|
عرار:
عُلا موسى مرّت القصة القصيرة الأردنية بمراحل مختلفة عكست كلّ مرحلة التطور الحاصل على مستوى الشكل والمضمون، ومن خلال هذه الفترة استطاع القاصون أن يحيطوا بجوانب الواقع الأردني والعربي، كلّ حسب مرحلته ورؤيته الفكرية ونظرته الجمالية مع اختلاف الأساليب والأدوات الفنية. إن القصة القصيرة جدًا نوع حديث من الأدب، انتشر في الفترة المعاصرة بشكل واسع وأصبح نوعًا سرديًا قائمًا بحد ذاته، تعتبر بالحجم أصغر من القصة القصيرة وقد لا تتجاوز بضعة أسطر وأحيانًا قد لا تكون أكثر من سطر واحد. مدخل في مفهومي الرؤية والتشكيل: الرؤية: يعرِّف الدكتور عبدالله العسّاف الرؤية بأنها «المادة الوثائقية التي يعكسها الفنان من الواقع، وتخص المجتمع والفرد معًا، يضاف إلى ذلك موقف المبدع وطرائق تشكيله الجمالية لتلك الرؤية». التشكيل: هو مصطلح أدبي يصف الجمال الفني والسيميائي داخل بنية القصة أو القصيدة وخارجها. الرؤية الفكرية وأبعادها في المجموعة القصصية «أربعون رصاصة تكفي»: قصص الجُنيدي كانت بمثابة أحداث مختلفة تحدث في حياتنا اليومية على هيئة رصاصة قد تكون رصاصة ينتج عنها الوعي، فهي عبارة عن مشاهد درامية من مشاهد الحياة اليومية يوضحها لنا الجنيدي لنعيش مقاربة الواقع وجها لوجه. تطرق الجنيدي في مجموعته القصصية»أربعون رصاصة تكفي» إلى موضوعات مختلفة منها الحُب والتَّمرُّد، استخدم الكاتب فيها الإيحاء لتوصيل فكرته بطريقة تدفع المتلقي إلى التفكير والتحليل لمعرفة المغزى من القصة ويدفع إلى تعدد الفهم مما يؤدي إلى اختلاف فهم القصة حسب ظروف القُرَّاء والمجتمع المحيط، فما هي رؤية الجنيدي الفكرية عن الحب والتَّمرُّد؟ وهل عبّر عنها في قصته؟ سأتطرق إلى بعض القصص التي تُجسّد لنا الرؤية الفكرية عند الجنيدي. أولاً: الحُب معروف أن الحب فطرةُ الإنسان، فمهما يكبر الإنسان يبقى باحثًا عن حبيبٍ يكون له ملجأ وملاذه الآمن من كدرِ الزمان وغدر الأيام، في المجموعة القصصية «أربعون رصاصة تكفي» تحدَّث الجنيدي عن نظرته للحب ويسرد لنا ما ينتجه هذا الحب لنعيش مقاربة الواقع وجها لوجه، فمثلًا في هذه القصة التي عنوانها: حالة حب «أحبَّها كثيرًا، أحبَّتهُ أكثر. طلب منها رقم هاتفها النَّقال، ظلَّ يطلب الرقم ليلَ نهار؛ يسمع الصَّوت المنبعث من الهاتف. الرقم المطلوب مفصول حاليًا. يرجى الاتصال في ما بعد». هنا الكاتب جعل المتلقي أو القارئ مشدوهًا أمام هذا المشهد، تُبيِّن لنا القصة أنهُ أحبَّها كثيرًا وهي أحبَّته أكثر ولكن عندما طلب منها رقم هاتفها الشخصي ما استجابت لطلبه من أول مرة مما جعله يطلب الرقم ليل نهار لكي يسمع صوتها، بعدما أعطته الرقم وقام بالاتصال بها، تبيّن أن الرقم مفصول، فهذا يعني أنهُ حُب زائف لا صحة لهُ وهذا ما نراهُ في الحياة الواقعية فالكاتب أراد أن يُجسد لنا صورة الحب الزائف المنتشر في الواقع على هيئة رصاصة قد تكون سببا في وعي الشخص. رفيق الخدمة «ترك الجندي أرض المعركة