(خبْط الأجنحة) قبل أن تجده بين يديك عليك معرفة الملابسات التي أحاطت بكتابة سيرة المدن والمنافي والرحيل، فإن طبيعة تفاعل ناصر مع الشكل السيروي هي التي تستوقفنا ، لنسجل في هذا السياق سؤالا مهما:  هل غرّب ناصر طريقة كتابته للسيرة دون أن نستهجن ذلك، تماشيا مع موقفه من كل ما يكتب على منوال الغربيين بغض النظر عن الإطار الذي تجري فيه الأحداث؟
أم أنه استطاع في «خبط الأجنحة» أن يطور ويطوع الشكل السردي الغربي، إلى الدرجة التي أصبح فيها يمتلك قدرة عكس أغراضنا وانتباهنا في البنى نفسها؟
سأصنّف سيرته ضمن دائرة التجريب بصفتها  تلاحما بين كل ما أنجزه،وما تمناه، ولهذا تتطلب قراءتها امتلاكا للمعرفة اللازمة بفلسفة الكتابة الجديدة كما تبلورت في الغرب، وكما تفاعل معها أمجد من منطلق ثقافي مغاير.
فلنمْثُل لقمة الصِدام بين جديد الإبداع والحكم الجاهز،  بإرباك سيرته وإحراجها لنفسه وللأسماء التي تحدّث عنها،والذين كانت المحاكمة الإيديولوجية مقصدهم، مما أدى بهم إلى إنتاج أحكام قيّمة تقوض نفسها بنفسها ليؤكد في النهاية بأن «الأجنحة» عمل فني فاتح وجدّيّ يتمتع بأسبقية إبداعية.وكان أمجد ناصر يتنبأ بشراسة النجوم بما سيحدث معه، فلم يترك نفسه للمفاجأة قط طوال سيرته.
فعلى مستوى المحتوى الحكائي، حاول أمجد أن يمنح القارئ بعض مفاتيح فهم عمله السيرويّ ،وقد نظر من خلال هذا الإبداع إلى الذات من باب الازدواجية المفروضة عليها،والتي أدت بها إلى فقدان البوصلة بسبب الخيبة الحضارية التي تعيشها، كما نظر إلى الآخر (الغرب) من باب مكتسباته وأزماته أيضا، 
وكأنّ صوت روحه يقاوم في كل مطار يصل إليه ليقول: أنسيت يوم كنا نقتل في كل لحظة من حياتنا، في المدارس والدكاكين، في الشارع وفي المقهى، يعترض لنا الموت شخصا ويفقدنا الأمل ثم يذهب لأكل شهي وفراش وثير.
إلا أن محتوى «الأجنحة «لا يصل بسهولة إلى القارئ الذي يحس أثناء قراءته للسيرة ببعض الغموض واللبس: فأمجد الذي تناول الماضي من أفق المستقبل، نظر إلى الواقع المتعدد، شأنه في ذلك شأن الروائيين الجدد، ليس فقط في حركيته وتغيره وإنما في ضبابيته وفراغاته وبياضاته وفي زئبقيته أيضا،وكأنه يؤكد فكرة الرواية العميقة في سيرته الحبيسة.ومع أن هذا الغموض- الذي تزكيه التسوية  بين لغة السيرة ولغة الشعر، أي عدم الفصل بين اللغة السيراوية والموضوع الروائي - ليس عرضا وإنما هو جوهر  يحيل على أن عمل الكاتب عمل معقد وغامض دوما، وبحث متواصل عن شيء لا يعرف كنهه ، يظل الرهان المطروح على ناصر خلق التوازن الضروري بين عمق التفكير والمقروئية.
وتنبع أهمية «خبط الأجنحة « أيضا من انفتاحها الواعي واحتضانها الحذر لفضاءات وعلامات غير مسبوقة، فكم مرة كانت النجوم دليله في سفره في عالم نهتدي به بالعلم والتكنولوجيا،ومن هنا كانت تزخر سيرته بتوظيف تقنيات حديثة في الكتابة، تكشف طريقة اشتغالها عن الجهد الكبير الذي بذله لتطويعها. فالأزمنة تتداخل لتؤدي في النهاية إلى التباس وظيفة الماضي والمستقبل، وتتعدد الأصوات السردية العاكسة لاختلاف وجهات النظر وتنوعها  في تجانس لتشكل جميعا صدى للصوت الإنسانيّ الأصل: ويكفي في هذا السياق أن نربط الصلة بين علاقة التباعد بين الشخصيتين الحميميتين وعلاقات الذكورة والأنوثة المستحيلة، فليس المنفى وحده ما يشغله، وليست عمان بمقاهيها وقراها التي تركها غضا وعاد ليكاد يُجنّ ويبكي حين فقدت بريقها هي التي تصرع خياله،بل هناك هم أكبر يعيشه ويخاف فقدانه بتلك الزوجة التي سكنت معه كل المطارات وفقدت معه كل الأرواح.
