عرار:

المفرق - إبراهيم السواعير - أمام الشعراء الشباب فرصة أن يستفيدوا من مجموعة التجارب الذّكية التي خرجت من الشرنقة وفرحت بالشعر؛ وهي فرصة إن نحن كابرنا في الحفاظ على قصيدة العمود أمامها كان لزاماً علينا أن نقنع هذه التجارب بأننا نستطيع أن نشتغل أكثر؛ فلا نبقى يقلّ لدينا الشعر وتكثر عندنا العروض.


يلفت في ملتقى المفرق الأوّل للشعر العربيّ، الذي هو عينة ممتازة على هذه الظاهرة من ملتقيات ومهرجانات محليّة، أنّ المسألة لم تعد حرباً بين قصيدة عمود ونصوص خرجت عليها، بل أصبحت انسحاباً لهذا النمط (البائد) الذي لم يعد يقنع إلا المترخصين في توسيع الآفاق واجتراح الأفكار واللعب مع اللغة.
ثمّة قصائد عمودية أو (أصيلة)- وبالرغم من كلّ ما طرأ عليها من الاشتغال ومحاولة الترميم والتخفف من ذيول الأبيات المستلّة أو المعاني المحددة- كان ظهورها خجولاً أمام أصوات علت في مشهدنا المهرجاني الشعري الذي لم يعد (مدرسياً) أو خطابياً، أو لعباً على العواطف القديمة إلا لدى طائفة قليلة من محبي السجع وتطابق أواخر الأبيات؛ فالحاصل أنّ سحراً تحمله قصيدة التفعيلة، وحتى نصّ النثر، بات يتجرّأ أمام الحضور على تواضع الثيم وسذاجة التعبير، ما يضع كثيراً من الشعراء موضع الإحراج.
هل تخلّى جمهور المهرجانات لدينا عن نظرته تجاه النصوص التي (صبأت) عما هو مكرور و(مقدّس)؟!..، لا أقول في المواضيع بل في النمط والشكل؛ إذ بات يَقلق هؤلاء للإحراج الذي يتعرضون له عقب نصوص وسّعت من مداها الذهني ولعبت على البدائل، حتى أنّ غمزاً من قناة هذا الشاعر أو ذاك في شعره أنه بسيط.
في فترات سابقة كان يستحي صاحب نصّ النثر من أن يقرأ بين (فحول) يعلو صوتهم فيلهبون الأكفّ، مستفيدين من موضوعة هي محلّ طلب عند العامة أو غير المهتمين، غير أن القاعة كلّها حتى وإن ضجّت بالتصفيق فإنّ النخب والمثقفين والمطلعين على شروط الشعر يهزمون هؤلاء باستهجانهم محدودية التلقي لمحدودية النص.
إذا كانت موضوعات الشعر المحدود إلا من الصوت العالي تروح وتجيء فإنّ هذه الموضوعات ذاتها تتطلّب اشتغالاً على متناقضات السياسة وما بعد (الربيع) والأحوال الدامية وبؤس المجتمعات، وربما تكون هذه الضرورات ما يؤيّد أن نوسّع الفهم بدلاً من اجتزائه في قصيدة لا يكاد ينتهي شطرها (المصنوع) حتى ترتطم فكرتها البليدة بالعجز.
رحابة المدى وسهولة التعبير عن فكرة عظيمة أو خلق فكرة غير ملتفت إليها كان سلاحاً لدى شعراء عرفوا كيف يحاورون ويسخرون ويتساءلون، ليستميلوا فيكسبوا مناصرةً أو إعجاباً، في حين اعتاد ضيقو الأفق الحذر من التجريب حتى داخل بيت في قصيدة!
إنّ ولوج المجددين لمناطق بكر وعثورهم على صوتهم الخاص فيها وفرحتهم بظلال الكلمات الذي هو الشعر، سبق غيرهم من المحافظين من غير تجديد أو تطوير لما نشأوا عليه ووجدوا غيرهم به شديد الاحتفاء يرفض أن يناله شيء من التطوير.
النخب والمخلصون للشعر باتوا يزاحمون الجمهور التقليدي حتى لو كانوا قلّة، وواقع الحال يؤكّد أهميّة أن تتم الاستفادة من حكمة التنوّع في المهرجانات بين الشعراء، وإلا فإنّ فنيّات هائلة تضيع إن نحن لم نفطن إلى حقيقة الشعر.
نريد لشعرائنا أن يقنعوا المهرجانات العربية أيضاً، فيعمدوا إلى تحكيك قصائدهم ونصوصهم لكي تبقى غاليةً في الأسماع.
بين أيدينا ثلاثة نصوص منتخبة لثلاثة شعراء، اختتموا ملتقى المفرق للشعر العربي أول من أمس في أمسية أدارها الزميل حسين نشوان، يمكن أن نتداولها على التنوع الذي يجب أن يفضي إلى نتيجة في نهاية القراءات يحملها الشاعر نفسه قبل أن يعقد بشأنها المقارنات الجمهور.
