«مدخل إلى علم السرد» كتاب يسبر أغوار المحكيات السردية
عرار:
د. إبراهيم خليل مدخل إلى علم السرد هو العنوان الذي اختارته الألمانية مونيكا فلودَرْنك لكتابها الأخير الصادر في ترجمته العربية عن دار الكتب العلمية ببيروت 2013. والمعروف أنّ علم السرد Narratology علم غربي بجذوره المعرفية، وفرضياته، ومقولاته عن الأشكال، والقوالب السردية التي يستند إليها، إن كان الأمر في التنظير، أو التطبيق. ويقول مترجم الكتاب الدكتور باسم حميد: إن المكتبة العربية تفتقر لمثل هذا الكتاب الذي تتجلى قيمته في استيعابة لنظريات السرد التي نشأت، وتطورت في القرن الحادي والعشرين، على الرغم من البوادر، والبدايات، التي مهّدت لها، ووطأت، في القرن الماضي. وهو كتاب يشرح هذه النظريات شرحا مبسطا، ودقيقا، لا تعوزه الأمثلة التطبيقية المُوضِّحَة التي تساعد القارئ المتخصّص، وغير المتخصّص، على تفهُّم ما تقوله النظرية. علاوة على ذلك، يستمد الكتاب قيمته من أنه شامل لما جدَّ من تيارات في علم السرد، بما في ذلك سرديات ما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية (الاستعمار) والنظرية النسوية Feminism والجندر Gender وغيرها من نظريات تتناسل بعضها من بعض. عدا عمّا سبق، لا بد من شيء آخر يستمد الكتاب قيمته منه، وهو موقع المؤلفة من هذا الموضوع الخصب، فهي متخصصة في السرديات، وكانت قد درست على يدي ستانزل الذي تستشهد بآرائه مرارًا. وما زالت تواصل التدريس في هذا التخصص، مما يضفي على آرائها في الكتاب المصداقية، فضلا عن الجدية، والعمق. ولا تنكر المؤلفة أنَّ الغاية الأساسية من هذا المصنف غايةٌ تعليميّة، فهي تخاطب فيه طلبة الدراسات العليا ممن يعتزمون التخصص في قضايا الرواية، والقصة، وغيرهما من فنون السرد. وهذا يفسر نزوعها اللافت للجمع بين النظرية والتطبيق. ولعل مما يُعزز هذا الجانب من كتابها أنه ثمرة جهد متواصل بلا انقطاع، فقد صدر لها قبل هذا الكتاب كتابٌ آخر بعنوان « نحو علم سرد طبيعي « 1996 وقبله كتابان آخران « تخييلات اللغة.. ولغاتُ التَخْييل «و «التمثيل اللغوي للكلام والوعي « 1993 ونشرتْ نيفًا ومائتي بحث، ومقال، في الدوْريات، وشاركت في تحرير أكثر من ملفّ في موضوعات سردية أخرى.
فِعلُ السرد ووفق ما يقتضي الأمر، توضّح المؤلفة- بدايةً - الفرق بين السرد وفعل السرد، فالسرد في رأيها متوافر في حياتنا اليومية بكثرة، ولا نستطيع إنكاره؛ فالمدرس الذي يشرح درسًا في أيّ موضوع يسرُدُ، والصحفي الذي يتابع خبرًا عن حدث جرى في مكان ما يسرُد، والمعلق الرياضي يسردُ على السامعين، والمشاهدين، ما يراهُ في الملعب، ويسمعه، لكنّ فعل السرد Act of narration شيء مختلفٌ عن ذلك الذي يقوله قارئ نشرة الأخبار، والصحفي المتابع لحدثٍ ما، والمدرس الذي يشرح؛ والمعلق الرياضي، لأنّ فعل السرد هو الخطاب الملفوظ الذي تُقصّ بهِ ، وفيه، وقائعُ جرت في زمن ما، وفقا لمخطط، وترتيبٍ، يراهُ الراوي. وثمة فرق بين المؤرخ الذي يروي هو الآخر وقائع جرت في الماضي، والراوي القصصي، فالأول يقدم لنا نصًا تاريخيًا حول ما جرى مستندًا لمصادره التي توثق ذلك، وتؤكده، في حين أنّ الراوي القصصي لا يستند إلا لما يمليه عليه خيالُ المؤلف، فالسرد القصصيُّ في نهاية المَطاف خطابٌ تخييليٌ، لا تاريخيّ. السرد والراوي وتولي المؤلفة مونيكا فلودرْنك مسألة الراوي في السرود أهميَّة أكبر ممّا هو سائدٌ ومألوف، فقد صنفت السرود إلى سردٍ بلا راو، وسردٍ براو، وسردٍ بأكثرَ من راو، وفرقت بين السرد السينمائي، الذي لا يحتاج فيه الفيلم إلى راو، إلا نادرًا، والسرد في القصة، والرواية، إذ لا بد فيهما من الراوي. أما الحدث act وعلاقته بالقصة story فيحيلنا لموضوع دقيق، هو الحبكة plot وقد تنبه أرسطو لأهميتها في كتابه عن « الشعر»، وتواتر هذا الاهتمامُ لدى فورستر Forster في كتابه عن مظاهر الرواية، فالحبكة هي الركنُ الذي يتوسط العلاقة بين الراوي والحوادث المَحْكية. ففي الأثناء ينبغي أنْ نعرف ما الذي وقع من حوادث تسبَّبت بوقوع أخرى، أي تسليط الضوء على ما يسميه فورستر بالأسباب والنتائج، كقوله في روايةٍ: مات البطل، وماتت البطلة حزنا عليه، فالحدث الثاني موت البطلة سببه الحزن لموت البطل، وهكذا... وينْبغي ألا تُحكى هذه الأسباب وفقا لعشوائية المُجريات، بل ينبغي أن تكونَ ممّا يقبله الاحتمال، وتسوِّغه الضرورة، فذهابُ البطل من مدينة لينتحر في أخرى بعيدة مئات الكيلومترات شيءٌ لا يُتوقَّع، ولا يُحتمل، ولا تسوّغه الضَرورَة، فالروائي الذي ينزلق في هذا المنزلق لا يعي ما ينبغي أنْ يلتزم به في سياق الأحداث، والمتواليات السَرْديّة، التزامًا لا يثيرُ اعتراضَ المتلقي. المَتْن الحكائي ولا تُنكرُ المؤلفة أنّ ثمّة علاقةً وطيدة بين علوم اللسان ونظرية السَرْد. فعلم اللغة الوصفي الذي بشَّر به سوسير(1857- 1913) وتأثرت به بعض المدارس اللغوية، كمدرسة الشكليين الروس، وجماعة تارتو Tartu و حلقة براغ، والأسلوبية الفرنسية لدى تشارلز بالي، أدى إلى شيوع فكرة التفريق بين الحكاية والخطاب الحكائي الذي تُروى بوساطته تلك الحكاية. ولهذا كثُر الحديث لدى البنيويين، وما بعد البنيويين، عن الأساليب التي ينبغي لفعل السرد أنْ يتّصف بها، وظهرت مؤلفات كثيرة توقفت بنا لدى السرد، وقضاياه، والانخراط في عملية متواصلة للتعرف على آليات التمثيل السردي للقصص. وقد تجاوز هذا الدرس البنيوي ما بعده، وذلك ما تناولته فلودرْنك تحت عنوان ما بعد البنيوية. على أنَّ السرد - بصفةٍ عامة - يخضع لغير قليل من التراتيب التي أطلقت عليها المؤلفة اسم التأليف Authorship. ففي الفَصْل الثالث تتناول عددًا من الأرْكان؛ أوَّلها المؤلف، إذ على القارئ أن يعرف لأي الجنسين ينتمي هذا المؤلف. فقد أثبتَتْ القرائن أن الأسلوب الذي يكتب به الرجلُ مغايرٌ لأسلوب المرأة. فالقارئ الذي يقرأ رواية لا يعرف إن كان مؤلفها من هذا الجنس، أو ذاك، قد يواجه بعض الصعوبات التي تعيق التلقي (يستعمل بعضهم أسماء مستعارة تخفي الجنس، فمثلا جورج صاند هو الاسم المذكر للروائية الفرنسية أمانتين لوسيل 1804 – 1876، وكذلك جورج إليوت، هو الاسم المذكر للروائية الإنجليزية ماري آن إيفانس1819- 1880). الضمائر والسرد وفيما يتعلق بالراوي، تتناولُ المؤلفة إشكالية الضَمائر، فمنْها ما يكون بضمير الغائب، وهذا هو ديدنُ الراوي العليم، ومنها ما يكون بضمير المتكلم، وهذا هو الذي يوصف بالسارد المُشارك، مقربا الرواية من نموذج السيرة الذاتية للبطل، أو