الدكتورة إنعام القيسي تعد عتبة الإهداء – كما تعلمون - من العتبات أو المصاحبات النصية المهمة في الأعمال الأدبية عامة والشعرية خاصة، وذات علاقة وطيدة بالنص، فهي لا تقل أهمية عن العتبات النصية الأخرى، مثل العنوان، والمقدمة والغلاف والمقتبسات وغيرها؛ ذلك أنها تساعد المتلقي على فهم النص وتوضيح دلالاته، وشرح علاماته والكشف عن خباياه ومكنوناته، كما أنها تساعد المؤلف على إثراء نصه وتقديمه للآخرين. وعلى الرغم من أن الإهداء تقليد أدبي قديم، فإنه حظي باهتمام كبير لدى النقاد المعاصرين، الذين عمدوا إلى تحليل هذه الإهداءات، واعتبروها جزءاً من النص ومكملة له،وذات دور مهم في إضاءة دروب القراءة، خصوصا عندما يكون مضمون هذا الأثر الأدبي له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهذا الإهداء. فالإهداء من هذا الجانب هو خطاب حول النص، مرتبط بصاحب النص، يحاول من خلاله الاحتفاء بالمهدي إليه. سأٌقف في هذه القراءة القصيرة عند ثلاثة إهداءات لشاعرنا الكبير هشام عودة، أولها إهداؤه لديوانه «درج العتمة»، الذي يقول فيه: «إلى ابنتي سما التي منحتني عينها وصوتها وكثيرا من وقتها لنهزم معا شيئا من العتمة القاسية»، بهذه الكلمات التي جاءت في صيغة نص نثري قصير يوجه هشام عودة إهداءه البسيط إلى ابنته سما، وهي صيغة تقريرية تتضمن إشارة واضحة إلى زمن الإبداع الذي كان بعد أن منح هشام عودة عينيه إجازة مفتوحة قبل ثلاثة أعوام. وفي هذا الإهداء يعترف أو يكشف عن أن عمله الشعري «درج العتمة» جاء شراكة بينه وبين ابنته سما التي «منتحته عينها وصوتها»، ولذلك لم يعد هشام عودة الشاعر يرى بعيني زرقاء اليمامة كبقية الشعراء المبدعين، بل أصبح يرى بعيني من هي «أبصر من زرقاء اليمامة»، وهو في ذلك يستدعي إلى ذاكرتنا بصورة خفية ما اتسمت بها زرقاء اليمامة من حكمة ورجاحة عقل إلى جانب حدة البصر والقدرة على رؤية الأشياء من مسافات بعيدة، وهي كلها صفات كانت حاضرةً لدى سما، وإلا لماذا يستعير عينيها ليرى بهما وقد منح عينيه إجازة مفتوحة لأجل غير مسمى، وهي تمنح أباها صوتها لتهزم معه «شيئا من العتمة القاسية»، إنه اعتراف كبير أنه عندما ينساب ذلك الصوت إلى أذنيه، يرى الحياة بكل مفرداتها وصورها وألوانها وتجلياتها، فتَحُل أذنه مكان عينه في التقاط الصورة وتأثيراتها؛ ويعد ذلك مدخلاً مهماً لفهم الحياة وحقيقة الأشياء الجديدة التي لم يمر بها الشاعر فيما مضى من عمره، ونافذة فريدة لإثراء تجربته الشعرية على مستوى الرؤيا والتشكيل، ذلك أنه أضحى في قصائد درج العتمة يرى ما لا يراه الآخرون؛ وعلى الرغم من أن إبداعاته متميزة وممتدة عبر السنوات الماضية، فقد جاء تقصائده في هذا الديوان فتوحات شعرية جديدة وعلامات مميزة ذات أهمية كبيرة، تكشف عن أنه استطاع من خلالها أن يقدم قراءة للحاضر، ورؤية للمستقبل، وقد توحد نصه الشعري الجديد بالأشياء وامتزج بالكون، وارتقت تجربته الشعرية في معارج الإبداع بتكوينها الثقافي والسيكولوجي والاجتماعي، وخبراته الجمالية في الابتكار. وغدت ابنته سما دون الأخريات من بنات جنسها صـوتاً أنثـوياً فريداً ونورا يضيء جوانح أبيها المتعبة التي بللها صدأ الكلمات، وسراطه المستقيم الذي لا يَكْذِبه حين انطفاء المصباح، فلم يعد يخشى اِدْلِهْمام الخُطوب واشتدادها، ولا شك أن سما تستحق هذا الإهداء الفريد الذي يقدمه شاعر والد أعطى عينيه إجازة واستعار عيني ابنته وصوتها فاقترب من الروح وأبصر في الدُّجى، ورأى غير الذي نراه. ويهدي هشام عودة ديوانه «أسئلة الوقت»: «إلى بغداد حاضرة الروح»، وقد جاء هذا الإهداء أيضاً في صيغة نص نثري قصير بسيط موجه إلى مكان ذي علاقة خاصة به إنها مدينة بغداد،وهي صيغة تقريرية عامة لا تحمل دلالة زمنية، على خلاف ما جاء في طيات الديوان من قصائد، كان قد كتبها بعد أن سقطت بغداد في يد الاحتلال الأمريكي، لقد تجاوزت رؤية هشام عودة لبغداد في هذا الإهداء كل رؤى الشعراء والمفكرين والمؤرخين الذين سبقوه منذ ألف سنة، من أيام ابن حزم الأندلسي يوم قال « بغداد حاضرة الدنيا ومعدن كل فضيلة «، فغدت بغداد عند هشام عودة « حاضرة الروح «، أقرب إليه من حبل الوريد، لأن لها في نفسه مكانة، وفي