وذهب ليودع حبيبته مخالفًا أوامر الجنرال الصارمة بعدم ترك الموقع؛ فالعدو أخذ يقترب من حدود المدينة. حينما عاد الجندي أمر الجنرال بإعدامه رميًا بالرصاص بتهمة الخيانة العظمى وبدون محاكمة. استدعى رفيقه لينفذ فيه حكم الإعدام رميًا بالرصاص حتى يكون عبرة لغيره. حضر رفيقه. صوّب البندقية. أطلق رصاصة. صاح الجندي بذهول: لقد سقط الجنرال! لقد سقط الجنرال!» تحدَّث الجنيدي في هذه القصة الدرامية عن أصعب المواقف ومنها القتال في ساحة المعركة، حيثُ غادر الجندي أرض المعركة في وقت لا يمكن أن يغادر فيه، وتخلّى عن القيام بواجباته من أجل محبوبته وذهب ليودعها مخالفًا أوامر القائد العسكري المسؤؤل عنهُ بعدم مغادرة الموقع ، مما أدى إلى اقتراب العدو لساحة المعركة، وبعد أن ودَّع الجندي محبوبته عاد إلى أرض المعركة وأمر القائد العسكري رفيق الجندي بقتله بالرصاص ولكن رفيقه خالف الأمر وأطلق الرصاصة على القائد العسكري، وصاح الجندي بدهشة: لقد سقط الجنرال، هنا الجندي ضحّى بنفسه وبعمله دون مقابل من أجل محبوبته، كأنه يقول الجندي لا يعيش الحب دون تضحية. عيد ميلاد «أيقظته زوجته من نومه، تململ في سريره، قالت له: اسمع ما قال لك البرج هذا اليوم. وماذا قال؟ يقول لك البرج هذا اليوم هو عيد ميلادها، فرصة مناسبة لكي تصالحها ولا تنسى الهدية التي وعدتها بها. نظر إلى ساعته، فزّ من السرير. خلع ملابسه واستبدلها بملابس أنيقة وغادر على عجل» ما زال الكاتب يبين لنا رؤيته الفكرية عن الحب، ولكن في هذه القصة تحدَّث الكاتب عن الخيانة الزوجية حيثُ أظهر الكاتب عندما أيقظت زوجها من نومه تململ في سريره أي أنه يتقلّب دلالة على ضيقه من زوجته وعدم حبه لها، وأظهر الكاتب اهتمام الزوجة بزوجها حين أخبرتهُ عن برجه لهذا اليوم فهي أخبرته بطريقة غير مباشرة عن عيد ميلادها وهو على النقيض تمامًا، من ثمَّ لبس ملابس أنيقة وغادر على عجل دون التحدّث مع زوجته، دلالة على أنه يبادل مشاعر الحب مع امرأة أخرى غير زوجته المهتمه به. ثانيًا: التَّمَرُّد ظاهرة التَّمرُّد تُعدّ من الظواهر البارزة في النص، ولا شك أن الكاتب يريد أن يوصل لنا فكرته عن هذه الظاهرة، وهي رفض أمر ما نتيجة الغضب فتجعله يتمرد ويرفض تلك الأوامر، تحدَّث الجنيدي في بعض قصصه عن هذه الظاهرة ومن تلك القصص: الكاتب «سألت المذيعة الكاتب: لماذا تقتل الأبطال في نهاية قصصك؟ لأنهم تمرّدوا عليّ، وأرادوا أن يقتلوني.» في هذه القصة تُبيّن لنا ظاهرة التمرّد لدى الكاتب، الكاتب هنا جزء من هذه القصة التي كتبها، حيثُ أنه تمرّد على أبطال القصة الذين فرضوا سيطرتهم وشخصيتهم في القصة أكثر من الكاتب وأرادوا أن يقتلوه بمعنى أنَّ دورهم في القصة غطّى على الكاتب، ولكن الكاتب اعتبر نفسه هو البطل الحقيقي للقصة، وتمرّد على الأبطال أي بمعنى أنه تكبَّر عليهم ، وتخلّص من الأبطال في نهاية كل قصة من قصصه. تَمرُّد «الجنرال المهووس بمنظر الدماء، يلعب مع الجند كلتا