لأحد الشخوص، فيما يَسْتخدم ضميرَ الغائب عندما يكون الأمر متعلقا بإحدى الشخصيات، أو ضمير المُخاطب. ومن السرد ما يقتصر على استخدام ضمير المُخاطب، وهو أصعب ضروب السرد، وأقلها شيوعًا. والمثال الذي تتكئ عليه المؤلفة لكاتب إيطالي (كالفينو) ونستطيع تقريبَ هذا اللون من القارئ العربي بالإشارة لرواية « امرأة للفصول الخمسة « لمؤلفتها ليلى الأطرش، (انظر ما كتبناه عنها في: بنية النص الروائي، ط1، بيروت: الدار العربية للعلوم (ناشرون) 2010 ص 26)، ففيها يتواتر السردُ باستخدام ضمير المُخاطب. زمن الخطاب السردي ويعدّ الزمنُ حجرَ الزاوية في النصوص السردية، لذا تقفُ بنا فلودَرْنك إزاء الفروق بين زمن القصة وزمن الملفوظ السردي، فأحيانا يُروى ما يقع في سنوات ببضعة أسطر، ويجوز أن يجري العكسُ، فيُروى ما يجري في مأدبةٍ لا تستغرق ساعة في صفحاتٍ، ففي الشكل الأول يتصف السرد بالسرعة القصوى بحذف ما لا ضرورة له من الزمن والوقائع، وفي النوع الثاني يجري كبح جماح السرد، وتطويل ما لا ضرورة له من الزمن والوقائع. وهذا يقودُ المؤلفة للوقوف بنا عند (تقنية) الحذف Ellipsis وهي ضرورية جدًا يلجأ إليها السارد لتعذُّر رواية الحوادث بالتفصيل؛ فعلى سبيل المثال تقع أحداث رواية تولستوي(1828- 1910) « الحرب والسلام « 1865 في نحو مائة عام، ويستحيل أن يُروي ما وقع في هاتيك الأعوام بجلّ ما فيها من تفصيلات كبيرة، وصغيرة، لذا لا بد من اللجوء للحذف، بشرط أن يؤدي هذا الحذف لإعلام القارئ مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، بما هو محذوف. وإلا، وقع السرد- في مثل هذه الحال- في العشوائية التي تفسد البناء الفني للقصة، والرواية، شأن الكثير الجم من الروايات العربية التي تمتلئ بها المكتبات. المتواليات المحكيَّة ولا يفوتها الحديث عن ترتيب الوقائع المحكية ترتيبًا يتوافق مع الزمن، وسيرورته بين ماض تولّى، وحاضر آنيّ، ومستقبل يُتوقَّع. وما يتخلل ذلك من مفارقات؛ كالاسترجاع، والاستباق، والتوقف. ولا ريب في أن مثل هذا التنوع في مسارات السرد، وتحولاته، يؤدي لضروب من التبئير focalization أي إبراز أحد شخوص الرواية لوجهة النظر التي يريدها الكاتب. والتبئير يجوزُ أن يكون من وجهة نظر الراوي، أو أحد الشخوص. وقد تتعدَّدُ زوايا التبئير بتعدد زوايا النظر، كما تقع بعض القصص، والروايات، تحت هيمنة إيديولوجيا الكاتب، كرواية رجال في الشمس لغسان كنفاني(1936- 1972) وقد يخضع المنظور لإيديولوجيا إحدى الشخصيات، مثلما هي الحال في رواية « اللص والكلاب « لنجيب محفوظ (1911- 2006) فالغلبة فيها لأيديولوجيا سعيد مهران، لا رؤوف علوان. المظهر الخارجي وتخصِّصُ المؤلفة فصلا للمظهر الخارجي للسرْد، وكيف يمكن للعبارات، والجمل المطردة، أن تتحول في الذهن التخييلي لدى القارئ إلى عوالم تجمَعُ بين خصائص المكان المادي المحسوس والزمن المتقلب في صور متخيَّلة، ووقائع يجري تمثيلها في مشهد افتراضي تسميه المؤلفة المَسْرح القصصيsitting . واللافت للنظر أنَّ هذا المسرح الافتراضي تتعاورُه أشكال من(الحكي) بعضها متعاقبٌ، وبعضها متزامنٌ، أي أن الحَدَث ب يقع بعد الحَدَث أ وهذا هو المتعاقب، أما إذا وقع الحدَث ب مع الحدَث أ في الوقت نفسه، فهذا هو