ناظم ناصر القريشي/ ناقد عراقي (قوس قزح هو أوبرا الضوء والماء القادم من الخيال والهائم بسحر الفيزياء، والشعر كقوس قزح، فكيف إذا تجسّدا بالكلمات؟) يستند الشاعر أديب كمال الدين في منجزه الإبداعي على الحروف، وعلم الحرف هو أول العلوم، لذا اشتد ولَههُ العرفاني على ابتكار عالمه الشعري بأسلوبه الصوفي متصلا بتصوراته وأفكاره. فبعد أن شكّل لغة المرايا سابقا، يقدّم في قصيدته هذه فكرة متقدمة لتشكيل لوحة شعرية بصيغة سينمائية تمتزج فيها الموسيقى والألوان عن قوس قزح الذي هو حلم الضوء والماء، فكيف إذا تجسّد ذلك في الكلمات؟ رغم التأثيرات الصوفية في النص فهو يبني فضاء قصيدته على المشهد السينمائي الشعري ولا نقول على الصورة الشعرية فكل شيء في القصيدة متحرّك ويباغتك بدهشته، من النظرة الأولى للشاعر إلى التفاته للسيدة التي هي مركز القصيدة والضوء فيها مسلّط على العنق، الجزء الأهم، كأنّ نظرة الشاعر هي قوس قزح الذي يبوح ليسكب بأسراره عبر نثيث الغيم وذرات الضوء؛ هذا ما سنجده في قصيدة (قوس قزح حروفيّ) للشاعر أديب كمال الدين،والتي تتكون من ثلاثة نصوص: (عنقُكِ الجميل)، و(كتاب الأحلام)،و(حياة في قنّينة). بدءاً من العنوان على اعتباره عتبة الدخول إلى القصيدة، والعتبة هنا تعني العبور والتجاوز والدخول إلى عالم الكلمات وبما يشبه الحلم، فالدخول إلى عالم قوس قزح هو دخول إلى ذرّات الضوء والماء. وأضف إلى ذلك أنه يتشكّل بالكلمات وهذا يعني أنها كلمات ضوئية، تقدم نفسها بشكل مجسّد، كي تسمح للفكرة بالنضوج، في محيط واسع يتجاوز فكرة السيمياء والتحول، فمنذ البدء سنجد أن القصيدة منفتحة على كل الاحتمالات: فرادة الفكرة/الحلم/التشكيل، حيث نقرأ في مفتتحهاالذي هوبعنوان: (عنقُكِ الجميل):
ذاتَ حياة أردتُ أنْ أقطعَ عنقَكِ الجميل بالقُبَل لكنَّ عنقكِ استدارَ إليَّ، فجأةً، وقطعني إلى نصفين؛ نصف أُصيبَ بالجنون ونصف أُصيبَ بالحروفِ والجنون. يقدم الشاعر صوراً بصرية أخّاذة تجتمع في لوحة شعرية مبهرة وموسيقى زرقاء تسقط من أصابع البيانو لتلامس حرير القلب والروح، وتتصاعد من انحناءات قوس الكمان على أوتاره؛ فتشهق النايات بلوعتها،ويتنفسها الأوبوا كالنسيم فينساب النغم بهدوء،فنستمع إليه في مزاج المتأمّل. وقد تستيقظ فيها فراشات فاجأتها الالتفاتة ونظرة السيدة التي تجاوزت الأبجدية فتكلمت بلغة العيون. ربما هذا لم يخطر على بال الرسام الإيطالي أميديـو موديـليـاني عندما ابتكر فكرة الأعناق الطويلة في لوحاته، لأنّ غايته كانت الوصول إلى جمال بسيط خجول ورقيق ومهذب؛ وكذلك على بال الفنان التشكيلي (غوستاف كليمت) الذي رسم التفاتة المرأة في لوحة السيدة، ورسم القُبلة في لوحته الأخرى التي جسّدت أطول قبلة في العالم، لكن الشاعر أديب كمال الدين حين لامست روحه روح الشعر، رسم فتاته كأنها تستقبل الفجر، فجعلها مع الاحتمال الآخر، وهذه هي براعة تمثيل اللغة الشعرية ويظهر بوضوح تماهيها مع ما تقدمه من لوحات النابضة بالحياة؛ فالتردد الموجي للنظرة الشاعر الصوفية تقابلها نظرة السيدة بترددها الموجي الشعري جعلت من الالتفاتة هي القصيدة الأهم التي فاجأت الشاعر وجعلته كالمجنون غائباً في الحضور وحاضراً في الغياب يكتب بلغات لا تُعدّ ولا تحصى وبحروف شبحية وأبجدية من قُبُل كأنها الحد الفاصل بين الشعر والصوفية، قد تحولت إلى مجازات شعرية تفاعلية بانورامية. المعاني متحرّكة ومؤجَّلة كالأحلام، فنظرة المعنى والتفاتة التأويل في امتداد التأمل، جعلت الشاعر يراهن على كلماته ويدور حول نفسه كصوفي ويتشظّى في الكلمات ليردّد ورْدَه الشعري كمريد،وهذه هي جماليات القصيدة لدى أديب كمال الدين. فهل كانت فكرة الضوء هي الظهور عبر خطة اللون في الكلمات؟ وهل كانت القصيدة موشوراً لأحلامنا؟ كأنّ الدهشة تدير كل شيء، عبر الفعل الشعري الحر، فهو يلتقط ببراعة فكرة الحلم، كأنما يلتقط الضوء والحركة ويوظفهما في صور متعددة الأبعاد متوازنة وبشكل جميل، تمتلئ بالإيقاع الموسيقي، فالشاعر جعلنا نتصفح الحلم على الكلمات، وهذا يشكّل المثل الأعلى للفكرة الشعر وماهيته، نقرأ في المقطع الثاني وعنوانه (كتاب الأحلام): في الحُلْمِ أُخبرِتُ بأنّكِ مُتِّ بعدَ مرضٍ مَجهولٍ ألمَّ بكِ. فتأسّفتُ طويلاً، وربّما ذرفتُ دمعتين على ماضٍ قتيل جمعني بكِ قليلاً أو كثيراً. النص يتسع اتساع لغة الشاعر، يولد الاندهاش والانبهار ويخلق الحيرة، نستشعر من خلاله لذّة حقيقية وغامضة في آن واحد، ويتجسّد جماله في احتمالاته وتحوّلاته، وتشكيلاته الحلمية وتموّجاته اللونية والموسيقية التي تناسب مع معانيه، ومسافة الزمن فيه هي مسافة المعنى، حتى نقرأ في المقطع الأخير من القصيدة وعنوانه: (حياة في قنّينة): قُبُلاتُكِ لا معنى لها تماماً مثل حياتي التي تعلّمتْ من قُبُلاتِكِ ألّا معنى لأيّ شيء. *** قُبُلاتُكِ ساعدتْني على أنْ أصطادَ حياتي وأضعها في قنّينةٍ عظيمة وأرميها في عَرْضِ البحرِ. ماذا يحدث للغة الشعرية الآن؟ سنجد أنها تتآلف وتتوحّد وتتشكّل على شكل لوحات فنية منشوره على شريط القصيدة السينمائي بالتعاقب لتثبت حالتها الأيونية كشعر. فالشعر، كما قلنا سابقا، هو الحالة الأيونية للكلمات، فهي أقرب إلى عالم السينما والتشكيل والموسيقى حيث الأشكال الغامضة هي المعنى الحقيقي؛ ولذا تظل الفكرة فيه لا مرئية إن لم تحدد الكلمات اتجاهها وآثارها، كالريح إذا لم تحدد الأشرعة والأمواج آثارها على وجه الماء. فالقصيدة هنا هي احتفال تشكيلي بصري باكتشاف قوس قزح وأسراره عبر الكلمات، فنشوة اكتشاف قوس قزح كنشوة اكتشاف المجهول، وهي لا تعطي من الناحية الأسلوبية اليقين بأنّها تشكيل شعري سينمائي فقط، وإنما على اعتبارها قدرة منتجة للجمال من خلال تمكّنها في تمثيل الفعل الشعري من الاقتراب والتحاور مع عين المتلقي. وأدناه نص القصيدة كاملا: «عنقُكِ الجميل ذاتَ حياة أردتُ أنْ أقطعَ عنقَكِ الجميل بالقُبَل لكنَّ عنقكِ استدارَ إليَّ، فجأةً، وقطعني إلى نصفين؛ نصف أُصيبَ بالجنون ونصف أُصيبَ بالحروفِ والجنون. * هكذا كتبتُ عن عنقِكِ بحروفٍ من قُبَل، وكتبتُ عن غيابكِ الذي امتدَّ إلى ما شاءَ الله بحروفٍ من غياب، بل إنّني كتبتُ عن أشباحِكِ التي طاردتني ليلَ نهار بحروفٍ من أشباح. * ثُمَّ ترجمتُ ما كتبتُهُ عنكِ إلى لغاتٍ أخرى، لا تُعدُّ ولا تُحصى. إذ ترجمتُ ما كتبتُهُ عنكِ إلى لغةِ السُّكارى؛ سكارى العشقِ والخمرِ والصَّبَوات، وإلى لغةِ المُتصوّفةِ والدّراويشِ والعارفين، وإلى لغةِ المحرومين والمُطارَدين والتائهين، وإلى لغةِ الغرقى والهَلْكى واللاجئين، وإلى لغةِ الأحلامِ والأوهام، وإلى لغةِ الهلْوَسَاتِ والهذيان، وإلى لغةِ السَّحرةِ والمُشعوذين والمُنجّمين لكنَّ أفضلَ لغةٍ ترجمتُ إليها ما كتبتُهُ عنكِ وعن قُبُلاتِك كانتْ - وا أسفاه - لغة المحكومِ عليهم بالنفي، أعني لغة المحكومِ عليهم بالإعدام.