها كامرأة شرقية تماهت وانصهرت مع شخوصها الإناث في المجموعة، فهي تشعرُ بما يشعرْن وتتوجع كما يتوجّعن وتُظلم كما يُظلمْن. كأنّها تريد أنْ تقول أيضا: إنّ الكثيرَ من الجمال في هذه الحياة قد يخفي وراءه الكثير من الأوجاع والآلام، فالظاهر للرائي مختلفٌ عن المستور، بالتالي فإنّ المرأة الشرقية قد تبدو في جمالها كملاك وفي تحمّلها كجبل وفي جبروتها كجلمود، لكنّها قد تخفي في دواخلها هشاشةً أو ضعفًا أو تيهًا ترافقها طَوَال الحياة. إنّ الثنائيات الضدية في الصورة تكمن في اللونين الأبيض والأسود اللذين سيطرا على كل أجزاء الصورة: فالخلفية سوداء لكنّ الكتابة بالأبيض، وحجاب رأس القاصة قطعتان: قطعةٌ بيضاء وأخرى سوداء، وملامح الوجه البيضاء رافقتْها تفاصيلُ تجميله السوداء. إنّها بحق صورة جميلة على الرغم من اقتصارها على لونين فقط، لكنْ ثمة انكسارٌ واضح خلف هذا الجمال؛ فصاحبة الصورة لا تواجه الكاميرا بعينيها المكتحلتين المنسدلتين إلى الأسفل تجاه علبة الكحل المفتوحة، وكأنّ هذه العلبة تخفي في داخلها الكثير الحكايات والعديد من المشكلات الممزوجة بنكهة الألم وطَعْم الفراق ومرارة الظلم. لقد ظهرتْ أدوات التجميل جليّةً في الصورة، كظهورها في القصص أيضا، كذِكْرِ الكحل والمسكارا والآي لاينر، كل هذا وذاك يخفي صراعا مع الذات ومع المجتمع، إنّه الصراع من أجل الثورة على الموروث والمألوف بما يخص المرأة الشرقية، وعلاقتها بالعادات والتقاليد والحب والزواج والتربية... حَمَلَ الإهداءُ في طيّاته العديد من الرموز والمعاني كالسنابل الخضر باليمين، إذ ترمز السنابل الخضر إلى الأمل والخصب والنجاح والتقدم وتُعبّر عن السخاء والتضحية لأجل الآخرين، وترمزُ السنين العجاف بالشمال إلى التحديات والصعوبات التي يمر بها الإنسان في حياته، أمّا عن الشمال واليمين: فإنّ استخدام الاتجاهات الجغرافية هنا قد يعكس تناقضًا بين الخصوصية والعمومية، حيث يمكن فهم اليمين كرمز إيجابي للعطاء والسخاء الشخصي، بينما يكون الشمال رمزا سلبيا لعطاء الجماعة والمجتمع –على اعتبار أنّ العطاء قد يكون إيجابيا وسلبيا في آن-. بالتالي، يوحي هذا الإهداء بالهدوء مرة والصخب مرة، ويوحي أيضا بالضدية في المعاملة والمشاعر والتصرفات والنتائج. ويتناسب هذا الإهداء تناسبًا لافتًا وجميلًا مع قصص المجموعة كاملة وموضوعاتها المتنوعة، والتي تتناول الحياة والصعوبات التي يواجهها الأفراد لا سيما المرأة. ينتهي الإهداء بــ: «مع خالص شكري» دلالة على الامتنان والتقدير العميقيْن إلى الذين أضافوا لتجربة القاصّة أو الشخصيّة الأنثى في المجموعة الكثيرَ وعلّموها مواجهة المشكلات خلال السنوات العجاف الصعبة التي مرّت بها، سواء بمواقفهم الإيجابية أو السلبية. نجد من خلال قراءة القصص أنّ الأنثى الشرقية ما زالت تواجه الكثير من المشكلات المعقدة التي ورّثها لها العُرف الاجتماعي من جهة وجِبلّة المرأة الأزلية من جهة أخرى، وتجدر الإشارة إلى أنّ جُلّ أدوار البطولة في القصص قامتْ بها النساء الحالمات العاشقات الضائعات التائهات بحكم علاقتها مع نفسها ومع غيرها. ففي قصة (سارقة العطر) ص 7، تكمن مشكلة الأنثى مع الحب وما سبّبه لها من شروخ داخلية، لكنّها في القصّة كانت هي السبب بتناقضها وشعورها بالوجع، فهي تحبّ رَجُلَها وتحتاجه لكنّها في الوقت نفسه عنيدة ومتمرّدة عليه