|
عرار:
فوزية شاهين/ مصر أولا: يُعتبر بناء القصيدة عمودا أساسيًّا من أعمدة العمل الشعري، وهو يعكس لنا رؤية الشاعر في تناول القضايا وكيفية معالجتها، كما يعكس أيضا المظاهر الحضارية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والشخصية والدينية والعلمية لهذا المجتمع الذي يعيش فيه الشاعر. ولذلك سُمي الشعر بديوان العرب، والشاعر هو المؤرخ لما يحدث في هذا العصر من خلال شعره، وقد فتح لنا ديوان (نام الحنين على ستائر شرفتي) للشاعر أشرف قاسم نوافذ عدة نطل من خلالها على معرفة أمور إنسانية كثيرة تماهى فيها الشاعر مع شعراء آخرين، إما بالرثاء أو الثناء والإهداء، وحرص الشاعر على بناء قصائده بناء تامًّا، كامل العناصر بإنسانية قل نظيرها، وهنا يتحدث عن الغربة وحنينه إلى الوطن، فيقول في قصيدة «أشواق السندباد»: الآن أجلس يا أبي كالطفل أبحث عن عيونك في الظلامْ البحر ساج والسماء حزينة والحزن في قلبي ينام ولا ينامْ ما زلت أبحث عنك في هذا الزحامْ إلى أن قال: أبتي.. على بعد المسافة بيننا أستسمحُ القلب الكبيرْ بيني وبينك يا أبي عهد بألا ينطفي في داخلي نور الضميرْ ألا أسير مخدرا في ذلك الزمن الضريرْ نجد هنا الحداثة في القالب الموزون، لنقول لمن ينادون بالتخلي عن الوزن الذي يقيد إبداع الشاعر، ها هو أشرف قاسم يصوغ قصائده بلغة حداثية، معبرة في قالب الموزون، ولم يقيد إبداعه وزن. ثانيا: كيف بنى الشاعر أشرف قاسم قصائده؟ لأن أشرف قاسم مفطورٌ على الشعر، وذو علم ودراية بماهية بناء القصيدة، فقد بنى قصائده بناء محكما بعناصر البناء الخمس، وهي: الفكرة / العاطفة / الخيال / النظم/ الأسلوب. 1- الفكرة: هي القضية أو المشكلة، وهي المؤثر الخارجي الذي يؤثر على الشاعر، فينفعل به ويبدأ في صياغته صياغة شعرية، وهنا نجد الشاعر أشرف قاسم في كل قصائده يحمل قضايا وطنية واجتماعية وإنسانية كثيرة. 2- العاطفة: وهي ما يحمله الشاعر من مشاعر داخلية تجاه أي قضية، وتختلف العاطفة من شاعر لآخر، حسب مدى تأثره وانفعاله بتلك القضية، ولهذا؛ نجد الشاعر الممتاز والشاعر الجيد والشاعر المتوسط، فكلما زاد تأثر الشاعر بقضية ما؛ كلما أنتج شعرا جيدًا، وهنا نجد العاطفة عند أشرف قاسم عاطفة شديدة التأثر بما حولها. لذلك؛ تميز عن غيره بتلك العاطفة الرقراقة. 3- الخيال: وهو مدى قدرة الشاعر على ابتكار الصور في شعره، من علوم البلاغة الثلاثة: (البيان)، (البديع)، (المعاني).. ولم يعتمد على تقليد الآخرين، أو اجترار الصور المستهلكة، ولقد برع في ذلك. 4- النظم: وهو اختيار الألفاظ الملائمة للموضوع، مع الحفاظ على الوحدة العضوية للقصيدة، والتي تتمثل في وحدة الموضوع ووحدة الجو النفسي، وقد أجاد الشاعر اختيار ألفاظه التي تناسب القضايا التي تناولها في شعره، وسوف نورد أمثلة على هذا تطبيقا لعناصر بناء القصيدة. 