|
عرار:
إبراهيم خليل يحتل المكان في الشعر ما لا يحتله في الأدب النثري، من قصة قصيرة، ورواية، ومسرحية. ففي الفنون التي تعتمد على السرد والحركة والتنقل والخيال الذي يسوق للقارئ حوادث تقع في مدة من الزمن، لا بد من أطر مكانية يُعنى بها الكاتب - عادة - لمساعدة القارئ، أو المتلقي- بالنسبة للمشاهدين في المسرح – على تخيل الأحداث، وتسلسلها، وما يسفر عن ذلك التسلسل من ترابط نسقي، واتساق نصي، يميز القصة عن الرواية، والرواية عن القصة، والاثنتين عن المسرحية. أما في الشعر، فحسب الشاعر أن يذكر النهر، أو البحر، أو الشاطئ، أو المرعى، أو الروض، أو البستان، والمدينة، وما شابه ذلك وشاكله من أمكنة على سبيل الإشارة؛ لأمر فيه إضاءة موقف وجداني معين، أو شعور جمالي، أو إحساس يفصح عن تأثره بهذا المكان. فقد كثر على سبيل المثال ذكر غرناطة، وقرطبة، وهما حاضرتان أندلسيتان في الشعر العربي قديمه والحديث. وقيل إن لشوقي أمير الشعراء من الشعر في ذلك ما يكفي لصياغة عنوان ما يصدق على هذه الكثرة، وهو» أندلسيات شوقي (1)» على رأي صالح الأشتر مؤلف الكتاب الموسوم بهذا العنوان. ولسنا نعرف شاعرًا عني بالأمكنة وذكرها من باب الرمز مثل ما عني بها محمود درويش، وبذكرها. سواء أكانت هذه الأمكنة في بلاده فلسطين، أم في غيرها . فالأندلس تحظى في شعره بنصيب الأسد. وبصفة خاصة غرناطة التي خصص لها قصيدة مشهورة عنون بها أحد دواوينه، وهو « أحد عشر كوكبا على المشهد الأندلسي « (2) وهي قصيدة كتبت عنها دراسات كثيرة بين معجبة بها غاية الإعجاب، ومن تثير من خلالها الغبار في وجه الشاعر درويش وشعره، كتلك التي نشرها عادل الأسطة بعنوان جدل الشعر والسياسة. ومن الشعراء الذي تواتر لديهم ذكر الأندلس، وغرناطة بالذات، محمد القيسي(3)، وحميد سعيد، الذي تواتر في شعره ذكره المورسكيين، وهم الأندلسيون الذين ظلوا في الأندلس بعد الرحيل عام 897 هـ 1492م . وقصيدته من أوراق المورسكي قصيدة معروفة مشهورة. أما العلاق، فقد حفل شعره ، ولا سيما مختاراته التي وسمها بعنوان تفاحة الضوء ( عمان: 2021) فغلبت عليه الإشارة للمدن، واسط، وبغداد، وغرناطة، وقرطبة، وأوروك(الوركاء) و بابل، وبئر يوسف الصديق. ففي قصيدة بعنوان «فاكهة الماضي « يقع الشاعر، أو المتكلم بكلمة أدقّ، تحت سحر مدينة غرناطة، وما تمثله بالنسبة لشاعر عربي كالعلاق من ماض يشهد على وحدة هذه الأمة، وتاريخها المجيد، ولغتها المشتركة، فالنسيم الذي يلفنا نسيم واحد، والغبار الذي أحاطنا به الزمن غبار واحدٌ، أوراقنا واحدة، وإنها لشظايا حلمنا الأخير. حلمنا الذي تبدَّد وتحول إلى كابوس: ألمحها في فجر كل يوم تنسلّ من نعاسها ساعةَ يحلو النوم ساعة يغدو الضوءُ والظلمة توأمين والندى سرير تجلس عند آخر الليل على بساطه الأخير ألمحها ، أهتفُ غرناطةٌ يا فاكهة الماضي نسيمٌ واحد يلفنا. غبارنا من الزمان واحدٌ أوراقنا واحدةٌ نحن بقايا طلل مبارك نحن شظايا حلمنا الأخير هذه الإيحاءات: النسيم، والغبار، والأوراق، والأطلال، بما تختزنه من ظلال، يعبر الشاعر فيها عن