د. ميمون مسلك/ أغادير، المغرب إنّ القصّة القصيرة جداً، رغم قصرها الشّديد، إلا أنّها تتّسع لكلّ المواضيع، ومن دون استثناء. ومن ذلك المواضيع الاجتماعية. حقاً، إنّ المُعالجة مختلفة، بينها وبين القصّة القصيرة أو القصّة، أوالرّواية. وذلك مردّه للحجم وضرورة تحكّمه في اللّغة والأسلوب. و إنّ من قصّاصينا العرب، الذين استهواهم الجانب الاجتماعيّ بشكل لافت، بكلّ أوضاعه وتناقضاته، وحيثياته... القاصّ هاني أبوانعيم، فجلّ كتاباته القصيرة جداً، تتمحور حول قضيا اجتماعية، سواء كفضاء واسع لعدّة أسر، وقيم، ومبادئ، وتقاليد، وأعراف... أو كأسرة واحدة، في معاناتها مع اليومي المُعتاد، والمَعيش ومفجآته ومسرّاته... وشقائه ومُكابداته... ومن ذلك نصّ «اسْتتباب». العنوان: استتباب. لغويا: استتباب: اسم، وهو مصدر استتبّ، وتفيد الاستقرار بعد فوضى ورعونة واضطراب. كأن نقول: استبّ الأمن: أي استقر، وعاد كما كان منتظماً. وبذلك يكون الاستتباب: اطّراد الشيء، واستقامته، واستقراره... النص: «لاحظ تزامن دخول أمه إلى البيت مع عودته كل مساء، سأل زوجته عن أسباب قد تعرفها، ردت بسخرية إنها تميل لرفقة الأرملة في الشقة المجاورة، قبل أن يغادر إلى عمله صباحا، طلب إلى والدته ألا تخرج بعد اليوم، فالجارة ستكون رفيقتها الوحيدة». النص يدخل في إطار ما نسميه (قصة الحالة)، اجتماعيّ يخصّ الأسرة، حين لا تقتصر على زوج وزوجة، بل تكون بإضافة أحد الأقارب. والقريب في هذا النص هي أم الزّوج. التي اعتادت أن تخرج رفقة الجارة الأرملة، ولا تعود إلى البيت إلا وقت عودة ابنها من عمله. الشّيء الذي أثار حافظته . فسأل زوجته فأخبرته بسُخرية بما تعرف. صباحاً، وقبل أن يغادر إلى عمله، طلب من أمّه ألا تخرج، لأن الجارة الأرملة ستكون رفيقتها الوحيدة. كما نلاحظ، النص يعلن ببساطة عن نفسه. فلا غموض، ولا إبهام، ولا رمز، ولا أسطرة.. كما هو مألوف في مثل هذا الجنس وكتابته. إلاّ أنّ هذه البساطة غير بريئة، لأنّها تقود المتلقي إلى تلمّس بعض الأشياء المَسكوت عنها في حياتنا الاجتماعية، الشّيء الذي يثيرُ جذوة النّقاش، ويدعو لتدبّر الأمر. كما سنلاحظ: النّص مكون من خمسة مقاطع دلالية: 1 - (لاحظ تزامن دخول أمّه إلى البيت مع عودته كلّ مساء). كلمة «لاحظ» لا تخص الشّخصية وحدها، بل هي تخصّ المتلقي أيضاُ، كتنبيه من أوّل النّص. لأنّها تدعوه للتّساؤل: لماذا تغادر الأمّ البيت بعد خروج ابنها؟ ولماذا تعودُ وقت عودته بالضّبط؟ ولماذا يحدث هذا كلّ يوم؟ ولماذا تفعل ذلك الأم؟ هل لكونها لا تطيق زوجة ابنها؟ أم لكونها لا تطيق البقاء في البيت؟.. سيل من الأسئلة، قد يتوارد إلى ذهن المتلقي، فيثيرُ فضوله، ورغبته في معرفة سرّ الخروج المستمر! الذي ليس عادياً، حتى يمكن غض الطرف عنه. وبخاصّة أنّه أصبح يومياً. وكأنّ الأمّ لا ترتاح في البيت إلا بوجود ابنها. 