اللعبتين. لعبة الشطرنج ولعبة قطع الرؤوس. وحدهُ الرقيب من تمرّد على القانون. نحيب أمه ودموعها وصلواتها ليل نهار، جعلتْ الرقيب ينتصر على تلك اللعبتين.» هذا المشهد الدرامي يترك القارئ معلقًا في فكره، حيثُ استخدم الكاتب في هذه القصة كلمة التمرّد، أنهُ يصف الجنرال بالشخص الذي يحمل صفة الحقد والشر التي نعيشها في الواقع، وأشار الكاتب أن الرقيب تمرّد على تلك القوانين وخالفها دون أن يتردد، ولكن دموع و دعوات أمه و وصلواتها جعلت الرقيب ينتصر على القوانين التي يفرضها الجنرال، ويوضح لنا الكاتب أن الرقيب عرِفَ أهمية الأم وصلواتها التي جعلته يتمرّد. التشكيل الفني في المجموعة: أولاً: الحوار الحوار هو نوع من الحديث بين شخصين، يتم فيه تداول الكلام بينهما بطريقة ما، فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصب. قدَّم الجنيدي في مجموعته القصصية «أربعون رصاصة تكفي» نماذج على الحوار، منها: انتقام «نظر إليّ طويلاً. تفرّسني من رأسي حتى أسفل قدميّ: من أنت؟ أتذكر حينما قلت لي قبل ثلاثين عام: سأقتلك حين تكبر، وها أنا كبرت. لقد جئتك بقدميّ، لكي تقتلني. أمسك عكازه الخشبي، غادر المكان وهو يجرّ جسده، ثم التفت نحوي: اذهب يا ولدي، لقد قتلتك قبل ثلاثين عامًا، حينما أخبرتك بأنني سأقتلك، فانشغلت بي وتركت مستقبلك.» قامت هذه القصة على مبدأ الحوار بين الشاب والرجل الكبير بالسن، يُبيّن الكاتب في قصته حوار حاد بين الشخصيتين ينتج عنه الندم لدى الشاب الذي أضاع عمرهُ وترك مستقبله مقابل تحدي غير هادف بينه وبين الرجل، يصف الجُنيدي النّدم بالرصاصة القاتلة وهذه الرصاصة يتعرض لها كثير من الأشخاص في حياتهم، في هذا الحوار أراد الجُنيدي أن ينبهنا لكي لا نضيع وقتنا في الانشغال بالآخرين والتركيز فقط على أهدافنا. ظلّي «سألت ظلّي بعد أن أيقظني: ما الذي جرى لي؟ هم الجبناء كعادتهم يطلقون رصاصهم ويفرون. وكم نزفت؟ لقد نزفتُ أربعين نزفة وتوقفت. وها أنتَ ما تزال واقفا أقوى من السابق. ألم أقل لك بأنني لن أموت برصاصهم! فجأة هدأ الحوار وصمت ظلّي عن الكلام، أخذ نفسًا عميقًا ومات.» الشخصية هنا تقيم حوار مع ذاتها، تحدَّث الكاتب عن أثر الكلمة القاسية على النفس البشرية ووصَفَ كلام الأشخاص الجارح الذين يطلقون كلماتهم ويهربون بالرصاص القاتل، ولكن الشخصية في هذه القصة في كل مرة تكابر على نفسها مما أدى بها إلى الإنهيار. ثانيًا: المكان يؤدي المكان دورًا مهمًا في البناء القصصي كونه عنصرًا فاعلًا في القصة، فهو المكان الذي تجري فيه الأحداث، وتتحرك من خلاله الشخصيات، وهو بمثابة العمود الفقري الذي يربط أجزاء العمل.