|
عرار:
سعاد بالحاج يوسف/ تونس «راحلة» هو عنوان النصّ ومفتاح القصيد يسلّمه الشّاعر إلى المتلقّي فيدعوه إلى فكّ المغاليق والارتحال إلى عالمه الشّعري.. في اختزال مستفزّ يرسل لك هذا العنوان مع تاء التّأنيث صورة لأنثى غائبة مستترة في فعل الرحيل تضمّنتها صيغة اسم الفاعل المغيّبة لزمان الفعل.. عنوان مثير للفضول يخلق أسئلة البدايات عند المتلقّي. (راحلةٌ ألقتْ منديلاً في البستان وغابت أبعد من عمري.. *** يا أمّي ما زلتُ أشُقُّ جدارَ الليل ألاحِقُ أسرابَ القَدَرِ .. يا أمّي *** مَن قال بأنّ الفقد يزول! ووجهكِ يسكنُ في بصري..). بفكرة الرّحيل وصورة الأنثى الغائبة يَنفتح لك باب المتن فإذا أنت أمام رحلة مداها ما بين الميلاد والموت، رحلة يختزل بها الشّاعر تجربته في تلك الجملة الشّعريّة التي يتأسّس عليها المقطع الأول فتنساب مع السّرد لتضعك أمام حدث الميلاد الذي يوحي به مشهد إلقاء المنديل: «ألقت منديلا في البستان» ثمّ تنعطف بك إلى مسارب الغياب فإذا أنت أمام فاجعة الموت يرسلها الشّاعر في بوح مرير»وغابت أبعد من عمري» بوح تلتقي فيه ذات الغيبة بذات الحضور لتختزل تجربة الشّاعر وتشكّل مشهدا رمزيّا يوحي بامتداد الوجود: مشهد تلك الأنثى/ الأمّ تلقي بثمرتها، فتخصب الحياة ثمّ تغيب وبغيابها ينقطع جسر الوصل فإذا هما ذاتان منفصلتان: ذات غائبة وذات تكابد ذاك الغياب.. تغيب الأمّ فيحلّ الفقد ويأتي القصيد ليحيي صورتها في بوح مرير فإذا هي صرخة يفجّرها الشّاعر في قلب القصيد ويرسلها في نداءٍ كالنّحيب «يا أمّي».. مقاطع صوتيّة طويلة يمتدّ معها الصّوت في تفجّع وأنين . وتتردّد جملة النّداء داخل المتن محدثة إيقاعا حزينا تتشكّل معه مقاطع النصّ. ثلاثة مقاطع قصيرة تتمزّق عندها خواطر الشّاعر المسكون بالكآبة بين ماض وحاضر ومستقبل. مع النّداء يتحوّل الخطاب إلى ضرب من المناجاة ليكشف عن حنين إلى ذلك الحضن المفقود حيث يستحضره الشّاعر ليلوذ إليه شاكيا آلام الفقد وقسوة الوجود.. ويتداخل الأنين بالحنين ليعبّر عن رؤية للوجود تشكّلها أفعال المكابدة: «أشقّ» «ألاحق».. رؤية تكشف عن تجربة الذّات في صراعها مع القدر، وهكذا يلتحم وجع الفقد بمعاناة الوجود ويتّخذ بعدا تأمّليّا ملحميّا يترجم عن عذابات الذّات الممتدّة عبر الزّمن: (من قال بأنّ الفقد يزول ووجهك يسكن في بصري). إنّها مسيرة البحث المتواصل عن السّكن الذي يتراءى للشّاعر في ذلك الحضن المفقود حيث تتخذ صورة الأنثى رمزا للرّحم الأولى/ الأمّ/ الأرض/ الوطن.. وبذلك يتّخذ خطاب البوح في هذا القصيد بعدا كونيّا يتجاوز تجربة الذّات ليلتحم بملحمة الإنسان في مسيرة بحثه عن السّكينة، مسيرة أبديّة يجسّمها ذلك الحنين الدّفين إلى الرّحم الأوّلى. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 29-03-2021 09:44 مساء
الزوار: 971 التعليقات: 0
|