|
شروق محمود رضوان في مرحلةٍ يعصفُ فيها الشكُّ باليقين، وتتداخل الطّرق حتى يكاد المرء لا يرى من نفسه سوى أطيافٍ متردّدة، نهضَ الكوفحي في حياتي الأكاديميّة وقفة الجبل، لا يُزاح، ولا يُمال، ولا يتوسّط بين النّقيضين، إذ يُقيم في كفة الرجحان منذ اللحظة الأولى. التقيتُ به في (الماجستير)، وكان اللقاء حدثًا يُدرك أثره كلّما ازداد المرء وعيًا بمقدار ما كان يجهله. لم يفتح لي أبواب العلم كما تُفتح القاعات، وإنّما راح يرفعُ عنها السّتائر واحدةً تلو الأخرى، حتى بدا لي الجهل لباسًا قديمًا كان لا بد أن يُخلع. لم يملأ فراغاتي بإجابات جاهزة، إذ أرهقني بأسئلة لا تموت، كلّما ظننت أنّي أجبتها أعادت تشكيل نفسها على نحو أعمق، حتى غدا الفكر في حضرته تمرينًا متصلًا على الشكّ النبيل والبحث الشريف. الكوفحيّ لا يُدرّسك بمحض ما يقول، إذ يُعلّمك بمحض ما لا يقول. كلّ صمته تعليم، وكلّ وقوفه على النص مراجعةٌ للنية قبل الأسلوب، والمقصد قبل اللفظ، والرؤية قبل اللغة. لا يمسّ ظاهر النّصّ إلّا إذا تمكّن من فحص بواطنه، ولا يمرّ على الفكرة ما لم يُحاكمها أمام ضميرها، وكأنه لا يصحّ لك أن تكتب إلّا إذا كنت صادقًا في صياغتك صدق الواقف أمام محراب. ما كتبت حرفًا تحت إشرافه إلّا وراجعت له ضميري قبل عبارتي، وما خططت رأيًا إلا اختبرته كما علّمني: بمقدار ما يحتمل النّقد لا بمقدار ما يرضي القارئ. كلّ مراجعةٍ معه جلسة عصف لا تترك وهمًا إلا ونزعته، ولا ادعاءً إلا وهتكته، ولا رأيًا هشًّا إلا وأقام عليه الحجّة حتى استقام أو تهاوى. يقسو حين تكون الرحمة ضعفًا، ويصمت حين تكون الكلمات مجاملة، ويُعيدك من أوهامك إلى نصّك كما تُعيد المرايا صُور الذاهلين. ومع ذلك، لا يُرهقك حضوره، إذ يدفعك لتُرهق نفسك في سبيل أن تستحقّه. لا يُشعرك بثقله؛ لأن حضوره مزيج من السكينة والدقّة، من الطمأنينة والإتقان، من الهيبة التي تُلزمك أن تكون أفضل دون أن يأمرك، والّتي تدفعك أن تُراجع ألفاظك لأنّك تعرف أنّه سيرى ما لا تراه، ويفهم ما لم تُصرّح به. أستاذي الكوفحيّ ليس معلمًا عابرًا، ولا إشرافه محطة تُطوى؛ فقد ترك فيّ عقلًا يُحاسب نفسه. كلّ نصّ أكتبه اليوم، أقف على بابه طويلاً، أسائل نفسي: هل هذا كلامٌ يرتقي أن يُعرض عليه؟ هل بلغتُ فيه حدّ النّضج الّذي ارتضاه مقياسًا؟ هل ابتعدتُ عن الزيف كما علّمني أن أبتعد؟ في زمنٍ تُباع فيه العبارات بلا أثمان، وتُرفَع فيه الأطروحات على أكتاف المجاملة، اختار الكوفحي أن يكون بوّابةَ النار. لا يخرج من تحت يده إلا من صُهر، لا ينجو إلا من تعلّم أن يحترق قبل أن يكتب، لا يُجيز إلّا ما خلص من التكلّف، ونُقّي من الزبد، وارتفع كالصخر في نُتوء المعنى. للكوفحي في القلب منزلٌ لا يشغله أحد. ليس احترامًا مؤقتًا، ولا عرفانًا موسميًّا، وإنما امتنانٌ ممتد، وعهدٌ ألا أنقض ما غرس. سأمضي في طريقي الأكاديمي ما حييت، غير ناسية ٍاليد الّتي أمسكت بي حين كنتُ أقرب إلى العثرة من الخُطى، ولا غافلةٍ عن عينٍ قرأتني كما لم أقرأ نفسي. وإن كان من علوٍّ قد بلغتُه، فهو من ظلّه، وإن كان من معنىً قد استقام في قولي، فهو من صوته الذي يسكن فيّ، وإن كنتُ باحثةً اليوم لا تركن إلى السّهل، فذلك لأنه اختار أن يزرعني في التربة الأصعب، حيث لا ينمو إلا الصدق، ولا يُزهر إلا الحقّ. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 07-07-2025 11:39 مساء
الزوار: 38 التعليقات: 0
|