قلبه منزلة، وفي خاطره رعشة اعتزاز، فكانت البؤرة التي انطلقت منها معظم قصائد هذا الديوان والأساس الذي بنيت عليه وأنشئت لأجله، ولا غرو في ذلك فقد أمضى هشام عودة في بغداد عشرين عاما، كانت فيها الرصافة تصطفي لغته، وتسكن في حروفه، وتحتضن يداه سعف نخيلها، فمثل سقوطها لديه فاجعة كبرى، وفقداً مؤثراً، وضياعاً عظيماً، فكما عاش وما يزال مرارة فقدان الوطن التي تجذرت في أعماقه، يعيش بعد سقوط بغداد على يد المحتل الأمريكي مرارة فقدان مكان تشكل فيه لديه الوعي والحلم والوعد، وارتقى بذلك في هذا النوع من أعماله إلى شعرية الفقد. وقد ربط الشاعر بين بغداد التي تحاصر وهم الغزاة وتحرس الأرض حين تنام وجنين التي لم تنم لأنها تعيد كتابة التاريخ العربي المعاصر بدم الشهداء، ولا غرو في ذلك لأن كل الحواضر العربية تعيش في ذاكرة هشام عودة وفي وجدانه ويرسمها شعراً ونثراً، على صفحات دواوينه وكتبه بأسماء متعددة، لكنها سواء عنده منذ أن كان طالباً في قريته كفل حارس يرسم خارطة الوطن العربي الكبير، على دفتره. لقد أضحت روح المقاومة والدم والرصاص في تلك المدن العربية المقاومة سواء، ولم تعد بُوصلَةُ شعره تشيرُ إلى وطنه فلسطين، وجراحِهِ ومعاناةِ أهله فحسب، في ظلِّ احتلالٍ غاشمٍ، يستهدفُ القضاء على الإنسان العربي ومحو منجزاته الحضارية، لقد أصبحت تلك البُوصلَة تشير اليوم إلى جراحات مدن مختلفة في أرجاء الوطن العربيِّ كلهِ. ويُهدي الشاعر هشام عودة ديوانه المعنون بـ «ما قاله الراعي لصاحبه» إلى سامي حفيده الأول، « وهو يغذ الخطى باتجاه الوطن والحياة «، ويرد هذا الإهداء في شكل نص نثري قصير ينتمي إلى الإهداءات الخاصة، بحكم توجيهه إلى «حفيد الشاعر»، لذا، جاءت هذه العتبة الإهدائية مشحونة بالحميمية والاعتزاز بهذا الحفيد، كما جاءت تجمع بين ثلاثة عناصر متواشجة الخيوط موصولة المكونات مع نصوص قصائد الديوان،إنها: (الحفيد، والوطن، والحياة) ويربط بينها الجذ الذي يحمل فيه دلالاته الإرادة الصلبة والعزيمة الصادقة والنية الخالصة في السير لاستعادة الأرض ومقاومة العدو، لقد بدا حفيده سامي على صغر عمره نقطة عطر فواحة بالعزم والأمل والمقاومة. وعلى الرغم من أن معاني كلمة راعي التي ترد في عنوان الديوان تتعدد وتتناسل مدلولاتها فإنني سأشير إلى معنى واحد يتواشج فيه الإهداء مع العنوان من جهة ومع مضامين نصوص القصائد التالية له من جهة ثانية، وهو أن الأب راع وهو مسؤول عن رعيته، على افتراض أن صاحب الراعي هو الشاعر، وأن الراعي هو الشاعر نفسه أيضاً، وهذه الدلالة ذات صلة وثيقة بالجد ومسؤوليته تجاه حفيده سامي، الذي أرضع في ظل رعايته حب الوطن منذ المهد ولم يفطم عنه، وهو يجذ السير لاستعادته، إنه لا يقتفي خطو الذاكرة المُتْعَبَة الممزوجة بالفرح والدموع والهموم والحسرة معاً كما فعل جَده، بل يتجاوز الحفيد ذلك إلى معاينة الوطن رغم طفولته، وهو يخطو نحوه أولاً ثم نحو الحياة لأنه يؤمن إيمان الكبار بأنه لا حياة دون وطن فيه يحيا. ويحمل هذا الإهداء بصورة خفية رسالتين أولهما رسالة للقريب من أبناء فلسطين في تغريبتهم ومن خلفهم أبناء العرب تستنهض همهم ليحمِّلوا أحفادهم سيوفا من الأمنيات/ ووعدا من الغضب المرتجى/ في جبال الخليل وجنين وغيرها لاستعادة الوطن المسلوب، وثانيهما رسالة للبعيد/ للعدو هي « ألا يعْجَلْ هذا العدو عَلى بني فلسطين، وأَن ينْتظِرْهم يخبرونه اليَقِين، بِأَنَّهم قوم جبارين، إذا بَلَغَ الرَّضِيعُ لَهم فِطاماً جذ نحو الوطن والحياة، فروح المقاومة تجذرت في بني فلسطين وتناسلت عبر زمن التغريبة، وهي تنتقل كابرا عن كابر من الجد إلى الابن إلى الحفيد إلى أن يعود الوطن ويتحرر من محتليه. لقد غدت إهداءات هشام عودة في دواوينه المختلفة كقصائده التي تتلوها تقاتل في سبيل الوطن، والحياة الكريمة في الزمن الرديء، لأن من حق الإهداءات والقصائد لدى الشعراء الكبار من أمثاله أن تقاتل عندما يتخاذل الفرسان، وأن تُعِز الأرض إن ذلوا أو هانوا، وأن تنحاز إلى الحياةِ الحرة الكريمة وأسبابها على الرغم من الصعاب والتحديات.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 11-02-2022 11:20 مساء
الزوار: 936 التعليقات: 0