قراءة في كتاب «في اللّسانيّات ونحو النّصّ» لإبراهيم خليل
عرار:
يقدّم المؤلف بداية تعريفا للسانيات بأنها: «الدراسة العلمية للغة، من حيث هي لغة، دراسة مستقلّة عن العلوم الأخرى» . ويميّز بين هذا التعبير وتعبير آخر هو «الفيلولوجيا» الذي ترجمه بعضهم إلى «فقه اللغة». فالفيلولوجيا تهتم باللغة المكتوبة أكثر من المنطوق والمحكي، وبالنصوص الأدبية القديمة؛ ما يجعل وصفها للغة غير موضوعي، ولا دقيق، لاقتصارها على جزء محدد من اللغة هو اللغة الأدبية.أما اللسانيات فهي وصفية لا معيارية، وتزامنية لا تاريخية، وتعتمد المنطوق والمحكي، وتعنى باللغة جلّها.(ص13) ينتقل المؤلف بعدها إلى عرض المدارس اللغوية المعاصرة، فيبدأ بـ»لسانيات سوسير «؛ الذي يعتقد أنه تأثر في كتابه «محاضرات في علم اللغة العام» بأفكار النحاة الجدد في جامعة لايبزغ، وباللغوي الأميركي وتني، خاصة فيما أورده عن «الفونيم».ويطرح بعدها الأفكار الجديدة التي تطرق لها سوسير في كتابه «دروس في الألسنية العامة»، وأهمها التفريق بين اللسان واللغة، وبينها وبين الكلام، مفرقا بين النظر الداخلي والخارجي، والوصفي والمعياري، والعلاقة بين الدال والمدلول... وهي ما اصطلح على تسميته «ئنائيات سوسير» لأنها غالبا ما تنطوي على الشيء وما يقابله، أو الشيء ونقيضه (ص15). أما حلقة براغ التي أسسها العلماء الروس أمثال رومان ياكوبسون، ونيفولاي تروبتسكي، وكارل بولر...فقد تأثرت بآراء سوسير، خاصة باهتمامها بالصوتيات، ثم اهتمامها بالوظائف اللغوية، وقد تبنّت المنهج الوصفي بدلا من المعياري أو التاريخي في دراسة اللغات.وميّز البراغيون في دراستهم للأصوات بين ثلاث زوايا ينظر منها إلى الصوت اللغوي، هي:من زاوية المتكلم، من زاوية السامع «المتلقي»، من زاوية الوظيفة اللغوية للصوت (ص22). وأشار خليل إلى براعة «حلقة براغ» في الربط بين وظائف الصوت اللغوي «الفونيم» والصرف، والاشتقاق، وتأثير الفونيم ودوره في «المورفيم» المقيد الذي يُعدّ الوحدة الصوتية الصغرى المرتبطة بالوحدة الأكبر «المورفيم» الحر(ص23).وبراعتهم في وظائف اللغة؛ علاقة الصوت بالمعنى، والتمييز بين اللغة المعيارية المحايدة،واللغة الأدبية، وتطرّق المؤلف هنا إلى جهود ياكبسون الذي مهّدت بحوثه في اللغة الشعرية لظهور ما يعرف بالأسلوبية «علم الأسلوب. وتناولِه مجموعة من العوامل السياقية، (المرسل: المتكلم، الرسالة: الكلام، المرسل إليه: القارئ، والسياق)، التي يتوقف عليها نجاح التواصل اللغوي(ص24). أما مدرسة كوبنهاجن؛ فقد تصدرها عالمان هما:هانزأولدال، ولويس هيلمسليف الذي تأثر بداية بسوسير، ثم أبدى توجها جديدا مغايرا، فقد استبدل كلمة «التعبير»بالدال عند سوسير، و»المضمون» بالمدلول، والعلامة اللغوية عنده ليست دالا يؤدي إلى مدلول وإنما تعبير يدل على مضمون.وموضوع اللغة عنده هو الشكل وليس المادة. وفي كتابه «مقدمات إلى نظرية اللغة» عرضٌ مترابط لآراءالمدرسة المعروفة باسم التعليقية أو العلائقية «Glossmatics» (ص26). ويذكر خليل أن هيلمسليف قد صنّف جداول تتضح فيها العلائق بين الإشارات اللغوية، والعلاقة بين الموقع والحالة الإعرابية، فوظيفة العلامة اللغوية عنده مستمدة من الموقع الإعرابي، ووجهاها: التعبير والمضمون، يشترط كل منهما الآخر، وليس مجرد إلحاق مثلما ذهب سوسير.