|
عرار:
«سال سرّه على لسانه كأنّه دمٌ تعذّر منعَه» (نجيب محفوظ) كذا يشعر الّذي يقرأ المجموعة القصصيّة «أنزفني مرّة أخرى» للكاتب الأردني عمّار الجنيدي. فسرّه المدفون في الأعماق ينبئ بنزف مزمن بطيء مرادف للاستنزاف على المستوى الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ. فالكاتب يتأمّل محيطه بل عالمه بدقّة لا متناهية تستدعي نزفاً خارجيّاً داخليّاً. خارجيّاً، على صعيد التّدقيق في تفاصيل الحياة اليوميّة، والسّلوكيّات الإنسانيّة المقزّزة، كالإهمال، والشّجع، والادّعاء الإيمانيّ، والحبّ النّاقص المرتبط بالمصلحة أو الظّاهر، والظّلم اللّاحق بالإنسان بشكل عام. داخليّاً، تنعكس هذه التّأمّلات الدّقيقة وجعاً في نفس الكاتب، تترجمه القصص القصيرة المشابهة لنزفه. بمعنى آخر، يقطّر الكاتب همّه الإنسانيّ في قالب قصصيّ، أشبه بنزيف أفقده قدرته على احتمال الوجع. فالقصص إذ أتت معبّرة عن هذا الوجع القديم/ الجديد إلّا أنّها لم تكتفِ بالتّعبير بل ساهمت بالاستنزاف. ما دلّ عليه عنوان المجموعة «أنزفني مرّة أخرى». فالنّزف سابق، بل متجذّر في عمق الكاتب، متمكّن منه حتّى سال على الورق حبراً ممزوجاً بالدّمّ. لا يشكّل الاستنزاف حالة لا إراديّة، أو ردّة فعل على الواقع المؤلم وحسب، وإنّما هي حالة تماهٍ معه، وتفاعل إراديّ على الرّغم من أنّها لا تحتّم نتائج مبدّلة لهذا الواقع. فالكاتب ينزف وينتقد. وسيشهد القارئ في هذه المجموعة كاتباً وناقداً في آن: «سأظلُّ أسأَلُني: - ما جدوى أن أَنْزِفُني مَرَّةً أُخرى؟! فيُجاوبني ناقِدٌ مُنْتَبِهٌ انفِعالِ أسئِلَتي: - حتى يظَلَّ دَمُكَ طَرِيّاً بين يدَيَّ. يَتَشامَخُ قلقي، وأواصلُ النزيفَ». (ص 10) وإذا رمز الدّم إلى الحياة فليدلّ على سيلان الوجع وتدفّقه لعلّه يجرف شوائب المجتمع، وآلام الإنسان، وأمراض الوطن. وإذا رمز النّزف إلى الموت، فليؤكّد على مشاركة الكاتب الوجع القائم حتّى المنتهى. (يتشامخ قلقي وأواصل النّزيف). القلق النّاضج، المعاين للتّركيبة الإنسانيّة وسلوكيّاتها المؤدّية إلى نتائج تنعكس سلبّاً على المستوى الإنسانيّ الخاص والعام، ارتدّت إلى داخل الكاتب نفسه. القلق/ الوجع المتمكّن منه والمتجذّر في أعماقه عزله عن العالم وانفرد بنفسه، ليس هروباً، بل للتمكّن من معاينة التّفاصيل بشكل أشمل. (سأظلُّ أسأَلُني/ فيُجاوبني ناقِدٌ مُنْتَبِهٌ انفِعالِ أسئِلَتي). وانفعال الأسئلة ما هو إلّا هذه الحالة الوجدانيّة المقلقة والمسبّبة لاضطرابات جسديّة ونفسيّة، يهتزّ لها الكيان الإنسانيّ. إلّا أنّ الكاتب لا يعاني من اضطراب نفسي بل من اضطراب معرفيّ. فالقصص أشبه بتساؤلات يقينيّة، حتّى وإن أتت في سياق سرديّ ينقل واقعاً ما. وما سيتناوله القارئ في القصص القصيرة، حتّى وإن كان معروفاً، سيبكيه