المتزامن، وقد يكون أحد الحدثين مُسْترجعًا لأن الاسترجاع ضروبٌ، فمنه ما يكون سابقًا لجزء من أحداث الرواية، ومنه ما يكون في أثناء اللحظة التي يُروى فيها الحدث، فالمسترجَع وغير المُسترجَع يُحكيان معًا في آن. ومن المظاهر الشكلية للسرد تقديم الشخوص. والطرق التي يعتمدها الكتّاب في تقديم الشخوص كثيرةٌ، ولا حصْرَ لها، فبعْضُهم يلجأ إلى الافتتاحيات التفصيلية عن الشخصية، وبعضهم يلجأ إلى افتتاحية مجملة، وقد يكتفي بذكر اسم الشخصية، أو الكناية عنها بالحرف الأول من الاسم، مثلما نجد في بعض روايات كافكا الذي يرمز لأحد شخوصه بحرف ك. وقد يكتفي الكاتب بالكناية عن الشخصية بالضمير هو، أو هي. الترقُّبُ وأيا ما يكن الأمر، فإن نجاح السرْد يتوقف على ما يثيرهُ لدى القارئ من ترقّب، وهو إحساس ينبثق من التركيب
التسلسُلي للحوادث بما يتخلله من توقف واسترجاع، ومن تواترٍ وانقطاع. والترَقُّبُ هو الذي يُفصح القارئ عنه بالسؤال: وماذا بعد؟ وهو الذي يعبر عنه في بعض الأحيان باستخدام كلمة التشويق، ومعيارهُ أنْ يجعل القارئ مستمرًا في القراءة بلا توقف ودون أن يتخطى بعض المرويات. وهذا يقودُنا إلى طرح السؤال الذي طالما أرَّقَ النقاد، وهو: كيف يمكن الحكم على رواية مُتخَيَّلة بأنها واقعية؟ تناوب على هذا السؤال غيرُ ناقد، وأكثر من دارس، فعند رولان بارط يكفي الإيهام بالواقعية عن طريق اللغة، كتلك التي نجدها في رواية مدام بوفاري لفلوبير، وجورج إليوت، وبلزاك. ومنهم من يكتفي بالموثوقية الواقعية النفسية. أي الشكل السيكولوجي الذي يُضفي على الوقائع المَحكيّة ما يوهم بأنها تتناول نموذجًا حقيقيًا يُمكنُ إدراكه، والتعرُّف عليه في حياتنا اليومية. وهذا لا يعني أنّ بعض الروايات لا تتعمَّد تحطيم الإيهام كرواية جيمس جويس «عوليس «، ورواية بروست « البحث عن الزمن الضائع «. اللغة والسرد ولا تفتأ المؤلفة تُلحُّ على الدور الوظيفي الذي تنْهض به اللغة في تجسيد المَحْكيّات السردية بما يتخللها من حوارات مباشرة، وأخرى غير مباشرة، ومن مناجياتٍ، ومونولوجاتٍ، ومن سرد يعتمد على الإفراط في التفاصيل، وآخر يمتلئ بالفجوات، والحذوف. ومع ذلك، فإنّ جلّ ما في الرواية من مشاهد، وأصوات، وأزمنة، ووقائع، وشخوص، تفكر وتتحاور، يجري التعبير عنه، وتجسيدهُ، بوساطة الكلمات. لذلك تأخذ اللغة - في نهاية الأمر- شكلا، أو أنموذجًا ما يغلبُ على هذه الرواية، أو تلك. وقد يكون لموْضع الراوي، وموقعه مما يرويه، أثره الجليّ في النموذج السردي. يُحْسب للمؤلفة في هذا الكتاب أنَّها خصَّصَتْ الفصل الأخير للانتقال من النظرية للتطبيق، بتناولها روايتين لتشارلز دكنز(1812- 1870) هما: الآمال الكبيرة، وديفد كوبرفيلد، وتعزو اختيارها هاتين الروايتين إلى ما فيهما من اعتماد على السارد المُتكلم، لا الغائب، ولأنَّ ديفيد كوبرفيلد رواية يتحول فيها الطفل غير المحظوظ إلى سيد صاحب ثروة، ومع ذلك تتعرض هذه الشخصية لانقلاب، فالسيد صاحب الثروة غير محظوظ أيضًا. وقد يطول بنا الأمر إذا أردنا استيفاءَ ما في هذا الكتاب الجيد من ملاحظ سديدة عن السرد، ولأن المساحة الخاصة بهذا المقال لا تتسع لما هو أكثر، فإننا نكتفي بهذا القدْر مما قيل عنه، إذ يكفي من القلادة ما يحيط بالعنق