حكاية عرار لا تزال تتردّد بين الناس واحد من كبار الشعراء العرب المعاصرين، أشهر شعراء الأردن على الإطلاق، في شعره شجاعة ودهاء ورصانة ومناهضة للظلم، أعماله تدل على اطّلاعه الواسع على آداب الأمم والشعوب، شاعر حوران مصطفى وهبي التل والذي عرف بين الناس باسم “عرار”.
رحلة مكتب عنبر
ولد مصطفى وهبي التل في مدينة إربد بحوران شمال الأردن في العام 1899، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها، ثم سافر إلى دمشق بعمر الثالثة عشرة، وواصل تعليمه في مدرسة شهيرة عرفت باسم “مكتب عنبر”، وخلال دراسته شارك في الحركات المناهضة للأتراك، ونُفي إلى بيروت، ولكنه ما لبث أن عاد إلى دمشق مرة أخرى.
بعد زيارته لإربد صيف العام1916، نشبت بينه وبين والده خلافات حادة، ما جعل والده يُحجم عن إعادته إلى مدرسة عنبر، وأبقاه مرغماً في إربد، ليعمل في مدرسة خاصة كان قد افتتحها والده آنذاك، اشتدّت الخلافات مع والده، فغادر بصحبة أحد أصدقائه نحو إسطنبول، ولكنهما لم يبلغاها، ولدى عودته لإربد، استطاع بعض زملائه إقناع والده بضرورة إرجاعه إلى مدرسة عنبر، وصادفت عودته قيام حركات طلابية في دمشق، شارك فيها بزخم، لتنفيه السلطات العثمانية إلى حلب، حيث سمحت له بإكمال دراسته فيها، وهناك حصل على الشهادة الثانوية من المدرسة السلطانية، وأثناء دراسته تعلم اللغة التركية، وهي اللغة الرسمية وقتذاك، كما أتقن الفارسية.
وفي أواخر العشرينات من القرن الماضي درس القانون معتمداً على نفسه، وتقدم للفحص الذي كانت تجريه وزارة العدلية فاجتازه بجدارة، وحصل على إجازة في المحاماة مطلع الثلاثينات، عمل بعدها معلماً، ثم انتقل للعمل في سلك القضاء، ثم عاد إلى وزارة المعارف فتسلم وظيفة المفتش الأول، فمتصرفاً للواء السلط، ومكث في منصبه هذا أقل من أربعة أشهر، عُزل بعدها، واقتيد إلى السجن، حيث قضى سبعين يوماً، إثر مشادة بينه وبين رئيس الوزراء آنذاك. وبعد خروجه من السجن نهاية عام 1942، وحتى وفاته، مارس مهنة المحاماة في عمّان حيث افتتح مكتباً خاصا به.
غواية رباعيات الخيام
اطّلع عرار على حياة عمر الخيّام ورباعياته في مرحلة مبكرة من عمره، فأسرته تأملاتها في الوجود الإنساني، وحاول تقمصها سلوكاً وفناً، ما انعكس على شعره والذي تميز بالإطالة، كما أمعن في الخمر، بل إن معرفته بالشراب كانت بعد قراءته رباعيات الخيام بترجمة وديع البستاني.
نظم بعد قراءته الرباعيات مجموعة من الخماسيات الشعرية، تجلى فيها بوضوح الأثر الخيّامي، ليدمن مع مرور الوقت قراءة الخيّام، والبحث في حياته ورباعياته، وكانت اللغة الفارسية التي تعلّمها عرار قد ساعدته ليقرأ تلك الرباعيات من اللغة الأم كما قال، وقام بترجمتها مطلع العشرينات، ولم يتوقف عند هذا، بل قاده شغفه بالخيّام الى محاولة تأليف كتاب عنه لكن لم يكتمل.
إلا أنّ الآثار التي تركها عن الخيّام شكّلت مادة صالحة وكافية لأن تظهر في كتاب، وهو ما حصل قبل سنوات حين صدر كتاب تحت عنوان “عرار والخيّام” وفيه ترجمته للرباعيات السهلة الجميلة ويبدأ بمقدمة عرار عن كتابه الذي كان ينوي إصداره.
