موازنة بين ديواني «زيتي وزيتوني» لأديب ناصر و»أقتفي خطو ذاكرتي» لهشام عودة
عرار:
د. زاهر محمد الجوهر حنني/ فلسطين
بعد أربعة عقود ونيف، عاد الشاعران أديب ناصر وهشام عودة إلى أرض الوطن زائرين، مرهقين من السفر؛ إذ فتّت الغربةُ في عَضُدَيهِما، متوهجين كبرق السماء، يفتحان ذراعيهما لاحتضان الوطن، الذي غابا عنه أربعة عقود قسرا، وأخيرا سمح لهما الاحتلال بالزيارة، كيف كان الوطنُ وربوعُ الصبا، وكيف صارت؟ هل غَيَّرَ الزمنُ المريبُ ملامحَ الزمنِ الحبيبِ؟ولم يكد الشاعران يفتحان قلبيهما حتى اغتالتهما أوامر الاحتلال بالعودة من حيث أتيا. فأطبق الهمُّ الرابض منذ زمن على كاهليهما مرة أخرى، وعادا بديواني شعر وانكسار، وخيبة ما زالت تنهش لحمهما. توازن هذا المقالة بين ديواني الشاعرين أديب ناصر: (زيتي وزيتوني) وهشام عودة: (أقتفي خطو ذاكرتي)، محاولة الإجابة عن السؤال: كيف عبر الشاعران عن مشاعرهما لدى عودتهما إلى أرض الوطن، وما أوجه التشابه والاختلاف في مضامين القصائد في ديوانيهما وفي الشكل الفني لدى كل منهما، وما أثر عودتهما؟ أولا: المضامين: وقف كل من الشاعرين عند لحظة مهمة سبقت العودة، وقد كان الانتظار هاجسها الذي طال أمده، وكل إنسان عاين الانتظار دقائق وربما ساعات يعرف كم كان قاسياً، فما بال من يظل منتظرا أربعة عقود، كيف تكون حاله! أديب وهشام اختزلا قسوة انتظار السنين الطويلة كلها في لحظات، فأعادا رسم ذاكرة تهيئ لذاكرة جديدة، بعد انتظار مدة طويلة، طولها دواوين شعرية كثيرة، أديب يعبر عن اللحظة بارتياب في قوله:» حتى يأذن لي بالأهل غريب/ سوف أؤجل سفري/ أو أتخيل سفرا...»، أما هشام فكأنه مطمئن إلى أن العودة باتت قاب قوسين أو أدنى، يقول:» على أربعين رصيف جلستُ/ وفي جعبتي بقجة فارغة/ ومن أربعين طريق أتيت/ إلى وطن/ سبقتني إليه المرايا...»، ثم تأتي لحظة الحقيقة، لحظة لقاء الوطن، فوقف كل منهما أولاً عند أريحا مدخل فلسطين من جهة الأردن، فخاطبها أديب:» كأن شيئا لم يكن / ليقول رب الخلق كن» ، فكان ذلك أول ما نطق به على أرض الوطن بعد سبعة وأربعين عاما من الغياب، أما هشام فخاطبها بفرح وحبور، وكأنه لم يصدق بعد، هذه الحقيقة، فقال:» يا أريحا/ انثري ما تيسر من ورد آذار/ في طرقات الحنين» ،، ثم أخذ كل منهما يتحدث عن الطريق إلى بلدته، التي تعبر عن فلسطين، بكل ملامحها الحاضرة المستحضرة، ثم عن بلدته وجاراتها، ويقارن بين صورتها في الذاكرة وصورتها الآن، فقال أديب عندما أطلت عليه بير زيت من سلواد:» ورسم الغيم بأبيضه وجهين: أمي وأبي» ، وهشام تنشله من ضياعه زغرودة في مدخل البيت:»وفي مدخل القلب / أو مدخل البيت/ زغرودة تغسل الحزن/ تنشلني من ضياعي «، ويقف كل منهما عند تينة في الدار، في أول ما يحث الذاكرة ويستخرج منها بعض ذكريات الماضي، وإن تكن تينة بيت هشام قد اقتلعت عندما هدم الاحتلال بيتهم، فإن تينة بيت ناصر التي زرعها والده في غيابهما زالت قائمة، ومع ذلك فللتين والزيتون رمزية عالية، وهي تشير إلى تشبث الفلسطيني بأرضه، وهي رمز وجوده على هذه الأرض، ولعل ما نشاهده من تعمد الاحتلال وقطعان مستوطنيه اقتلاع أشجار الزيتون وإحراقها، خير دليل على محاولات طمس الهوية التراثية لهذه الأرض وفلسطينيتها. ثم يبدأ كل منهما بالبحث في أروقة الذاكرة وأزقة البلد عن شيء ضائع ما عاد موجودا؛ أين ذلك الطريق، وأين ذلك الزقاق، وأين تلك السروة؟ كل شيء تغير، ابن من أنت؟ وحفيد من أنت؟ كل التفاصيل الصغيرة تعود إلى الذاكرة تباعا، وكل منهما يعيد رسم ملامحها من جديد، فيجد واقعها قد تغير، وهنا تحدث صدمة العودة؛ فأين الوطن المرسوم في الذاكرة منذ عقود ويحتفظ به الشاعر طوال غربته؟ لم يعد كذلك! أديب يقف مشدوها أمام هذه الصدمة، فيقول:» عدت كهلا فأين (أهلا وسهلا)؟/ أم هو البعد حمّل الجهل جهلا؟// أم رأيتم غريبكم في نحول/ من نزيف الظلال قد سال ظلا؟»، أما دهشة هشام فعبر عنها بقوله: «كأن العصافير ليست لنا» و»أقول لأرصفة أنكرتني». أما مظاهر التعبير المختلف بينهما فقد تمثل في كثير من التفاصيل، ويبدو أن التفاصيل في العادة ينبغي أن تكون مختلفة؛ لأن لكل إنسان حياته الخاصة إلى جانب التفاصيل العامة، فأديب يسهب في الحديث عن القرى المجاورة لبلدته، ويذكر كل قرية باسمها، فقد رأينا كيف تحدث عن سلواد ويبرود وجفنا وعين سينيا والجلزون و... وما يرتبط بها من ذكريات، بينما هشام لم يتطرق لتلك التفاصيل إلا قليلا. وفي شعر أديب تشيع روح السخرية المرة من حين لآخر، كما في قوله:» أيها الديك الفصيح/ لا (تحلمش)/ وانطق الاسم الصحيح» ، وغير ذلك، ،أما هشام فغابت عن شعره هذه الروح. وكان شعر أديب في هذا الديوان أقرب إلى القصصية من شعر هشام. ثانيا: الشكل الفني: اشتمل ديوان أديب ناصر على إحدى وثلاثين قصيدة، متفاوتة في الطول، لكنها في مجملها قصيرة نسبيا، أما ديوان هشام عودة ففيه نص واحد مقسم إلى ستة عشر مقطعا مرقمة ومتتابعة، وهو أشبه بقصيدة واحدة، فيها نفس ملحمي، لكنها ليست ملحمة شعرية. العناوين: جاء عنوان ديوان أديب (زيتي وزيتوني) يحمل دلالات التمسك بالأرض وبالهوية الفلسطينية التي يعمل المحتلون على تغييبها وإلغائها، وإحلال تاريخ زائف طارئ بدلا منها، في محاولة للاستيلاء التام على هذه الأرض، وإثبات مقولة صهيونية وهمية زائفة مفادها أن هذه الأرض كانت أرضا بلا شعب واليهود شعب بلا أرض، فيؤكد أديب من خلال العنوان أن هذه الأرض لهذا الشعب، وأن الزيت والزيتون (وهما رمز لفلسطين) لهذا الشعب أيضا، فينفي المقولة ويضحدها، ويذهب في الديوان كله لإثبات ذلك، ولأن الفلسطيني يستمد استمرار صموده من صمود الزيت والزيتون فإن أديب يصر على أن يظلا مداد استمراريته في غربته، فيقول:» يا غربتي كوني/ زيتي وزيتوني» وجاء تأكيد ذلك عن طريق ياء المتكلم التي تحمل المعنى (الزيت زيتي والزيتون زيتوني). والملاحظ أيضا أن عناوين القصائد في الديوان كلها تصب في الوطن. أما عنوان ديوان هشام (أقتفي خطو ذاكرتي) ففيه تواصل بين الذاكرة والواقع والحلم، لأن خيوط الربط بينها جميعا تستمد من البقاء، وتشير صراحة إلى أن الشاعر الفلسطيني ليس منبتّا عن أرضه، وأرضه هي ذاكرته التي تعي كل شبر وكل حبة رمل وكل جبل وسهل وزيتونة وصفصافة وسروة وبيت وزقاق وحي وقرية ومدينة، ونفي الذاكرة يعني نفي الماضي، ومن لا ماضي له، لا حاضر له ولا مستقبل. وهذا يؤكد أن عنواني الديوانين يدوران في فضاء واحد هو الوطن. اللغة: «اللغة وسيلة تعبيرية وغاية مقصودة بحد ذاتها، فمن تمكن منها وتفاعل معها أصبح صاحب قول مسموع ومراد، وأما من خانته اللغة فهذا عيب فيه لا في اللغة وقيمتها التعبيرية والمتمثلة في الأداء»،. قامت لغة ديوان أديب على المراوحة بين ثلاثة: الحضور والغياب والتجلي، وعلى التماهي بين ثلاثة: الواقع والحلم والأمل، وبين المراوحة والتماهي يتخلق الكائن الفني في لغة مختزلة معبرة مكثفة، بعيدة عن القوالب الجاهزة، والتكرار الممجوج. أما لغة هشام فقد قامت على الاصطدام بين المنطق والعاطفة؛ فالمنطق يضعه في الواقع ممهورا بالعقل والفكر. عاد، ولكنه لم يعد «أرى وطني» والعاطفة تقتفي خطو الذاكرة «أقتفي خطو ذاكرتي كي..» وهي مفتاح كل مقطع من مقاطع الديوان. وأخذ الاسترسال في تتبع مراحل العقل يقود في كل مرة إلى مرحلة من مراحل العاطفة، فيتجسد الاصطدام غير العنيف، لأن الشاعر يدرك ما يقول، من هنا كان الاسترسال ضرورة أدركها الشاعر؛ كي تكون وسيلته للوصول إلى غايته التي تؤكد التعارض بين المنطق والواقع. والشاعر يكرر أرى ورأيت في كل مراحل الديوان، لتكون الرؤيا معبرة عن رؤية فنية عاطفية تجسد حضور الوطن في عقل الشاعر ونفسه، لذا كان لا بد منها الإيقاع: مثلما تنوعت لغة أديب وقصائده في هذا الديوان فإن موسيقاه جاءت متنوعة أيضا، فقد جاءت معظم القصائد من شعر التفعيلة (انتظار، المواعيد، أردن...)