على حاله وحال محيطه الوجوديّ. « قيل للشاعر العربي: «خذ أطنان الورق هذه، واكتب عليها ما تشاء بكل حُرّيَّة» ارتبك. فوجئ. استغرب الأمر. حَريَّتْهُ المفاجأة. لم يصدق. أَخَذَ الأوراق، وعبَّأَها كلها بالدموع». (ص 14) هذه القصّة الواردة تحت عنوان (حرّيّة)، تحاكي الواقع من جهة، ومن جهة أخرى تطرح تساؤلات حول ماهيّة الحرّيّة في المجتمع العربي، وماهيّة ممارستها وكيفيّة تحقيقها. هل الحرّيّة أمر يحدّده مانحها؟ أم هي قيمة تكتسب بالجهاد والاجتهاد؟ وهل المجتمع العربيّ قادر على ممارسة حرّيّته كما ينبغي أم إنّه غير قادر على تبيّن أهميّتها؟ أم إنّها مجرّد حبر على ورق؟ لكنّ الكاتب يجعل من الشّاعر العربيّ محور القصّة، ولعلّه أراد بذلك سجن الحرّيّة في إطار من الحلم الّذي قد لا يتحقّق. (أخَذَ الأوراق، وعبَّأَها كلها بالدموع). يقابل هذه القصّة أخرى تحاكي حرّيّة الإنسان في بعدها القيميّ الوجوديّ، كما في بعدها الواقعيّ الخالي من الاحترام لكينونة الإنسان وكرامته. «اليومَ حرّروا لِسانه من القيود، وَفَكّوا الأغلال من معصميه، فمضى على قدمين من ارتجاف نحو رفاق زنزانته. ودَّعَهُم ومِشى إلى قريته، وحين اقترب من بيت أهله، استقبله الأهل والأحبة والجيران بزغاريد الانتصار، ومواويل الانتظار الطّويل، وكأنّه لم يُشاهَد له مثيلٌ منذ سنوات أربع. وبعد حفنة من الزغاريد؛ كانت قوّات الأمن تحاصر المكان. اعتقلوه بتهمة التّحري وتنظيم مظاهرة، وساقوه إلى السّجن مكبلاً بالإحباط والحديد.» (ص 22) الإنسان ماضٍ في سجنه، ومن سجن إلى سجن، ومن اعتقال إلى اعتقال تنزف حرّيّته ببطء حتّى الرّمق الأخير. يمشي بخطىً متثاقلة، تحيطه الكوابيس بدل الأحلام المرجو تحقيقها، ولا يقوى إلّا على ذرف الدّموع. «صحا من الكابوس الفظيع وما زالت الصّرخات تحتقن في حنجرته. ومن خلال الظّلام الحالك، استطاع أن يرى أباهُ وهو يقف بمحاذاة الباب. كذلك استطاع أن يَتَبَيّن حركة شاربيه وهو يقول بغضب: - ألن تنام وتريحنا؛ لقد أقرفتنا بهذه الكوابيس اللّعينة؟! دسّ رأسهَ تحتَ الِّلحاف، وراح ينشج في نحيبٍ متقَطِّعٍ» (ص 26). الكابوس الحقيقيّ ليس ذلك الّذي يداهم الإنسان أثناء نومه، وإنّما هو ذلك الألم المتأتّي ممّن يُفترض أن يكون الأقرب إلى قلبه وعاطفته. وإذ يجعل الكاتب من الأب كابوساً في عينيّ الابن في قصّة حملت عنوان (كابوس). فلينقل واقع العلاقات الأبويّة البنويّة المضّطربة غالباً في مجتمعاتنا. وبهذا ينفذ الكاتب إلى مكان أعمق في النّفس، حيث يتعشّش الخوف والوجع معاً (وراح ينشج في نحيبٍ متقَطِّعٍ). هذا المشهد المتواصل النّزف، يعبّر عن حالة تتعارض واحترام العاطفة الإنسانيّة. فالكوابيس بطبيعة الحال تظهر نتيجة اضطرابات فسيولوجيّة ونفسيّة، فتسبّب الأرق، واضطراب في النّوم. إلّا أننا