5- الأسلوب: إنه البصمة التي يتركها الشاعر في أعماله وتعبّر عنه، وللشاعر أشرف قاسم بصمة شعرية مميزة لا تشبه أحدا، فقد أجاد في قصائده من حيث حسن الاستهلال، وحسن الخاتمة مع ترابط الأفكار، والتكثيف أحيانا والسرد الحكي أحيانا أخرى، حسب ما يقتضيه الموضوع مع الحفاظ على الإيقاع الداخلي للقصيدة ووحدة الموضوع دون تشتت، حيث يقول تطبيقًا على كل ما سبق في قصيدة «هذا مقام الصابرين»: وطنٌ بلون الحزن يسكن أفقنا وسلاسل اليأس المحيط تغلنا والظامئون الآن دون إرادة لعقوا التراب نكاية مات الوليُّ.. فكيف يحتمل المريدُ؟ نجد هنا الشاعر صاحب قضية، ولديه الموضوع الذي صاغه شعرًا، ولم يخل شعره من ذكر الوطن، فهو محمل بهموم وطنه.. يقول: «وطن بلون الحزن»، وكأنه يقول لون الوطن كلون الحزن، فقد شبه دون ذكر أداة التشبيه لون الوطن بلون الحزن، وكل من لون الوطن ولون الحزن مجهولان لدى المتلقي، فقد ترك الشاعر المتلقي يُعمل عقله ويتخيل مدى شكل الوطن، والشيء بالشيء يذكر: قال تعالى في تشبيه شجرة الزقوم: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين)، فكل من المشبه والمشبه به مجهول. لم نر طلع شجرة الزقوم، ولم نر رؤوس الشياطين، ولكن تُرك هذا التشبيه هكذا للناس، ليتخيل كل منا مدى قبح ملامح شجرة الزقوم، وترك لنا الشاعر في (وطن بلون الحزن) لنتخيل مدى شكل الوطن، فكل منا يرى الوطن من وجهة نظره. منا من يراه يبكي، ومنا من يراه يلبس السواد، ومنا من يراه ينوح حسب الرؤى المختلفة. في (وطن بلون الحزن) كانت الألفاظ ملائمة للموضوع. (الحزن. اليأس. تغلنا. الظامئون. لعقوا التراب. نكاية. مات)، وهذه الألفاظ تناسب الجو النفسي للشاعر وللموضوع. وسوف نتناول عنصرًا من عناصر بناء القصيدة، وهو الأسلوب كما ذكرنا. إنه البصمة التي يُعرف من خلالها الشاعر، وقطرة من الدماء تكفي لمعرفة نوع الفصيلة، وهناك أكثر من أسلوب للتمييز بين الشعراء.. 1- الأسلوب الأدبي: ويكتب به معظم الشعراء والأدباء. 2- الأسلوب التجريدي: وهو الأسلوب الغامض الموغل في الإيهام والإبهام، كأسلوب أدونيس. 3- الأسلوب الحكيم: وهو الأسلوب الذي يعتمد على العقل والمنطق، ويعتمد على الإقناع والإمتاع، وقد تميز به الإمام الشافعي رحمه الله وزهير بن أبي سُلمى. 4- الأسلوب الخطابي: وهو الأسلوب الذي يخاطب العقل، ويكون بلغة مباشرة ليس فيها أخيلة. 5- الأسلوب العلمي: وهو الأسلوب الذي يعتمد على الأرقام والنظريات، ويستخدم في الأبحاث العلمية. 6- الأسلوب المتكلف: وهو أسلوب يعتمد على اللفظ دون المعنى، فمعظم الشعراء؛ يستخدمون الأسلوب الأدبي الذي يستعين فيه الشاعر بالأساليب البلاغية والمحسنات البديعية، إضافة إلى كثرة وجود المجاز، وهو الانزياح عن اللفظ المباشر إلى لفظ آخر، والإتيان به في قالب جديد لغاية جمالية. ومن أنواع الأسلوب الأدبي: 1- الأسلوب الحسي: والذي يزيد فيه الإيقاع ويقل التكثيف والتجريد، ومن أشهر شعرائه نزار قباني. 2- الأسلوب الحيوي: الذي ينمي الإيقاع الداخلي والتنويع دون تشتت، ومن أشهر شعرائه بدر شاكر الشياب. 3- الأسلوب الدرامي: وهو الأسلوب الذي يعتمد على السرد والحكي، ومن أشهر شعرائه صلاح عبد الصبور. 