تقول الدكتورة مها العتوم من (شارع أو أقلّ): (بيننا شارعٌ../لا ممرّ لسيارةٍ/ أو لأقدام ناسٍ حقيقيّة/..بيننا خضرة العشب لا العشبُ/ أو..زرقة البحر لا البحرُ/ بيننا..شارعٌ أو أقلّ../ شارعٌ واحدٌ يتلفّت فيك وفيَّ: تغني لعبدالحليم يغنّي../ تصفّر لحناً حزيناً فيعلق بالسّرو/ تطلقه ضحكةٌ عبثيّة شكلٍ/ عميقة طيرٍ.. ومعنى/ بيننا شارعٌ/ يتعلّم مزج الروائح منّا/ من العطر فوق القميص/ وتحت الكلام/ يلخّص عمان/ في شارع واحدٍ بيننا/ أو أقلّ../ لو تطلّ الحديقة فينا/ ترى نفسها../ وترى الحلّنار الذي ضاء/ في عتمة الجسدين/ وليلاً تبلل من ليلك الشفتين/ وما ظلّ قرب اليدين من الطين/ يسكر في الكاف والنون:.. في لغةٍ/ تتقاطع فيها السموات والأرض/ في.. شارعٍ بيننا أو أقلّ/ إذا خفّ إسفلت هذا الحنين/ ولم يبق إلا التراب/ نطير على شرفات البلاد تراباً/ ونعبر ما بيننا../ خطوةً/ خطوةً/ لا نملّ/ وما بيننا.. شارعٌ أو أقل).
وتقول في (النساء): (الدموع التي جمعتها المحارة في جوفها دمعةً دمعتين ثلاثاً غدت لؤلؤة. والنساء اللواتي ارتدين الدموع تدافعن في ساحة الرقص يلهب ضوء المحارة أجسادهنّ وينشج حزن المحارة فوق الأصابع، يصغين للموج فيهنّ، فيما يسيل من الجسد الحيّ بحرٌ، وفيما يعدن النساء كما كنّ ماءً وملحاً وضوءاً وحزناً ليجمع زرقتهنّ ويذرفهنّ المحار البعيد، وفي الليل في آخر الليل يخفين دمعاتهنّ الثمينات في علب الحلم يشرعن باب المنام لبحرٍ جديد. المحارة ماضي النساء السعيد).
ويقول الشاعر محمد تركي حجازي من (قصيدة تتهجّد): (تحنو على شعر الحروف وتمسدُ/ كفٌّ بطعم النور تهمسها يدُ/ تغفي المداد على سرير نقائه/ طفلاً تراوده الرؤى وتهدهدُ/ تلقيه في يمّ السلام وتقتفي/ قبساً من الضوء القديم وتحمد/ تصغي لأنهار الخشوع فليلها/ يفنى وليل الغافلات مؤبّدُ/ ومضت تفكّ عرى الظلام بذكرها/ فأطلّ من شقّ العباءة مسجدُ..../ خشعت وأنت بناطفات يقينها/ ربٌّ يخرّ له الوجود ويسجد/ لزمت مصلّاها وبيتك قبلةٌ/ والوجد محرابٌ وعفوك موعدُ/ والبوح من عبق الدعاء سلالمٌ/ والأمنيات على السلالم تصعدُ/ ياربّ لا تخذل رجاء قصيدةٍ/ جلست على باب الرضا تتهجدُ).
ويقول من قصيدة (بريد عينيك): (بريد عينيك ماذا في بريدهما/ رسائلٌ أم هدايا أم مواعيدُ؟!/ أم جئن يسألن قلبي هنّ إخوته/ قميصه بذراع الحسن معقود/ عقدنه دامياً مسكاً وصاحبه/ في سرّ ليلهما والجبُّ موصودُ/ مغيّبٌ عن عيون السائرين ضحىً/ ورقمه في سجلّ الخلق معدودُ/ أسرار عينيك في سفر الهوى لغةٌ/ يبثها من وقار الجفن عربيدُ/ ألا تخافين يوم الحشر متسعاً/ من العذاب بمن أشقاه تسهيدُ؟!).
ويقول الشاعر جاسر البزور من قصيدة (أنا الشعر): (أنا الشعر لولا أنّ قلبي متعبٌ/ ومن أيّ شيءٍ قد أثور وأغضبُ/ تعتّق في روحي الهجاء فأقبلت/ حروفي كخيلٍ في المعامع ترعبُ/ وتعرفني عند الغناء بلابلٌ/ لها الناي يصغي ما أذنت فيطرب/ تراني كطيفٍ لا يبلله النوى/ أسامر صبّاً في الهوى يتعذّب/ أنا الشعر والتاريخ يشهد أنني/ على كلّ مجدافٍ وبابٍ سأكتبُ).
ويقول أيضاً: (تنفّس في ضلوع الشمس قلبي/ وغازل ربة الوجه الصبوح/ فعادت من صحارى الريم عيني/ وقد ألقت بحب العشق روحي/ فسار الشيب مندهشاً لأنّي/ تجدد نحو أحجيةٍ طموحي/دعوتك أطفئي بالوصل شوقي/ وعن غيري بوجهك فلتشيحي).