وقد تنبه إلى علاقات التتابع في الجملة، فوضع فريضته أن تتابع الفونيمات تتابع ثابت تحدده قواعد إجبارية، بينما يخضع تتابع الكلمات لقواعد متباينة، وقد يكون حرا في بعض اللغات(ص27). مدرسة لندن: تأثرت المدرسة الإنجليزية بالعالم اللغوي الفرنسي برايال واضع أوّل كتاب في الدلالة، وبالأمريكي سابير وكتابه اللغة الذي يؤكد على حقيقة أن دراسة اللغة في معزل عن السياق الثقافي والحضاري دراسة عقيمة، لا سيما فيما يتعلق بالمستوى الدلالي (ص28). ويرى خليل أن المدرسة الإنجليزية تختلف عن غيرها من المدارس في أنها لم تكتف بالتأثر الإيجابي بآراء سوسير، وإنما صاغت تأثرها به في إطار الرد على بعض مقولاته الأساسية، فلغويّو لندن يرون أنّ ما ذهب إليه من التفريق بين اللغة والكلام على أساس أن اللغة منتج جماعي والكلام منتج فردي، قول غير دقيق، فهم يرون أن الكلام أيضا اجتماعي، وأن اللغة والكلام جِسْرَا التواصل بين الأفراد وشرائح المجتمع.(ص29-30). أما المدرسة الأميركية، فقد اتجهت وفق رأي الأستاذ الدّكتور إبراهيم خليل، إلى النحو أكثر من أي شيء آخر، ومن علمائها فرانز بواز، صاحب كتاب دليل اللغات الهندو-أميركية، وفيه يرى أن أبرز ما يميز هذه اللغات هو القواعد النحوية.أما الأب الحقيقي لعلم اللغة الأمريكي فهو العالم إدوار سابير صاحب كتاب «اللغة» الذي وضع فيه بحوثا تتعلق بالأصوات، ومقارنات بين اللغات في الجانب الفونولوجي، وتتلخص آراؤه في اللغة والإشارة اللغوية بنقاط عدة منها: اللغة نظام مزدوج: المعنى وهو موضوع الدلالة والشكل وهو موضوع النحو، النحو في اللغة يحتاج إلى دراسة شكلية. (ص31-39). الصوت يرى الأستاذ الدّكتور إبراهيم خليل أن الكلام المنطوق يمثل طبيعة اللغة، وجوهرها، تمثيلا يفوق بدرجات تمثيل الكتابة.فالانفعال والتعاطف والتوكيد والتنغيم أمور لا يكشفها الكلام المكتوب.ثم يقدّم نموذج سوسير المنهجي الذي يبدأ بدراسة اللغة دراسة متدرجة: الفونيم يليه المقطع، ثم الظواهر فوق المقطعية والمورفيم والكلمة والعبارة أو التركيب النحوي ثم الجملة فالخطاب(ص42).وقد ربط هذا النموذج الدراسة اللسانية بعلوم عدة هي:علم الصوتيات، الصرف، علم الدلالة، النحو، علم النص. يستعرض بعدها خليل تاريخ الصوت اللغوي ويذكر بعض العلماء العرب الذين اهتموا بهذا المجال مثل ابن جني في كتابَيه سر صناعة الإعراب والخصائص، والمبرّد في المقتضب، ابن فارس في فقه اللغة... ومنهم ابن سينا الذي عني بالنطق والأصوات عناية علمية، وفي رسالته «رسالة في أسباب حدوث الحروف» نجد أول وصف لجهاز النطق عند الإنسان قائم على المعرفة بالتشريح. الدراسة النطقية للصوت: لقد اهتم اللسانيون بوصف أعضاء النطق، وفي هذا الكتاب يشرح المؤلف دور كل عضو وأهميته في عملية النطق كالحنجرة والحجاب الحاجز والرئتين، ويعقد مقارنة بين حجم اللهاة الضخم عند الرضيع وكيف يصغر حين يبدأ بترديد الأصوات.