ولا تريده، فكانت النتيجة الخسران، وهذا يفسّر خوفها من التواصل وخوفها من الهجر والفقدان قبل أن يقعا. في قِصتَيّ (عروس مراهقة) ص 17 و(كحل أسود) ص 39، تسلط المومني الضوء على قضية في غاية الخطورة وهي زواج المراهقات الشرقيات صغيرات السن، وهذا يعدّ من الموروثات والعادات عند الأسر الشرقية، حيث إنّ الأب بسلطويته وتحكمه بكل مفاصل الأسرة يستطيع إجبار الفتاة على الزواج، فلا مجال للرفض خاصّة إنْ نطق بكلمته وقراراته أمام الرجال، فلا رجعة فيها « كلام الرجال على الرجال دين» ص 18، حتى أنها تجد أنّ موافقةَ والدِها على كتابة اسمها على بطاقة دعوة العرس بدلا من كلمة «كريمتها «هو أكبر حرية يمكن أن تحظى بها. وأشارتْ القاصّة – أيضا – إلى مشكلة زواج الفتاة من رجل يكبرها كثيرا في السن، فإنّ هذا مدعاة إلى عدم التكافؤ بينهما ومن ثم نشوء المشكلات وانتهاءً بالطلاق. وفي نفس القصة - كحل أسود- تعيش الفتاة الشرقية حالات من التناقض مع نفسها، فتجد الشخصية الرئيسية قد تزوجت رجلًا فقير الحال زواجا ناتجا عن حب، لكنْ بعد أن أصبحَ ميسورا وانشغل بأعماله صارت تطالبه بالاهتمام المبالغ فيه، مما أدى إلى تولّد المشكلات لتُفضي إلى الطلاق. قصة (مكياج) ص 105، تشير إلى ألم الفقد والبعد والفراق الذي يصيب الزوجة بعد موت زوجها، إذ تصفُ البطلة أنّ حزنها على زوجها المتوفى هو موتٌ بعينه. إنّ هذا الأمر من الصِّعاب القَدَرِيَّة التي قد تواجه المرأة، والتي -بكل تأكيد- سيعقبها الكثير من المشكلات على الصعيدين السيكلوجي والسيسيولوجي. حقًّا، إنّ هذه المجموعة القصصية تزخر بمشكلات الأنثى الشرقية سواء مشكلاتها مع نفسها أو مع غيرها أو مع مجتمعها، والتي قد تسبب لها الضعف النفسي والتخاصم الاجتماعي الذي قد يؤدي إلى موجة كبيرة من التناقضات في المشاعر والتصرفات. استخدمت القاصّة في مجموعتها لغةً مِن السهل الممتنع، وانْتقَتْ كلماتِها وجملَها ببراعة لتتناسب مع الشخصيات والأحداث والرسالة التي تريد إيصالها للجمهور. وأبدعتْ المومني في وصفها للأحداث والمشاعر والمواقف، الأمر الذي جعل القارئ يشعر وكأنه أمام شاشة سينما يشاهد ويسمع ويشعر ويتفاعل مع ما هو أمامه، وهذا يتماشى مع كل مشكلة نفسية واجتماعية تعيشها الأنثى الشرقية واقعيًّا. « وانقبض بطني حتى ظننته سيبتلع باقي جسدي « ص 14، « فقدت السيطرة على جسدي، ووجدتني أعوم في الفراغ « ص 23، « ثم تطبق جدران المحيط حولك عليك بقوة كأنك في رحم، مهما حاولت أن تولد منه ضاق عليك أكثر، لا مخرج، لا حبل سري يغذيك، لا نافذة تسرب الهواء إليك والانهيار كنتيجة لما سبق حتمي لا مفر منه» ص 35، « تحجّرت مشاعرها حتى أنها لم تعد تشعر بالمياه الباردة المنصبة من صنبور الدش فوق شعرها وهي متقوقعة بكامل ملابسها فوق أرضية الحمام ترتجف حنقا، بعد أن رمى عليها يمين الطلاق وغادر المنزل» ص 42. مُلخّص القول: إنّ المومني في مجموعتها (كحلٌ أسود) أوصلَتْ رسائلَها ببراعة وذكاء، ونجحت في أسْر جمهورها بأغلال القراءة المتواصلة للمجموعة، لِما فيها مِنْ عناصر الإثارة والتشويق ودقة الوصف للأحداث والاهتمام بأدقّ التفاصيل، وإنّها حجزتْ لِمخطوطِها مكانًا ذهبيًّا على رفوف مكتبة الإبداع العربي الحديث. جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 09-07-2023 08:11 مساء
الزوار: 401 التعليقات: 0
|