وذكرالجُنيدي في قصصه أماكن بُنيت عليها القصة وكانت مركز الحدث، منها خشبة المسرح والتابوت والمنزل وغيرها من الأماكن التي ذكرها الجُنيدي في مجموعته القصصية. لما لها دور كبير في إظهار مضمون القصة، من هذه النماذج على المكان: تابوت «جلس على شرفة البيت استلَّ سيجارة من علبة (الهيشي). أشعلها بهدوء. تأمّل ماضيه المهووس بالطرافة؛ فهو مغرم بصنع المقالب بأصدقائه. تأمّل السكون المحيط به. فكّر جاهدًا بالمقلب الذي رتّبه لأعز أصدقائه في عيد ميلاده. جاءته الفكرة بأن يصنع تابوتًا. هذا أجمل مقلب أصنعه في حياتي بأصدقائي. قال للحانوتي: أريد أن أصنع تابوتًا لأعز صديق لي فهو بنفس حجمي. أعجبه التابوت كثيرًا عندما أحضره له وبادره بالاقتراح: ما رأيك أن تجربه لكي تطمئن على راحة صديقك! استلقي داخله وأغلقه. ارتبك الحانوتي وأصابته صدمة الذهول لأنه نسي أنه صمم التابوت أن لا يُفتح إذا أُغلق.» في هذه القصة ذكر الجُنيدي أماكن محددة منها البيت والتابوت، أراد الكاتب أن يوضِّح لنا المثل الشعبي على هيئة قصة وهو (من حفر حفرة لأخيه وقع فيها)، عندما صمم التابوت لأعز أصدقائه وتورّطَ هو في هذا المقلب، ما زال الجُنيدي يطلق رصاصاته على أنها وعي وتنبيه نحاول من خلالها تجنب تلك المشاكل التي نتعرض لها في الحياة الواقعية. طفل الحاوية «وبينما يجمع علب البيبسي من الحاوية القريبة من أمام منزله؛ وجد طفلاً ملقى داخل الحاوية. قرَّر أن يربّيه. ظلّت جارتهم تعيّرُه بأنه لقيط، وابن الحاوية. كبر أمام عينيها. أصابها النَّدم الشديد، حينما أصبح مسؤولاً كبيرًا، وكم تمنَّت لحظتها لو أنها تلقِه في الحاوية قبل ثلاثين عام». المكان واضح في القصة وهو الحاوية والمنزل، ، في هذه القصة تُبيّن لنا مقولة معروفة في المجتمع وهي فاقد الشيء يعطيه. رغم فقر الشخصية التي كانت تجمع علب البيبسي من الحاوية تمتاز بالكرم والعطاء حينما وجد الطفل في الحاوية وتكفّل الرجل الفقير بتربيته والاهتمام به، مما جعل الجارة اللئيمة تعاير الطفل بأنه ابن الحاوية ولكن بعد مرور ثلاثين عام أصبح الطفل مسؤولاً كبيرًا جعل جارته تندم ندم شديد وتمنّت أن تكون هي التي ربّتهُ وتكفلت به بدلًا من جارها الفقير، يصف الجنيدي النّدم مثل الرصاصة. المشهد الأخير «نشب خلاف حاد بين الممثلين والمخرج على المشهد الأخير بسبب الأجر، اضطر المخرج لاستدعاء رجل الأمن لإنهاء الخلاف. انهال بالهراوة على رؤوس الممثلين حتى امتلأ المسرح بالدماء. صفق الجمهور لرجل الأمن بحرارة، لأنه الوحيد الذي أدّى دوره الحقيقي وبكل براعة على خشبة المسرح» . أظهر الجُنيدي في هذه القصة المسرح وهو مكان تُمثَّل عليه المسرحيات بهدف تمثيل نص ما على خشبة المسرح، لكن حدث خلاف حاد على المسرح لم يكن نوع من التمثيل. الجنيدي أبدع في هذا الفن الأدبي فهو من خلال رؤيته يعكس أحداث القصة من الواقع الذي يخص الفرد والمجتمع،كما أن قصص الجنيدي تمتاز بأحداث عميقة تترك القارئ معلقًا بفكره فهي تحتاج لتحليل يسهل فهمها للوصول إلى الفكرة التي أراد الجنيدي أن يوضحها لنا. حيث يصف الجنيدي الحب الذيينتج عنه الخذلان برصاصة قاتلة قد تكون هذه الرصاصة هدفها الوعي. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 10-07-2022 08:43 مساء
الزوار: 383 التعليقات: 0
|