2 ـ (سأل زوجته عن أسبابٍ قد تعرفها). أمرٌ عادي، أن يرتاب الابن في حالة خروج أمّه، وعادي جداً أن يسأل زوجته ما دام يجهل حقيقة الأمر. لكنّه ليس من العادي أن تخبر الزّوجة زوجها بالحقيقة في مثل هذا الوضع. لأنّها تدرك مسبقاً أنّ أيَّ كلامٍ، ستكون مسؤولة عنه، إن لم تتحمّل تبعاته كلّها. ثمّ إنَّ الصَّمت لا يفيدُ في هذه الحالة. وقد يزيد من حيرة الزّوج، فيُمعن في الشّكّ والارْتياب. 3 ـ (ردّت بسخرية إنّها تميل لرفقة الأرملة في الشّقة المجاورة). ومع ذلك، فكان من الضّروري أن تردّ الزّوجة. فجاء ردّها متضمناً بعضَ الحَقيقة، ــ وكما يتبين من السّياق ــ ليس في صالحها أن تقول كل شيء. فاكتفت أن أخبرت زوجها أنّ أمّه تميل لرفقة الجارة الأرملة. وفي هذا بعض الحقيقة، لكن المسكوت عنه، والمُضمر من ذلك: لماذا تميل الأمّ لرفقة الجارة الأرملة؟ لماذا تؤثر صحبة الجارة عن البقاء مع زوجة ابنها، أو الخروج معها؟ حسبت الزّوجة أنّها بردّها هذا. قد أنهت حيرة الزّوج، ولم يعدْ هناك ما يَشغل باله، أو يدعوه للتّساؤل، إلا أنّ طريقة ردّها التي وصفها السّارد لم تكن بريئة. بل كانت بـ»سخرية» والسّخرية، دائماً لغة أخرى، قابلة للقراءة والتّأويل، وهذا ما غفلت عنه الزّوجة في لحظة مُكاشفة. الشّيء الذي جعلَ الزّوج يستنبط سبب خروج أمّه من البيت على إثر مُغادرته، وعودتها المتزامنة مع عودته، والذي مصدره الزّوجة، وعلاقتها غير المُنسجمة ولا الملائمة مع أمّه. وهنا السّارد يفتح المَجال رحباً للمتلقي، لتخيل وتأويل عدم الانْسجام، وإن كان من خلال السّرد، يتبين أنّ الزّوجة حاقدة على الأمّ لسبب ما، ولا تريدها في بيتها لاعتبار ما... والأمّ من جانبها ــ وككلّ أمّ تريد الاستقرار في بيت ابنها متجنبة المشاكل ــ لذا كانت تبادر بالخروج. وفي عودتها كانت تعلم جيداً أنّ الزّوجة، لا تستطيع مُضايقتها أثناء حضور ابنها. فالأمر كان بالنسبة لها معادلا موضوعيا. إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. 4 ـ (قبل أن يغادر إلى عمله صباحاُ، طلب إلى والدته ألاّ تخرج بعد اليوم). يتبين الآن بوضوح أنّ الابن/الزّوج. أدرك الحقيقة أخيراً، فجعله إدراكه في مقام اختيار صعب، والحلُّ بين حلّين: إمّا الأمّ أو الزّوجة. ومادام لا يستطيع التّضحية بأمّه كأنْ يَتخلّى عنها بطريقة أو بأخرى، إرضاء لرغبة زوجته، تلك الّرّغبة المضمرة الحقودة. طلب من والدته ألاّ تخرج بعد اليوم. وبذلك كانت بداية تحقيق الاستقرار واستتباب الأمر. 