ويتطرق أيضا لأهمية الفم وتجويفه وما فيه من أجزاء كاللسان والأضراس وسقف الفم، ودور كل جزء في إضفاء الصفات النطقية المميزة للفونيمات. وتصنيف الأصوات وفقا لذلك إلى:الأصوات الحنجرية والحلقية واللهوية والنطعية والحنكية واللثوية والشفوية اللسانية والأنفية والفموية (ص45). المقطع الصوتي: يتألف المقطع من صوت صامت «صحيح» وآخر صائت، وقد يتألف من أكثر من ذلك.وتساعد معرفة المقاطع على النطق السليم للكلمات،وتذليل الصعوبات الإملائية، وتحديد موضع الارتكاز أو النّبر «الضغط».والمقطع في العربية نوعان رئيسان: المقطع القصير والمقطع الطويل، والمعيار في تسمية المقطع قصيرا أو طويلا هو الصائت. ويمكن تصنيف المقاطع الصوتية من حيث ما تنتهي به إلى: مقطع مفتوح وآخر مغلق، فإن انتهى بصامت عدّ مغلقا، وإن انتهى بصائت عدّ مفتوحا.ويعد الصائت نواة المقطع في العربية، ويكون في وسط المقطع المغلق وآخر المقطع المفتوح (ص52-55). علم الأصوات الوظيفي «الفونولوجيا»: يبحث في خصائص الأصوات وصفاتها، وما يطرأ عليها من تغيير في النطق أثناء الكلام، وما يفقده الصوت من خصائص أو يكتسبه من صفات بمجاورته هذا الصوت أو ذاك.ويرجع الاهتمام بهذا الجانب لأسباب منها: أن النطق أولى بالدراسة من الكتابة، وأن المعرفة بقواعد التغيير على الأصوات يضع حلولا لبعض المشكلات التي تواجه متعلمي اللغة من غير الناطقين بها. وقد وضع اللغويون ما يعرف بالملامح المميزة للأصوات، وهي جداول تتبع نظام (binary system) باتخاذ مسارات ثنائيةتعتمد على إشارة موجبة +، أو سالبة -، وتتطابق أعمدة الجدول مع عدد من الصفات: مجهور، مهموس، وقفي، احتكاكي.... إلخ. وفي المقابل تكون الأصوات المطلوب بيان ملامحها (ص57). الصرف الصرف في اللغة التغيير، وعلم الصرف هو العلم الذي يبحث فيما يقع في الكلمات (الجذور) من تغيير هدفه بناء كلمات جديدة. ويجب التفريق بينه وبين النحو، وبين التصريف والاشتقاق، فإذا كان التغيير على الكلمة يؤدي إلى تغيير معناها الأصلي فهذا من باب الاشتقاق. ولا يمكننا تناول الصرف في معزل عن قواعد النحو، وكان سوسير قد فرّق بين الصرف والنحو تفريقا يؤكد الوحدة بينهما بدلا من توضيح الفرق، فهو يرى أن التفريق بينهما على أساس الوظيفة تفريق خادع، إذ لا فرق بين الأشكال والوظائف. ويؤكد المؤلف أنّ الصرف متصل اتصالا وثيقا بالصوتيات، لا سيما بالجانب الفونولوجي، فأي إجراء صرفي يلحق بالجذر لا بد وأن يصحبه تغيير في البنية الصوتية له.وفي العربية يقوم مورفيم الجمع بوظيفتين إحداهما صرفية والأخرى نحوية كالواو والنون في جمع المذكر السالم، وينسحب ذلك على علامة التثنية. ويخلص خليل إلى أن ثمة تشابكا بين المستويين الصرفي والصوتي، وتداخلا بين النحو والصرف، فاللغة تتألف إذا من نظام متعدد: صوتي وصرفي ونحوي ومعجمي لا يمكن إنكار ما بين مستوياتها المتعددة من الترابط والوحدة (ص67-71). وعليه فإنّ هذا الكتاب يعدّ مرجعيّة لغويّة غنيّة بالدّلالات والنّظريّات الثّريّة.
الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 17-08-2018 10:14 مساء
الزوار: 1006 التعليقات: 0