أما اللغات فهي إذ تعكس قدرة الجنس الكتابيّ على تمثيل تعددية وسائل التعبير، تترجم في المقابل رغبة الكاتب في التأصيل من خلال جعل لغة التصوف جسرا رابطا بين أمشاج اللغات الدارج منها والفصيح والسوقي والشعري والفلسفي والشعبي.
وقد فرّغ نفسه للحديث عن تفصيل الروح المحكية الشعرية في حياته،فقد كان للقاهرة الأثر الأكبر في مساراته،وكيف للشاعر أن يرى القاهرة بكل ما فيها من حضارة وصراع ولا تقوم له قائمة السرد المبتكر.
وقد أطّرأمجد لتقنيات جعلت من النص بؤرة للمحتمل واللايقين بتقنية الانشطار التي تتطلب وجود محكي رئيس تتفرع عنه محكيات صغرى تنير معناه وتتيح من بين ما تتيحه انفتاحا أكبر على المحتمل. وفي هذا السياق، نثير الانتباه إلى حواره  الحذر مع التراث من خلال محكي الغربة التي يستشعرها في كل مهبط يهبط إليه، فهذا المحكي يقدم صورة مخالفة للصورة التي ترسبت في الذاكرة العربية عن السفر والترحال.
ويفيد اشتغاله بالمدن ووصفها بطريقة خفية في كتابه وهو يطير على أجنحة تتخابط من مكان إلى آخر بأنه واعٍ بأن معدن السرد ليس غربيا، واع في ذات الوقت بحاجة الكاتب العربي إلى استيعاب التقنية الغربية في مجال السيرة وإلى التسلح بالحذر أثناء تعامله مع وصف الرحيل وهبوط المدن
أمجد في سيرته لا يدع مجالا للشك بأن كتابة سير- ذاتية روائية، أي سيرة منتقاة لا تتقيد بحرفية الأحداث وبتوقيتها الزمني المضبوط، وإنما تعيد تشكيل ملامح ومشاهد من أحداث ماضية وفق زاوية رؤية متطورة، كما تدل على ذلك مجموعة من التأملات التي تنقل القارئ من مستوى السرد إلى مستوى التأمل. 
السؤال النوعي في رحلته السيرية:
هل تعمد الله أن يخلق هذا العالم على هذا الشكل من الفوضى والتنوع والغربة والترحال؟
وقد استطاع أن يمزج  بين الواقع والمتخيل من جهة، وبين ما فكر فيه وقرأه بعد أن تخطى مرحلتي الطفولة والمراهقة وأصبح قادرا على إنتاج سيرته الذاتية من جهة أخرى.
وبما أن التسكع الناتج عن التشرد يمثل وسيلة الشخصية الانشطارية في العيش،والباحثة عن شاعريتها حينا وعن راحتها حينا آخر، فإن فضاء لندن الدولية يكتسي أهمية قصوى في سيرة أمجد، باعتباره المبرر الأول للحكي والمساهم الأكبر في تكوين نفسية الشخصية وتحديد مسارها. بل إن تأثير هذا الفضاء بكل ملابساته التاريخية والاجتماعية على أمجد، هو الذي ساهم بقوة في إفراز نوع عربي جديد. يبحث عن عمان بمقاهيها، والأصدقاء فيها، والكتابة بطرريقة مختلفة فيها وعنها.
إن سيرة أمجد تمتاز بكونها تلقائية متدفقة ومتحررة من إرغامات الوعي، لا يحس فيها القارئ بإرادة معينة في التفلسف أو تحديد موقف إيديولوجي معين لنفسه بقدر ما يفرضه على غيره من أصدقائه، وبقدر ما يحس بعمق التشخيص الذي يبرز علاقة الشخصية بالتجربة المعيشة وبالتاريخ، بواسطة لغة تخدع القارئ ببساطتها الظاهرة وباستعمالها للصياغة الشفوية، لأن هذه البساطة تخفي في طياتها عمقا وتحكي عن تجربة رسمت صورة مناقضة ومخالفة لكل ما تم التواضع عليه، وأعادت كتابة التاريخ غير الرسمي من خلال أجساد المهمشين.
هذه سيرة ستأسرك ببساطتها ورمزيتها الذكية. وحينما أقول بساطتها، فإني هنا لا أعني الانتقاص، بل التقدير. فالحديث هنا عن سهل ممتنع، عن أسلوب بسيط ومفهوم، لكن قادر على التحليق.