إبراهيم خليل بعد ما يربو على عشر مجموعات شعرية آن للشاعر حوامدة أن يتذكر نفسه، فكر في الماضي الذي غبر، والحاضر الذي سيمضي هو الآخر، وقرر في لحظة ما أن يعدل عن الشعر، ويكتب نثرا. وأن يكون هذا النثر سردا، وأن يكون السرد فيضا من الذكريات التي لا تخلو من الجموح تارة، والتردد تارة أخرى، والنسيان طورا، والتذكر طورا. في البداية يلفت النظر لحكايته مع القصيدة الأولى التي نشرت في الأخبار، مفضلا الحذر والاحتراس، مضربا عن استخدام الأفعال اليقينية، مؤثرا الأفعال التي لا تحول دون تعدد الاحتمالات، متخذا قول فهد العسكر: كفّي الملامَ وعلّليني فالشكُّ أوْدى باليقين شعارًا. وهذا الشك هو السبب الذي يحول دون التثبت من دقة هذه الذكريات، وهو أيضا السبب الذي يسمح للراوي – موسى- السير في اتجاهات مختلفة، وطرق شتى، فما إن تجده يتحدث عن مرحلة ما في المدرسة حتى تجده يعود بك لمرحلة أسبق بكثير، وعلى هذا النحو يحتاج القارئ الذي يُبتلى بقراءة هذه السيرة لغض النظر، والبصر، عن الامتداد الزمني، وعن خط سير الوقائع المروية في هذه الصفحات التي تربو على المئتين. فمن حين لآخر نلتقي السارد طفلا. يقول معتذرا :» كلما تقدمتُ في الكتابة أجد نفسي وقد عدت إلى المرحلة الأولى ، أي لملاعب الطفولة، وسنوات الصبا. وكأنني ما زلت في مرحلة الثانوية في الخليل. كأنني أريد أن أبقى هناك «. والسؤال: لم لا يكتب السارد هذه الذكريات شعرًا مع أنه نشر غير قليل من الدواوين؟ جوابا عن هذا يقول: إن الشعر أقدر على تجسيد الانفعالات والدوافع، بيد أن للنثر، هو الآخر، من القوانين، والقواعد، ما يجعل منه أداة للتعبير عما هو مطَّرد، ودقيق. وباتخاذه النثر أداة في السيرة يكون الكاتب أكثر تواضعا، وأقل جموحًا. وهذه الإشارة تنم عن أن المؤلف يريد أن يكون صادقا في مروياته، متجنبا الخيال الذي يمتلئ به الشعر، ويدرجه في عداد الأقاويل الكاذبة على رأي البلاغيين من عربٍ وغربيين، فهم ما فتئوا يؤكدون أن أبلغ الشعر أكذبه. فلسطين: وعلى الرغم من أن لموسى حوامده أسبابه الخاصة، وغير الخاصة، التي تدفع به - ها هنا - لتجلية هويته الفلسطينية، فإن هذا الموقف لا يتطلب لزاما منه أن يوضح - طفلا كان أم كهلا - لماذا ضاعت فلسطين، وكيف؟ فهذا معروف للقاصي والداني، وللكبير والصغير، وحتى للمقمَّط في السرير. لذا لم يرقني اعتماده على الإجابات التي استقاها من الكتاب المرجعي فلسطين الشهيدة(1938) فكل ما ورد في هذا الكتاب، وفي غيره، وما ورد في « النور والظلام « لعاموس عوز، وما أورده من زيادة، لا يضيف إلا القليل النادر لما هو معروف لدى العام والخاص. ولما كان الشيء بالشيء يذكر فقد استدعى ما يرويه عن (النور والظلام) لقاءه بصاحب المجموعة القصصية « جسر على النهر الحزين « و رواية « سيرة بني بلوط « القاص محمد علي طه، الذي زاره وروى له تفاصيل ما قامت به (إسرائيل) من تدمير أدى لمحو آثار نحو 485 بلدة، وقرية، منها قريته (المغار) وصفورية، وبير الصفا. التي يتردد اسمها في الأغاني الشعبية: ع بير الصفا وردت حـــليمـــة جدايل سود وارخت حليمـــة رحنْ يا الشقر ما انتن غنيمة حلـيمة سهيل ونجـوم الضحى ولعل في الحديث عن صانور، والمغار، وبير الصفا، و كابول،والبروة، وشَعَب، وغيرها من القرى، يؤكد أن السارد - ها هنا - بريء من التحيز أو التعصب – براءة الذئب من دم يوسف - فقريته السموع هي إحدى قرى الخليل التي كانت أراضيها الزراعية التابعة لها تقارب الـ 90 ألف دونم تراجعت مساحتها بعد عام 1948 إلى 35 ألفا نظرا لاستيلاء المحتلين على ما تبقى، يتحدث عنها كأي قرية أخرى. وفي فصلة خاصة بالعملاء والجواسيس الذين ازدهرت أعمالهم بعيد الاحتلال عام 1948 يروي لنا السارد حكاياتٍ، ونوادر، تصدق حينا ولا تصدق حينا آخر. وكنت من حيث أنا قارئ - لا أكثر ولا أقل - أتمنى لو أن المؤلف أسقط من كتابه هذه الفِصْلة، لأنه دون أن ينوي ذلك أساء لباقي الملفات التي تحتفي بها هذه المذكرات. فالمرويات المشينة، وإن كانت تقول الحقيقة أحيانا، وما هو أكثر من الحقيقة، تؤذي الشعور المفعم بالتعصب للوطن، فلكل مجتمع، وفي كل شعب من الشعوب، مثل هذه العينات التي ترفضها الأكثرية بالطبع. والحديث عنها من باب حسن النوايا يؤذي النفس، ويشوب الصفاء الوطني، والنقاء السياسي. شباط 1959: تحتل طفولة الكاتب حجر الزاوية، لكنه وعلى نحو طريف يفكر قبل ذكر ولادته ورؤيته النور في شباط فبراير 1959 زواج أبيه من أمه، وهذا وإن كان مسليا، فأظنه من باب التزيد والفضول الذي لا ضرورة توجب ذكره، وذكر ما كان من خلافات وإشكالات وقعت بين الخطيب والخطيب، طالما أن المحصلة النهائية لهذه الإشكالات قد تمت بنجاح، وهو كأبي العلاء يجد في مجيئه لهذه الدنيا ذنبا تسبقه ذنوب. ومهما يكن، فإن شعرا له في( أسفار موسى العهد الأخير) يؤكد هذه الفكرة: جئت إلى الدنيا فوجدت ذنوبي قبلي وفي موقع آخر يفلسف اختيار الاسم موسى، وهو الذي عرف به ويُعرف، ويَستخلص مما أحاط باسمه من تأويلات وفتاوٍ أن لشعره قيمة. وأن ديوانه سابق الذكر يؤكد هذا، ففيه فصول بعنوانات منها سفر الخطيئة، وسفر التثنية، وسفر الرؤيا. وبعضها من عناوين التوراه. ولا ينكر المؤلف حوامده أنه نشر هذه الأسفار بعد أن أصبح شاعرا، ولم يكن لهذه العناوين أي بريق في طفولته. فالربط بينها وبين الاسم، فيما نحسب، طارئ على زمن الطفولة والبواكير. وفي موقع آخر يذكرنا بالبرغوثي، مريد، الذي أسرف هو الآخر في الحديث عن البيت الذي رأى فيه نور الولادة للمرة الأولى، فها هنا نجد السارد يرسم بريشته صورة للمنزل الذي رأى هو الآخر نور الولادة فيه، مطلقا عليه اسم (العَقِد) الذي هو في رأينا تحريف لكلمة (عُقّاد) والعقاد اسم لجزء من المنزل، وأطلق على الكل من باب المجاز المرسل، فللعامية