، وبعضها على بحور الخليل العامودية (عدت كهلا، أين السقي؟، ماذا تبقى،...) كما لون في القصيدة الواحدة بين التفعيلة والعامودي (على باب أريحا، بيت لحم،...) وقد جاء ذلك كله انسجاما مع خفقات قلب الشاعر الذي يعود إلى وطنه، وإذا كانت وحدة التفعيلة تعطي الشاعر مساحة من حرية التعبير عن مشاعره وتدفق شاعريته دون الحد منها وتقييدها، فإن العامودية تعطي الشاعر فسحة من العيش في ظل أنسام التزاوج بين الماضي والحاضر، والمزج بينهما، مزج له ما يسوغه من حيث حاجة الشاعر إلى نفسه للتعبير عنها بحرية دون قيود. ففي قصيدته (المواعيد) مثلا التي جاءت على تفعيلة (فاعلاتن) منسجمة في تدفقها العاطفي مع الأنساق الإيقاعية لفاعلاتن، من حيث التأني في حساب الزمن لتحقق المواعيد، وفي فاعلاتن فسحة لهذا التأني. أما قصيدة (أين السقي؟) التي جاءت على أنساق مخلع البسيط فقد استمدت هي الأخرى انسجام إيقاعها مع صفات (مستفعلن فعلن) لتحقق إيقاع الروح حين ترقص على إيقاع المذبوح عند بركة ما عادت تحمل هموم أهل القرية كما كانت في الماضي. وعندما مازج بين النوعين وجدناه في (بيت لحم) يراوح بين مجزوء الكامل وتفعيلاته لينشد نشيد البيت المقدس ثم يوزع تفعيلاته كما تتوزع ترانيم الطفل السماوي. ولم يحتكم أديب إلى التقيد بقيود القافية إلا حين دعت الضرورة لذلك، انسجاما مع إيقاع عودة الروح إلى حضنها قبل عودتها إلى بارئها. بينما لم يجد هشام مندوحة من التعبير بنسق إيقاعي واحد من بداية الديوان حتى نهايته، فتفعيلة (فعولن) التي سيطرت على القصيدة (الديوان) كله لها ما يسوغها من حيث قدرتها على استيعاب هذا النفس الشعري الطويل، فبها يستطيع الشاعر التحليق في عوالم الذاكرة، دون أن توقفه حدودها، وبها يستطيع تجسيد عودته، وتأكيد هويته، وبها يستطيع أن يعبر عن انكساره، والقافية كانت في الديوان رديفا مهما للوزن مكملة للإيقاع الحر؛ فعندما أرادها حرة كانت كذلك، وعندما أرادها متقابلة لبته:» وحين افترشت الطريق إلى لغتي/ لم أجدني/ وجدت الضبابَ/ وجدت الترابَ/ وجدت الغيابَ/ ولكنني لم أجدني»، فالقافية في الضباب والتراب والغياب فيها هول المفاجأة التي وضعت لها قافية (أجدني) حدا مأساويا متناغما مع وجود كل شيء قد تغير، ولم أجد ما أريد. ثالثا: العودة المبتورة: يمكن تحديد أبرز مظاهر صدمة العودة المكسورة في شعر الشاعرين بما يأتي: تغير معالم الوطن من حيث: الأرض، الإنسان، الهبوط من سماء الأحلام إلى أرض الواقع، الثوابت، صراع مع الزمن، البتر. خاتمة: كانت أوجه التشابه كبيرة جدا بين الشاعرين بسبب أنهما عاشا ظروفا متشابهة في كثير من المراحل، وعادا ثم أبعدا مجددا في الظروف نفسها، وكانت أوجه الاختلاف بينهما تتمثل في الشكل الفني غالبا وليس في المضامين. ففي الشكل الفني حاول كل منهما التعبير بطريقته الخاصة مبتدعا ومجددا وخالقا، فتفاوتا في طرق التعبير وبخاصة في الجوانب المتعلقة بالإيقاع والصور الفنية. أما العودة المبتورة فنال كل منهما حظه منها وعبر عنها بطريقته الخاصة.
الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 26-07-2019 11:04 مساء
الزوار: 1070 التعليقات: 0