4- الأسلوب الرؤيوي: وهو الأسلوب الذي يعتمد على محاكاة الطبيعة والتأمل في أسرارها والامتزاج بها، ومن أشهر شعرائه عبد الوهاب البياتي. أما الذي جمع بين كل تلك الأساليب هو الشاعر محمود درويش، وخاصة في قصيدة (سجل أنا عربي)، ويسير على دربه الشاعر أشرف قاسم، فقد جمع كل تلك الأساليب في شعره. يقول في قصيدة (بكائية على قبر محمود درويش): لماذا رحلت؟ وممن تعلمت هذا الجفاء؟ لمن يحفظون عرائس شعرك بين الضلوع تودعنا؟ كيف يا سيدي؟ يا مليك القلوب وتتركنا في المساء الأخير جراحا تنز دما مثخنة لماذا رحلت؟ وكل الجياد كبت في الطريق انحنى الفاتحون تواضعت الأمنيات الكبار نجد هنا (لماذا رحلت) الانفتاح الدلالي من البداية، لنتساءل من الذي رحل؟ وما ماهية هذا الرحيل؟ هل الرحيل سفر؟ هل هجر؟ هل موت؟ إلى أن تنفرج الدلالة رويدا رويدا، لتكشف عن الراحل من يكون؟ فقد وجدناه في التضمين الذي أحسن الشاعر استخدامه عندما قال) :تقول امتلأت بأسباب هذا الرحيل)، وفي (في الرحيل الكبير أحبك أكثر(، وفي (اذكريني كما تذكرين العناوين في فهرس الشهداء)، وفي (يا أيها الموت كن نعمة للغريب الذي يبصر الغيب أوضح من واقع لم يعد واقعا)، إلى أن يقول: (أحن إلى خبز أمي)، فتظهر براعة الشاعر في اختيار الخاتمة، كما برع في الاستهلال. وقد تماهى التضمين مع قصيدة الشاعر أشرف قاسم وامتزج، لدرجة أننا لم نشعر بهذا التضمين الذي صار جزءا لا يتجزأ من النص أثناء القراءة، وأثناء إلقاء الشاعر قصيدته. الومضة في شعر أشرف قاسم. كما تميز الشاعر في كتابة القصائد الطوال التي تحتاج إلى السرد؛ تميز أيضا في كتابة الومضة التي تحتاج تكثيفا غير عادي في المعنى، بقليل من الألفاظ. ومن شعر الومضة في ديوان (نام الحنين على ستائر شرفتي (بعنوان (اثنتا عشرة عينا) أي (اثنتا عشرة ومضة)، والتي يحيلنا فيها إلى قصة سيدنا موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، عندما فجر لهم بعصاه اثنتي عشرة عينا من الصخر. يقول الشاعر: هي لحظة بيني وبينك واحدة إمَّا نعيش حياتنا أو أن نظل العمر نركض كالخيول المجهدة ومن شعر الومضة في نفس الديوان بعنوان (من تراتيل عاشق) يقول: صمتي كلام.. فلتقرئي صمتي.. ليتصل الوئام وقد ظهرت ثقافة الشاعر الدينية والتاريخية والفلسفية في قصائده، وقدرته على السرد والحكي دون تشتت أو خروج عن الموضوع، وقدرته أيضا على التكثيف من خلال الومضات الشعرية واستخدام الرمز. نحن أمام شاعر مطبوع، مثقف، واع، ومدرك لماهية الشعر، هو مجدد في الصور، وله بصمة خاصة تميزه عن سواه، بالإضافة إلى تناول الموضوعات بإنسانية، إذ جعلت شعره يصل إلى قلب المتلقي، ولقد نجح أشرف قاسم في الوصول إلى الجمهور، لأنه مس مشاعره، وتحدث بلسانه، إننا نبارك ونثمن هذا العمل المدهش، وهو إضافة جادة ومفيدة وثرية للمكتبة العربية، وللشعر والشعراء المعاصرين و للأجيال القادمة. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 10-06-2022 10:09 مساء
الزوار: 390 التعليقات: 0
|