مجازها كما للفصحى. ثم يفرط في الحديث عن هذا البيت بقسميه المصطبة، والمدخل. وذلك تقسيم شائع إذ كان أهل القرى يجعلون المدخل المنخفض عن المصطبة خاصّا بالدواب والأدوات التي يستخدمونها في فلاحتهم كالمجرفة والفأس وإكليل الفرس وبرذعة الحمار إلخ. والمصطبة خاصة بما له صلة بالمعيشة. وفي غمرة هذا الحديث المفصل تفصيلا مبالغا فيه يذكر(الروزنا) ويعرفها بأنها كوة في السقف تدخل منها أشعة الشمس للإضاءة. وأحسب هذا مختلفا عما هو شائع من أن النوافذ والطواقي مثلما جاء في شعر القيسي هي التي تسمح بالإضاءة، أما الروزنا فهي، نعم، كوة، لكنها في الغالب في سقف المتبن- مكان لتخزين التبن- أو شيء من هذا القبيل، وقد وردت في أغنية شعبية تقول: (ع الروزنا ع الروزنا/ كل الهنا بيها ويش عملت الــخاينة/ الله إجازيهــا) وفي نقلة لا توطئة لها، ولا تمهيد، يتذكر السارد ما يجري في المدافن، وفي تشييع الموتى، من طقوس ومن عادات بعضها ديني، وبعضها الآخر من الإرث الثقافي الشعبي. ويتذكر موكبي تشييع بعض الشهداء (ابو هشهش) وصديقه ابن دورا الربعي. السَموع: وعودا على بدء يستأنف السارد الحديث عن (السموع) قريته التي سبق له أن تكلم عما فقدته من أراض بعد الاحتلال الأول 48. والاسم، فيما تنبئ عنه أبحاثه، تحريفٌ لكلمة كنعانية (أشتيموع) ومعناها بالعربية الهدوء. ويتتبع ذكرها في التاريخ وتناوب الفرس والآشوريين والفراعنة والرومان والفلسطينيين والعبرانيين على البلاد عامة بما فيها السموع. وها هنا يُذكــّر القارئ بالغزو العبراني لفلسطين، والدور الذي قامت به الزانية راحاب في أريحا. والكاتب يحب - مثلما يتضح - الانتقال من العام إلى الخاص ومن الخاص إلى العام، لا فرق لديه في هذا. فبعد الحديث عن(العَقِد) تحدث عن السموع. وبعد الحديث عن هذه البلدة استأنف الحديث عمَّن في (العقد) أعني الأسرة التي كان قد تناولها بالحديث سابقا عند ذكر ميلاده في شباط 1959. وفي هذا الموضع يتّضح لنا ما لم تحمد عقباه، وهو التفريق بين الأبناء لدى الأب. فكان يحب إخوته، ولا يحبه. وقد خلق لديه في الصغر إحساسا بكراهية الأب خلافا لعلاقته العاطفية بالأم، وبعمته التي أحب حكاياتها ثم انصرف عنها لما فيها من التكرار والإعادة. واللافت أن والدته حين طلب منها أن تسمعه حكايات أخرى غير تلك التي تكررها عمته، روت له حكايات يغلب عليها طابع الالتزام الذي جعل منامه مشوبًا بالكوابيس. واضطرت لمعالجته بما يسمى(طاسة الرعبة) والمستخلص من هذا أن حكايات والدته كانت أكثر تأثيرا، وأعمق، من حكايات عمته، وظل يتذكر ما روته أمه عن فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير، الذين أعدموا ذات ثلاثاء خلدها إبراهيم طوقان في موشح مطلعه: لما تعرَّض نجمكَ المنْحوسُ وترنَّحت بعُرى الحبال رؤوس وقد اختلطتْ الحوادثُ، ففي الحديث عما جرى في حزيران 1967 