وفيه نشرت ترجمة عرار للرباعيات، مع مجموعة الآثار التي تركها مصطفى وهبي التل أو عرار عن الخيّام ورباعياته بالإضافة إلى ملاحظات كان قد سجّلها على النصوص وترجمة الرباعيات، ومسودات كتبها بخط يده.
التأسيس المعرفي والثقافي لعرار، يبدو متقاربا مع كثير من المثقفين العرب الذين عاشوا في إطار عصره، حيث تشكلت وتكونت ثقافتهم ضمن الحواضر والمراكز العربية الهامة، وكان لسنواته التي عاشها في دمشق وحلب تأثيرها الخصب في ثقافته ففجرت موهبة قل نظيرها في الأردن تميز عرار منذ صغره، بالعطف على الفقير والشعور مع العاجز والأخذ بالضعيف، ومن أجل ذلك، ضحّى بالوظائف وثار على الإقطاعية والأنانية، وحارب المرابين وصبّ نقمته عليهم.
وكان من أبرز صفاته طموحُه الشديد، ما جعله غير مستقر، فتعمّقت ثورته وتمرّده، وتكونت فيه صفات متناقضة شملت شخصيته، حتى أن ملك الأردن المؤسس عبدالله بن الحسين أشار إليه في إحدى كتاباته حين قال “إنك يا مصطفى لمجموعة من متناقضات تعتز بها في عيني: الصخب والشغب والرضى بعد الغضب، خصم الأقوياء، رفيق الضعفاء، كريم في فاقة، نهّاب وهّاب، فقير في نفسك، غني في صحابك، لا أدري عن عقيدتك ولكنك غيور على ملتك، إقليمي مفرط، عربي متشطط، إذا مات خصمك رثيته، وإذا احتبس عليك صاحبك ربما هجوته. هذه صفات متناقضات تكوّنت فيك واجتمعت فإذا كانت ناحية منك تغضب فنواح كثيرة منك أخرى تُرضي، أنت عقدة العقد، تُشبه الصوف الملتف بالشوك، فمن ذا ينقّيك”.
وكان عرار يحضّر مجالس الملك، الذي عيّنه رئيساً للتشريفات في الديوان الملكي، وكان يُساجله ويعارضه في الشعر، سئل يوماً إحدى تلك الجلسات “أيّ الأمور أشد تأييداً للعقل؟ وأيّ الأمور أشد ضرراً به؟” فأجاب عرار بصراحته المعهودة “إن أشد الأمور تأييداً للعقل مشاورة العلماء وتجربة الأمور وحسن التثبت، وإن أشد الأمور ضرراً بالعقل الاستبداد والظلم” وهذه العبارة تنمّ عن تلمّسه للأمور، ومعرفته بما كان يجري، آنذاك، كما تنبّه إلى فلسفته التي اختطها لنفسه.
عندما وجد فراغاً بين مجتمعه وبين ما كان يتمنّى أن يكون عليه ذاك المجتمع، تمرّد عليه، وكانت بداية في محاولة إصلاحية نحو التغيير، فكانت شخصيته ثائرة على كل الأوضاع، تملك رؤية ثاقبة في الحب والكره، نظر إلى المجتمع فلم يعجبه حاله، فحاول إصلاحه، حيث يقول في إحدى أبياته الشعرية:
كم صحتُ فيهمْ وكم ناديت من ألم
فما أفاقوا ولا أصغوا لألحاني.
وعندما أيقن أن الكذب والتدليس أفضل الأسلحة في زمانه وأن مكارم الأخلاق هي مجرد شعارات هبّ يصرخ:
الناس أحلاسُ من دامتْ سعادتُهُ
وكلّهم خصمُ مَنْ يُمنى بخسرانِ.
وقال عن الناس أيضاً:
الناسُ ما الناسُ؟ عُبدانُ القـويِّ، بِهمْ
ما بالمطيـّةِ من مهمـازِ مِغـوارِ
يُزجُون مَنْ سامهم خَسْفًا وأَرهَقَهُم
عَسفًا تحيـّاتِ إجـلالٍ وإكبـارِ
ويَضفـُرون بأيـديهـم لِقاطِعهـا
حِرصًا على البَغي إكليلَينِ مِنْ غارِ.
