«في زنزانته الانفرادية، ينتظر أن تطلَّ الشمس من الكُوة العالية، ليصير له ظلٌّ يحاوره». أتخيَّلَ أحدنا يومًا أن يكون بلا ظلّ!؟ أو ألَّا تكون الشمس حاضرة أصلًا في حياتنا! ذاك القلم الفريد صاحب القصة الومضة التي استوقفتني دومًا في مبناها ومعناها.. البرقاوي كاتبٌ حذقٌ متَّقد الذكاء في التقاط تفاصيل السكون إذا اهتزَّت أركانه فانبعث منه صوت من بعيد ناداه أن اكتبني في قصة قصيرة جدًا جدًا.. قصصه على الأغلب لا تتجاوز ثلاث جُمل أو أربع.. إلَّا أنه يمتلك قدرةً عجيبةً على اختزال اللغة اختزالًا يمنحه الحركة داخل فضاء شاسع.. كما يُرفدُ المتلقي سعة التخيُّل كيفما شاء له أن يفتح أبواب آفاقه نحو تحليقٍ ضمن مساحة البرقاوي المتاحة.. في هذه الومضة استحضر الكاتب العزلة مذ طرحَ الكلمة الثانية: (زنزانته).. فالزنزانة ترحِّلنا فورًا نحو مشاعر العزلة والفضاء المكاني الضيِّق الخانق والشعور بالوحدة والوحشة.. وما إن ألحقها بكلمة انفرادي حتى ضيَّق المكان أكثر في نفس المتلقي وهيَّأه ضمنيًّا لحالة نفسيَّة تشبه حالة السجين في زنزانة انفراديَّة.. لعلَّنا بدءًا نذهبُ ظنًّا أنَّ هذا أسوأ ما في الحكاية التي يطرحها البرقاوي.. لكنها عادة تكون الصفعة الأقل إيلامًا ودهشة.. إذ سرعان ما يزيد جرعة وقوفنا أمام إحساس بطل النصِّ..حين يأتي بالجملة التالية.. «ينتظر أن تطلَّ الشمس من الكوة العالية» وهي جملةٌ فعلية فاعلها مستتر تقديره (هو) يعود على بطل القصة.. وتأتي جملته مضارعة لتفصِّل حالًا كان عليها البطل أثناء زمن الحكاية : كان ينتظر إطلالة الشمس من الكوَّة العالية.. هذه الجملة أخبرتنا بأمر آخر قاتم يجعل الصورة أشد سوداويَّة ومأساويَّة باستخدام زمن حاضر يمتدُّ داخل زمن الحكاية فيجعله مستمِّرًا غير منقطع كما لو أنه لجأ إلى فعلٍ ماضٍ.. فالانتظار شعورٌ قاتلٌ إذا تلبَّس الإنسان.. وشعور الإنسان بالزمن أثناء الانتظار لا يشبه شعوره به في الأحوال العادية.. زمن الانتظار متمدِّد ومقيت.. يشبه وقع السوط على جلودنا.. ليس زمنًا عاديًّا مارًّا حاملًا تفاصيل الحياة المعاشة.. لم يتوقف البرقاوي عند هذا الحدِّ فقط بل كانت الجملة الثالثة والأخيرة هي الصفعة المدهشة والمفاجئة؛ لتُحقِّق فداحة العزلة وألمها الحقيقي.. ذاك حين يشرعُ الإنسان بالبحث عن ظلِّه ليحدِّثه.. ولإنَّ الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ في أصله وجبِّلته فإنَّ العزلة تقتل مطلبًا أساسيًّا من مطالب تحقُّق إنسانيته..وتحوِّله إلى كائن غير سويٍّ في نهاية المطاف.. لعلَّ هذا النصَّ يحمل أبعادًا مختلفة للعزلة إذا ما وسَّعنا نطاق الرؤية قليلًا.. فالعزلة لا ترتبط بزنزانة حقيقيَّة فقط، وإنما قد يعيش الإنسان في عزلة حين يعيش مغتربًا داخل مجتمعه.. وتتسع الهوَّة بينه وبين من حوله فيجد نفسه في عزلة دائمة دون فعل فاعل حقيقي.. غالبًا ما ينكفىء الفنان والأديب والشاعر والمثقف الحقيقي إلى عزلة تُقصيه عمَّن حوله.. بل إذا كنا أكثر دقِّة تُقصى روحه ويبقى جسده جثة متحركة بين أهله ومحيطه دون أي تفاعل روحيٍّ يُلحظ.. وإذا ما أسقطنا النصَّ على زمن الجائحة فإنه يفرد جناحيه أكثر ليظلِّل تلك العزلة الاجتماعية المشتركة والإجبارية التي رضخت إليها البشرية جمعاء.. كثيرٌ ما تكتمل عناصر القصة في نصوص البرقاوي.. فالفضاء المكانيُّ حدِّد هنا في الزنزانة.. والزمان: زمنُ ظهور الشمس في الأفق.. والبطل: استتر وراء ضمير مستتر أبانه سياق الجملة.. والصراع: تمثَّل في انتظار البطل إطلالة الشمس علَّها تحضر ظلَّ بطل الحكاية معها.. والمعاناة: في هذه الومضة تجلَّت في صراع بطل الحكاية مع نفسه أثناء انتظار ظهور ظلِّه الذي خرج في معناه عن حدود معنى الظلِّ المرتسم في أذهاننا ليجدِّد خلايا المعنى حين أضفى على الظلِّ بعض السمات الإنسانيَّة التي تُخرج الإنسان من حالة العزلة ألا وهي الحوار.. ولا يتأتَّي الحوار إلا من خلال حديث مسموع ومدٍّ وجزرٍ بين المتحاورين يفضيان إلى نتيجة الاتفاق أو الاختلاف.. أما ما يُميِّز أسلوب البرقاوي عن الآخرين ممن يمتهنون كتابة «القصة الومضة» فهو إتيانه بمفتاحٍ لغويٍّ يفتح مغاليق النصِّ مباشرة أمام المتلقي.. فلا يوقعه في حيرةِ إبهام المعنى وتذبذبه بين هنا وهناك.. ومثل ذلك، لا يتحقَّق إلا من كاتب بارع تأبَّط ناصية اللغة وعلم تمامًا من أين تؤكل الكتف.