نرى في هذا المشهد ردّة فعل عكسيّة. فالشخصية التي تعاني من الكوابيس أثناء النّوم، تعود إليها هرباً من الكابوس الحقيقيّ. لقد تغلغل الكاتب في ذاته وفي الإنسان عميقاً ليستخرج منها هذا الهمّ المؤرق، أي الكابوس الشّخص. لكنّه ما يلبث أن يعود إلى الواقع، ليروي بسخرية لا مسؤوليّة الإنسان تجاه عمله، ممّا يؤدّي إلى خلل في المجتمع ككلّ. والعودة إلى الواقع لا تتعارض مع العمق الإنسانيّ. فبنظر الكاتب الكل يشكّل سلسلة مترابطة الحلقات. إذا ما تفلّتت واحدة لحقت بها الأخريات: «لَسعْتهُ عَقْرَبٌ في يده، فأسرع من فوره إلى مستشفى (الإيمان). دخل إلى قسم الطّوارئ فوجد الطّبيب مشغولاً بمغازلة إحدى الممرّضات. نبّهتهُ لوجود مريض، فتركها وتوجّه إليه. بادَرَهُ بالقول: - افتح فمك فتحَ فاهُ. - مُدَّ لسانك مَدّ لسانه، وقد بدأ السمُّ يأخذ مفعوله. - ليس بك أيُّ خلاف، ومع ذلك فإنّني أنصحك بالامتناع عن التّدخين تركه الطّبيب، وأسرع لإكمال مَهَمَّتِهِ». (ص 32) يقابل الإيمان منتهى اللّامسؤوليّة، وبذلك يعكس الكاتب الواقع الإيمانيّ المزيّف، الّذي ينتقده بشكل لاذع في هذه القصّة. ويعالج نقديّاً الظّاهر الإيمانيّ المتفشّي في المجتمعات الّذي لا يعبّر إلّا عن ادّعاءات مزيّفة، دون أن يحقّق هدفه المرتبط بالإنسان وقيمته. ولئن فقد الإنسان قيمته وصار مجرّد حدث عابر، استحالت قيمته الوجوديّة نكرة. ما يضيف وجعاً إلى وجع ويواصل نزيف الإنسانيّة ككلّ. ولئن كان الكاتب مقتنعاً تمام الاقتناع بصعوبة التّغيير، يروي قصّة رجل أصرّ على الاحتفال بعيد ميلاده السّبعين، ودعا الأصدقاء المقرّبين طالباً منهم تدوين انطباعاتهم وآرائهم فيه في كتاب. ولمّا أتت النتيجة سلبيّة صاعقة كما دلّت عليه آراء الأصدقاء، لم يسعَ الرّجل إلى فهم الأسباب بل جُلّ ما قام به تجاهل الانطباعات وعدم الاكتراث لتشوّه العلاقة القائمة ضمنيّاً بينه وبينهم: «أذهلته المفاجأة لدرجة الإرباك. جال ببصيرته عبر الأعوام السّبعين الّتي انقضت من حياته. داهمته صورة الأصدقاء فامتعض قليلاً، ثم لوّح بالكتاب عالياً. انتبه إلى بندقية الصّيد المركونة على الجدار الغربيّ. تناول البندقيّة، عبّأها بالرّصاص، وأطلق النّار على الكتاب». (ص 90) قصص مشحونة بالوجع الإنساني العميق ترتدي ثوب السّرد المفتوح على شاعريّة اللّغة والتّكثيف الجمالي، لمساءلة الواقع وهزّ مرتكزاته الهشّة بكلّ ما أوتي من بلاغة التّركيب. هذه البلاغة الحاضرة بسوداويّة المشاهد القصصيّة، تترك القارئ مفتوحاً على مجموعة من الأسئلة تثيرها هذه المجموعة: وماذا بعد كل هذه الهشاشة؟ وأين المفرّ؟ بل متى يكون الخروج من عنق الزجاجة؟ جريدةى الدستور الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 14-05-2017 09:19 مساء
الزوار: 704 التعليقات: 0
|