رغم ذلك كله، لم يمنعه هذا الصراع ما بينه وبين مجتمعه، من أن يتغنى بأيامه الأولى فيه، وبقيت حوران، وهي المنطقة التي ولد فيها ملهمة له، مع أنه كان يعترض على كل شيء فيها، فكتب في إحدى قصائده:
إذا يا صاحِ جاء الموتُ يوماً
لكي يمضي بروحي للسماءِ
بحوران اجعلوا قبري لعلّي
أشمّ أريجَها بعدَ الفناءِ.
وتحقق له ما أراد ففي الـ24 من مايو من العام 1949، توفي عرار ودفن في مدينة إربد، وفي نهاية الثمانينات من القرن العشرين، تبرّعت شقيقاته ببيت العائلة في المدينة، ليصبح وقفاً لضريحه، ونقلت رفاته من المقبرة إلى البيت، الذي تحول في ما بعد إلى متحف يُخلّد أعماله، ليخرج من أبنائه سياسيون كبار، مثل وصفي التل الذي شغل منصب رئيس الوزراء في الأردن، خلال السبعينات وسعيد التل الذي تولى منصب نائب رئيس الوزراء خلال التسعينات.
عرار يظهر في زمنه كمحارب شرس من أجل الناس وضدهم في الوقت ذاته، مدعما ثقافته بأحوال الناس والنظريات الاجتماعية، متيما بعمر الخيام ورباعياته وفلسفته الخاصة في الحياة، ومناداته بالمساواة الاجتماعية كان لشعر عرار فلسفة خاصة تتصل بالنواحي الاجتماعية، والتي تضمنت المرأة والرثاء والحنين إضافة الى الطبيعة، واستطاع أن يمثل دوره كمتزعّم للثورة الاجتماعية، التي هدفت إلى اجتثاث الظلم في بيئته، وقدم تضحيات كبيرة، طالت لقمة عيشه، وكان يُركز على الإنسان الذي جعله محور قضيّته، وأتى في ديوانه الشعري الشهير "عشيات وادي اليابس" على أحوال المجتمع والناس وهمومهم.
عرار يلجأ إلى الغجر
عرف عنه أنه كان يلجأ إلى مجتمع الغجر ويرى فيه “مدينته الفاضلة”، لكنّ خروجه لم يكن متواصلاً ونهائياً، بل حاول من خلال ذلك التخلص من واقعه المرّ، فكثيراً ما كان يعمل وهو في مجتمع الغجر على إصلاح مجتمعه هو، وكان يعود إليه ليواجهه ويتحداه، وعندما يخفق، يعود ويلجأ إلى الطريقة نفسها.
إن حكاية عرار لا تزال تتردّد بين الناس، مع قصائده وتعكس نظرته للحياة وأشجانه وأحزانه وحتى أفراحه، وتظل هذه الحكاية تحتاج للبحث، بعد أن ضاع الكثير من مخطوطاته، والذي كان يحتفظ بجزء منها نجله مريود التل.
لم تكن عملية التأسيس المعرفي والثقافي عند عرار، مختلفة عنها عند كثير من المثقفين العرب، بل كانت في إطار عصره الذي عاش فيه، حيث تشكلت وتكونت ثقافتهم ضمن الحواضر والمراكز الهامة. وكانت السنوات التي عاشها في دمشق وحلب لها تأثيرها الخصب في ثقافته، والتي فجرت موهبة قلّ نظيرها في الاردن.
ويبقى عرار ظاهرة متميزة ونادرة في بيئته، فلم تتكرّر في الأردن أو سواها، رغم مرور زمن طويل على غيابها، وتميزت أشعاره بأنها تخرج من أعماقه الذاتية، فيأتي على كل شيء لا يعجبه وينتقده بشدّة، ويعبّر عنه تعبيراً حاداً ومؤثراً، دون خوفٍ أو وجل، كما كان يأتي على الجوانب التي يراها مشرقة ويبالغ في توصيفها.
الجواهري وقباني وعرار والرصافي وعمر أبو ريشة وآخرون وغيرهم، مضوا تاركين آثارهم، لكن الرحم العربية، لم تحبل بمثلهم بعدهم، مع أن حاجة العرب اليوم إلى هؤلاء قصوى ملحّة وبلا حدود.
المصدر جريدة العرب
الكاتب:
إدارة النشر والتحرير بتاريخ: الجمعة 07-06-2019 11:43 صباحا
الزوار: 1879 التعليقات: 0