تفاعله الخاص بالمكان الغرناطي، من غير وصف لغرناطة، وما فيها من آثار، ومن حدائق، وقصور كالحمراء، وجنة العريف، وغيرها مما بُهر به شوقي وآخرون. فهو يتخذ من المدينة رمزًا للدلالة على ماضينا الداثر، وفي موقع آخر يصل وادي شُنيل في غرناطة بنهر الفرات، وأطفال العراق الأبي، بأطفال الأندلس إبان الصراع الدموي مع الفرنجة، الذين يهجمون على « أغنية العُشب « هجوما كاسحًا يبعثُ بغيوم الضحى للمنافي : تلفتّ كان الفرات وحيدا يحصّن أطفاله بالأسى والتمائم وغرناطةٌ تتلوى والضحايا نجوم مهشَّمة في الضفاف أيُّ عطر يقود الغزاة لأغنية العُشب أيٌّ يشدُّ غيوم الضحى للمنافي وليست قرطبة، التي يتكرر ذكرها في شعر لوركا، وشعر محمود درويش، ومحمد القيسي، بأقل حضورًا من غرناطة في شعر العلاق. فأي زائر مثل علي جعفر العلاق لا بد من أن يتأثر بما يشاهده فيها من معالم، وآثار، تؤكد أن المدينة كانت، وما تزال، تتشبث بماضيها العربي الإسْلامي، فهي – مثلما يقول العلاق شعرًا تجاهد ألا تضيع: رأيت بلادًا تجاهدُ ألا تضيع شممْتُ أريج منائرها المتربة وتملكني هاجسٌ تلك بيروتُ أم قرطبة وغزالُ صبايَ المشرَّد أمْ تلك خمرته الطيبة (ص107) ففناءُ الشاعر الصوفي، أو شبه الصوفي، في هذه المدينة الأندلسية، يعبر عنه بالمساواة بينها وبين بغداد، فلا يعرف ما الاسم المناسب:» أسميك بغدادَ، أم قرطبة؟» (ص109) ومن المدائن التي تجد حظا لها في شعر العلاق مدينة واسط، تلك التي أنشأها الحجاج بن يوسف الثقفي وسط العراق، ومن ذلك سميت واسطا. وينسب إليها الواسطي الخطاط الذي تعزى إليه لوحات زخرفية في ألف ليلة وليلة، وفي كليلة ودمنة، ومقامات البديع. ةقد أطلق العلاق على الشاعر المعروف ابن زريق اسم الواسطي بدلا من البغدادي، مع أن النسب الثاني هو الشائع عنه، والمعروف، يقول العلاق على لسان ابن زريق: يا شجَرَ الكرخ وأنسى أنَ لي من عمركم عامين تركتُ فيهما يديْ عمريَ المبتلّ جئت دونما عينيْن (ص15) فعدا عن أن ابن زريق نادمٌ لتركه بغداد، وتركه زوجته التي أحبها كثيرا واحبته، فهو نادم ايضا لتركه واسط، يقول الشاعر على لسانه في قصيدة أخرى: واسطُ كانت في دمي آنية من مطر مملكة ضيَّعْتها صبيحة الاثنين وفي مساء الأحد الشاحب جفَّتْ وردةٌ في طرف الضلع بكتْ قبيلة في العين وفي أخرى لا يدري المتكلم في القصيدة من أمر واسط إلا أنها تتموج في نفسه تموج الأمهات وهن يغنين للشيب، أو للقلوب القاسية كالحجارة: ربما واسطٌ تتموَّج فيّ كما الأمهاتُ يغنّين للشيْبِ أو للقلوب الحجَرْ وتبدو هذه الأمكنة: غرناطة، وقرطبة، وبغداد، وواسط، متأخرة نسبيًا قياسا لبابل، وأوروك، فهو يكرر ذكر بابل متخذا منها رمزًا يحيلنا إلى العراق كله. فبابل التي تذكرنا بالحضارات المبكرة في بلاد ما بين النهرين، تذكرنا أيضا بكلكامش، بطل الملاحم السومرية، وأنكيدو، وبذكر هذين النموذجين تحضر في الأذهان لغة الحنين إلى الحياة الخالدة التي لا تنتهي بموْت الكائن، وتذكرنا بصفة خاصة بكلكامش، والبحث عن العشبة التي زعموا أمها تجعل الإنسان خالدًا لا يدركه