5 ـ (فالجارة ستكون رفيقتها الوحيدة). الخرجة، أو الجملة الأخيرة، جاءت في صورة الحل، حلّ مفاجئ وغير منتظر. أساسه عملية هدم وبناء من جديد. وعلى المُتلقي. أن يفهمَ أنَّ عدم الاستقرار في البيت انْتهى. وأنّ الزّوجة التي كانت مُشاكسة، وحاقدة، على امْرأة في سنّ أمّها وربّما أكثر، غادرت البيت، لتعوضَها الجارة الأرملة، التي عن قصد أو عن غير قصدٍ، امتلكت بديل ما فقدته منذ زمن. فاسْتتبَّ البيت واستعاد اسْتقراره. فنّيـا: 1 ـ العنوان، وإن لم يأت كاشفا لفكرة النّص من أوّل وهلة، وهذا جيّد، إلا أنه لخّص نتيجة الحدث. بمعنى كان مؤطّراً للنّصّ. 2 ـ هناك علاقة وطيدة بين العنوان (استتباب) وأوّل جملة تتصدر النّص: (لاحظ تزامن دخول أمه إلى البيت مع عودته كل مساء) والخرجة / آخرجملة في النص: (فالجارة ستكون رفيقتها الوحيدة). بمعنى: الاستتباب الذي فقِدَ في البيت، والذي دلّ عليه خروج الأمّ يومياً اسْتعيدَ برفقة الجارة. 3 ـ اللغة لغة دلالية، بمعنى أنها ناقلة للمعنى، مهيأة للسرد وليست مجازية والجمل: فرغم هيمنة الفعلية منها، وهذا ما ألفناه في القصة القصيرة جداً، إلا أنّها جاءت طويلة. الشيء الذي انعكس بوضوح على الرّؤية السّردية، وسمة اللّغة المُوظفة. على غير المألوف في هذا الجنس الذي يَعمدُ إلى الإيجاز، والتّكثيف قدر الإمكان . 4 ـ الخرجة وكما أسلفنا جاءت حلاًّ. والقاص هاني أبو انعيم شغوف بهذه الطريقة. وهذا ما يلاحظ في مجامعه القصصية. نصوص كثيرة، لا ينهيها إلا بحلّ فاصل. تلك طريقة متداولة انتهجتها القصة القصيرة، بل والرّواية أيضاً، في كثير من عناوينها. ولها روادها. في مجال السّرديات .و لكن القصة القصيرة جداً، تجنح إلى نهاية مفتوحة للتّأويل وتعدّد القراءات، وشغل ذهنية القارئ...بل ذلك يعدّ من خصائصها الفنّية. 5 ـ طريقة وأسلوب كتابة النّص كانت استفزازية لذاكرة المتلقي، ومُثاقفته. وبخاصّة لبعض النّساء المتحرّرات اللّواتي ينبذن التّقاليد، وأحكام المجتمع. وظروف العيش المشترك .السارد لم يكشف الحقيقة المضمرة، أو المعنى الكامن من وراء ذلك، وإن أشار لأحد تداعياته: خروج الأم. وفي ذلك فسحة تأملية تأويلية. جاءت نتيجة توظيف الحذف الذي كان موفقاً، دعماً للخيال والتّخييل. فهنيئاً للقاص هاني أبو انعيم على هذه اللّقطة الاجتماعية، التي يعاني منها المجتمع العربيّ في صمت. وكأنّها غير موجودة، ولكن، ما هذا النّص إلا شهادة، تميط اللثام عن وجه كالح، وصورة بائسة، يعيشها بعض كبار السّن من الأمّهات والأباء، الذين لم يبق لهم من سند، ولا من معيل، ولا من ملجئ إلا ابن أو ابنة تتولاهم. وقد يحدث هذا في ظل ظروف قاهرة. يعانون من فظاعة الآخر. الذي لا يرغب في وجودهم معه، ويسعى ما أمكنه للتّخلص منهم. لا لشيء إلا ليخلو له جو البيت..
الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 08-02-2019 10:09 مساء
الزوار: 1448 التعليقات: 0