يتذكر التجربة الأولى في الفقد، وهو أمرٌ قد يبدو للقارئ شيئا كبيرا، لكنه على خلاف هذا الانطباع، فالطفل الذي كانه السارد تعلق بماعز يسمونها العنزة الشامية، ولكنه فقدها فجأة، فحزن حزنا شديدا عندما علم أن أباه باعها. فكره البائع وكره المشتري. وظلت الكوابيس تعتاده ليلة تلو الأخرى عن تلك العنزة. وفي السياق يتذكر وفاة بعض الناس، ومنهم صالح ابن خاله الذي توفاه الله، وأصبح عصفورا من عصافير الجنة على رأي عمته. ومثلما ُذكر لا يعتمد السارد في مروياته نسقا معينا فبعد العنزة الشامية يتذكر الخليل، ورحلته الأولى إليها يوم ضاع في موقع يسمى (خزق الفار) وحكايته مع العفاريت، وشبح أم الدناديش. وما أبصرهُ ذات يوم من مشاهد يعتقل فيها فرسان الأمن أحد النشطاء فيربطونه بذيل الفرس، وقيل له إن ذلك الشخص من الفدائيين الخارجين على القانون، والحكومة تترصدهم وتعتقل من يقع منهم بين الأيدي. وانطبع في ذهنه أن الخوف السائد في بيئته الاجتماعية سببه أولئك الفرسان الذين لا ذنب لهم، فهم مطيعو أوامر توجه لهم ويتلقونها من المسؤولين. وقبل أن يتم السادسة من عمره ويذهب للمدرسة التي كانت مخفرا عرف من عم أبيه (إكريّم) شيئا عن القراءة وعن الكتب. في المدرسة: اتصف والده بالتردد حيال المدرسة، وبعد لأيٍ استطاع عم أبيه المذكور(إكريّم)
اقناع والده الذي تناول شهادة ميلاده، واصطحبه للمدرسة التي كانت في عهد الانتداب مخفرا. كان ذلك في الأول من شهر سبتمبر- أيلول من العام 1965 وعمره في ذلك اليوم بين السادسة والسابعة. وكالعادة يروي لنا ما كان يراه في منامه من مشاهد عن المدرسة والحقيبة والدفاتر والأقلام والأطفال الذين يشاركونه اللعب بما في ذلك الخصومات التي أقلها اختطاف الساندوش من يده. وفي هذا المقام يشير لقصيدة سأمضي إلى العدم، مؤكدا أن فيها ذكرى (علّيّة العنيد) . ولم تمض إلا سنة حتى كانت السموع، وقريتيان أخريان يالو، وعمواس، هدفا لغارة إسرائيلية استشهد فيها الطيار موفق السلطي، وإصيب فراس العجلوني(13 نوفمبر 1966). بعد ذلك بأشهر شاهد ما يثير الانتباه وهو الاستعداد للحرب القادمة وظهورالفريق أول عبد المنعم رياض الذي عهد إليه بقيادة الجبهة في حرب يونيو 67 وانتهت باحتلال الضفة كسيناء والجولان. وفي ذلك الوقت لم يكن السارد يفهم معنى أن تحتل البلاد بهذه السرعة لكنه لاحظ الشعور بالإحباط يعم الوجوه. وانتشرت ظواهر يومية كالتفتيش، وجمع الأسلحة، والاعتقال، وجمع الرجال من أعمار معينة، وسوقهم للمعتقلات، واخيرا ظهور بعض العمليات التي تؤدي لاستشهاد أشخاص، مثل قريبه يوسف وغيره. من العام إلى الخاص: وبصفة مثيرة للتساؤل يرجع بنا المؤلف لمرحلة ينبغي لها أن تبتعد بنا عن أجواء النكسة فيحدثنا عن الختان وما يرافقه - وفقا للعادات والتقاليد- من مخاوف وآلام لدى المختون، ومن أفراح واحتفالات لدى الأسرة. فيطيل في وصف ما