الفناء، ولا يخترمهُ موت: منذ أنْ كانَ كلكامش عشبة منذ أن خلقت بابلُ لغة للحنين والموت لنا، متقلَّبٌ بين ليل وليل فمن أيما عشبَةٍ صاغنا الله من أيما تهْلُكة للخراب أمْ البركة (ص244) ولا يفتأ الشاعر متخذًا من بابل رمزًا لمعاناة العراقيين في القديم والحديث. فإذا كان كلكامش فشل في أن يظفر بالخلود وبالعشبة الخاصة بذلك إذ التهمتها الأفعى، فخسر بذلك نعمة البقاء الأبدي ، فإن بابل أيضا رمز لما يخيم على العراق من محن ، تظلل أنهاره، وتهجّن صلوات المتعبّدين فيه، فهو: شعبٌ يهاجر مرتديًا ضوء محنته أين يمضي؟ وأيّ غدٍ يتخيرُ ؟ أعيادُه معبرٌ بين موتين(ص207) وتبعا لما تقدم وسبق نجد في بابل فاعلية رمزية لا نجدها لا في واسط، ولا في غرناطة، ولا في قرطبة، ولا حتى في أوروك. تشهد على هذا قصيدة بعنوان « افتراض « إذ يخاطبُ المتكلم في القصيدة عدوًا افتراضيا يتبجَّح هذا العدو الافتراضي بالكثير الجم مما جاء به الأمريكيون من سحائب ممطرة، ومن قيثارةٍ شجية، وحزينة، ومن أسراب نوارس مثيرة، ومن نكهة يضفيها الاحتلال على الوردة، أو على الحجارة، وجلّ هذا مما يجاري المتكلم فيه عدوَّه، غير أنه في آخر القصيدة يلقي عليه بسؤال ينفي جلَّ هاتيك الإدعاءات: لكن أتستطيع أن تتناسى كلَّ ذلك الدخان يصعدُ منْ روحكَ منذُ اغتُصبت بابلُ حتى الآن؟ أما أوروك، وهو الاسم القديم للوركاء، فلا ريب في أنه اسم يرتبط ذهنيا بكلكامش وأنكيدو، وحكاية البحث عن الخلود، فالمتكلم في القصيدة يبحث في هذه البلدة القديمة، وبين أطلالها الدارسة، عن قمر ما يضيء ويخلصه من الموت. ويأتي حرص الشاعر على وصف القمر بالذبول كانما هو أيحاء بخيبة المسعى: من سيخلصني ، إنه الحوتُ أنفضُ مثل اللديغ ثيابي وأنهض من محنة النوم، يحفُّ بيَ العابرون َ الطغاة، القُساةُ، الجناةُ، الغزاةُ، الذئاب (ص269) فلا ريب في أنَّ أوروك التي ترمز للعراق برمته تعاني من ذبول القمر، فما يحيط بها من خطر يمثله العابرون القساة، والغزاة، والطغاة. وصفوة القول، وزبدة الحديث، هي أنّ العلاق في مختاراته هذه يتخذ من المدن غرناطة، قرطبة، واسط، بغداد، بابل، أورك، وغيرها,, رموزًا توحي في مواقعها من النصوص إيحاءاتٍ سياسيةً تارةً، وطورًا حضارية ثقافية، وفي طور ثالث إشارة لما يعانية العراق اليوم من اختلالات طائفية، واحتلالات خارجية، وأخرى إيرانية بالوكالة. وبدلا من أن يعبر عن ذلك تعبيرًا مباشرًا يؤدي إلى تسطُّح التجربة الشعرية، عبر عن ذلك بإيماءاتٍ لا تعدو ذكر اسم المدينة، وما يترتب على ذكر الاسم إحالات للمعاني، وبذلك يحقق الشاعر لقصيدته بلاغة التلميح عوضًا عن التصريح. هوامش: صالح الأشتر، أندلسيات شوقي، ط4، مطبعة جامعة دمشق، 1959 محمود درويش، أحد عشر كوكبا على المشهد الأندلسي،ط1، طوبقال للنشر، المغرب، 1992 انظر: إبراهيم خليل ، ظلال واصداء أندلسية في الأدب المعاصر، ط1، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2000 ص 53- 70 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-02-2022 11:16 مساء
الزوار: 435 التعليقات: 0
|