يجري من طقوس في هذا المهرجان. وهذا شيء لا تطرد العلاقة بينه وبين رحلة ترفيهية يقوم بها السارد إلى ربوع وفلسطين: حيفا، يافا، جبل الكرمل، القدس، رام الله، أريحا، وما يصاحب ذلك من تفاعل مع الأمكنة الأثرية والتراث الشعبي من حكاياتٍ، وسحر، وادعاء التواصل مع ملوك الجان، والتعرف على بعض الكتب (الشيخ عبدالله) وبعض الألعاب التي اعتاد عليها الصبيان، وما جرَّته إحداها من خلاف مع أبيه القاسي الذي نسب إليه جلب العار له وللعائلة، لأنه مارس لعبة العرسان. وتتصل بهذا فصلته المثيرة عن الأعراس وعن الأغاني الشعبية كالدلعونا والميجنا والسامر والدحية – دحية الحاشي- والدبكة بأنواعها المختلفة (شعراوية، كرادية، وغيرها) واللويح الذي يقود الدبيكة. والآلات من شبابةٍ ويرغول. أما الأب، فقد كان اشتراكيا أو شبه اشتراكي في تجارته، ورجعيا في تعامله مع التقنيات ولا سيما حكايته مع التراكتور الزراعي. ورعويا في تعامله مع الأغنام. وها هنا يروي السارد بعض الطرائف والمفارقات التي عرضت له مع عبد الرحيم أحد أقاربه وأخيه محمد الذي ما فتئ يروي لهما الطرائف والنكات عن الافلام المصرية وبعض الممثلين كفريد شوقي والمليجي والدقن. يرويها في تفاعل حميم حتى كأنه الممثل نفسه. ومما يفاجئ القارئ أن السارد في هذه المرحلة من طفولته عرف شيئا عن عمل خال له في مزرعة أرئيل شارون، وابن خاله الذي روى له الكثير عن ذلك (العتلّ) ومزرعته في النقب. ويالها من تجربة قاسية. وهي ليست التجربة الوحيدة فقد توالت عليه مع صغره في السن الكوارث، ومنها خلافات جده مع عمه، وزواج إحدى أخواته من ابن ذلك العم، وسفره إلى غزة التي ترزح تحت الاحتلال الفاشي. ورؤية ما فيها من آثار الجيش المصري وحصاره في الفالوجة، وشارع عمرالمختار والتنقل بعربات الكارو، وبوم وفاة الزعيم في 28 سبتمبر- أيلول عام 1970 . تفاريق: ولا يحسن بالكاتب الشاعر أن يغفل عما تحدثه المدرسة فيه من أثر. فهو لا ينسى المعلم القدير والأب الحاني عطالله الطيطي الذي عَرف على يديه الكثير، ومنه تعلم عادة القراءة، وحُبَّ المكتبة والكتاب مثلما تعلم حب الأدب والشعر على يدي إبراهيم عجوة. ففي المكتبة المتواضعة التي اختاره أمينا لها عثر على كتاب لم يذكر عنوانه ولكن القارئ يدرك من الوصف أنه كتاب ألف ليلة وليلة. وقد فتن بما فيه من حكايات شيقة ومن مغامرات مسلية عن أبطال الأساطير كسندباد وشهريار وشهرزاد. هذا الكتاب حببه بالشعر مثلما حببته به رائعة أبي تمام في عمورية. وجاءت طقوس رمضان في هذا السياق لتضيف حلية جديدة أخرى لحلى هذه السيرة، بما فيها هي الأخرى من روايات محكية عن أبطال القصص. وما فيها من طقوس خاصة بتلك الليالي وهي طقوس تتكرر لكنها بهذا التكرار لا تفقد ما تتصف به من طلاوة وحلاوة. في هذه الأجواء تلح على السارد ذكرى أول سرقة قام بها من أمام إحدى الدكاكين فقد أغراه مصطفى- ابن الخال العزيز - باختلاس نبتة، وبعد اختلاسها قام بزرعها في موقع ما من البيت، فرآها أبوه الذي عاقبه بقسوة على تلك السرقة. وفي ذلك الحين سمع من يصف ابن خاله ذاك بالشيوعي، ولكنه لم يكن على دراية بمعاني هذه الكلمة. كلمة أخيرة: وهذا الجزء من السيرة لا يخلو من حكايات ومواقف شيقة، وذات محتوى تاريخي واجتماعي وسياسي وذاتي: فعلى هذا المستوى أضاء السارد شخصية الشاعر الكاتب من زوايا عدة، أولاها علاقته بأمه التي تفضُل عاطفيا علاقته بأبيه القاسي مما يذكرنا على الفور بعلاقة جبران بأمه. وزيادة على ذلك علاقته بعمته آمنة، وعلاقته بجده، وعلاقته المؤثرة بمعلميه الطيطي وإبراهيم عجوة. وآخر هذه الزوايا علاقته ببعض أخواله وببعض أصدقائه وما تركوه فيه من أثر، وما تجلى لهذا الأثر من أصداء في بعض شعره. علاقته بالهوية التي رسخت لديه انتماءه لبلدته من جهة، ومحافظته الخليل من جهة ثانية، ولفلسطين من جهة ثالثة، وتعلقه بالجزء المحتل من العام 1948 وما تركته زياراته لتلك البقاع، والمرابع، من أثر استقر في وجدانه، وتعرفه على بعض الأعلام كمحمد علي طه، وغيره.. من جهة أخرى. وما سمعه منه من أخبار عن ممارسات الاحتلال الهمجي في البلاد عام 1948 . وتاريخيا تتضمن هذه السيرة المفاصل الآتية بما لها من صلاتٍ وطيدة بالحاضر الراهن:
احتلال عام 1948 زيارة الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بو رقيبة 4 مارس (آذار) 1965 الغارة على السموع ضمن ثلاث قرى من الضفة (عمواس ويالو) في13 /11 / 1966 حرب يونيو- حزيران عام 1967 وما اعقب النكسة من حوادث كمعركة الكرامة وتصاعد العمل الفدائي والحوادث المؤسفة عام 1970 وفاة الرئيس جمال عبد الناصر1970 حرب تشرين 1973 وعلى المستوى السياسي اتسعت هذه السيرة لإشارات عن بعض المؤامرات والاغتيالات والانقلابات وتأليف أحزاب جديدة عرفتها البلدان العربية بسبب الكيان الصهيوني. وعلى الصعيد الاجتماعي تضمنت السيرة سردا وفيرا، ومعينا لا ينضب، لما هو معروف ويكاد يمحي وينطمس من العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية في الزواج والطلاق والمناسبات وتقاليد البناء والليالي التي يحتفى فيها بالممناسبات، وطقوس الختان، وإحياء المواسم؛ كموسم رمضان وغيره، ولا يفوت الكاتب التعبير عن البعد الاجتماعي للغة التي تختلف من بيئة لأخرى، ومن لهجة محلية إلى لهجة أخرى، فما يقال في منطقة الخليل يلفظ بطريقة نطقية تختلف عن لفظه في بيئة أخرى. وما هو شائع في غزة مباين لما هو في الناصرة، أو حيفا، أو عكا. واستخدام المؤلف لبعض الأسماء العامية مثل العَقِد، وهربة البير، والدَحيّة، والميجنا، والروزنا، استعمالٌ يرتبط بدلالات اجتماعية تحيل القارئ لمفاهيم كاد الجيل الحاضر ينساها، وينشغل بغيرها عنها، في زمن (السوشال ميديا) وفي ذلك ما فيه من التوثيق، والتحقيق الدقيق.