|
عرار:
انتهيت من قراءة كتاب «شجرة الليف: تسريد الذاكرة» للفنان التشكيلي والشاعر محمد العامري (عمان: دار فضاءات،2013) الذي يعرض فيه العامري مشاهد من الذكريات التي عايشها أيام طفولته وصباه في قرية «القليعات». في هذه الأثناء، وتحت تأثير أجواء الذكريات العامرية قرأت المقال الذي كتبه الأديب الساخر كامل النصيرات، ونشر في زاويته اليومية من جريدة الدستور(الخميس 1152017) بعنوان «القَرْصة». ما يلفت الانتباه فيما كتبه العامري والنصيرات أن كليهما يغرق في تذكر أمه، وما كابدته في تربيته وتنشئته من مشاق حتى يبلغ أشده، ويصبح رجلًا. ويبدو هذا التذكر في صورة تجمع بين التلذذ بالذكرى وبين تمني استعادتها على ما فيها من قسوة وألم. إنه نوع من التمني مثل ذاك الذي أورده الشاعر إبراهيم ناجي في قصيدته «الوداع» عندما قال: آه مَن يأخذ عمري كلَّهُ ويُعيدُ الطفلَ والجهلَ القديما؟ في كتاب العامري مشهد من المشاهد عنوانه « شجرة الليف» الذي حمله الكتاب عنوانًا له، فيه تظهر الأم وهي تقبض ليفة الحمام التي استخرجتها من شجرة الليف التي أمام البيت بجانب دالية العنب، متهيئة لتبدأ الاستحمام القسري والتطهير الغرائبي لصاحبنا الذي أجبر على خلع ملابسه قطعة قطعة، والجلوس في لقن الغسيل. وتبدأ المعاناة والألم بشحط الليفة على الجسد الطري، ودخول رغوة الصابون النابلسي الحار ماركة (أبو مفتاحين) في العينين، ويعلو الصراخ الممزوج بالضحك أحيانًا مع حركة يدي الأم على خاصرتي الجسد، لينتهي المشهد على جسد قشر بالليف الذي يشبه المنشار الطري، كما تُقشّر ثمرة شجرة الليف نفسها. هذا المشهد لا ينساه العامري، ويظل راسخًا في ذاكرته. فهو يمثل حرص الأم على نظافة ابنها ليذهب في اليوم التالي إلى المدرسة نظيفًا، ويحصل على جائزة النظافة من مربي صفه في مدرسة قرية «القليعات». كذلك في مقال كامل النصيرات «القرصة» تبدو صورة الأم رابضة في الذاكرة تلوح من وقت لآخر، وهي تدعوه لأنه عمل ما لم يرق لها إلى الامتثال بين يديها. إنه لا يستطيع الإفلات منها أو الهرب؛ فتمسك بلحم خاصرته بالسبابة والإبهام، وتلف لحمه بطريقة موجعة، تجعله يجأر بالبكاء. إنه لا يفتأ يتذكر تلك القرصات، ويتمنى أن تبقى أمه تقرصه دائمًا؛ فقرصاتها جميلة، تعيد له الطفل والجهل القديم، كما تمنى إبراهيم ناجي في البيت السابق. لقد جاء ذكر الأم في كتاب العامري ضمن الذكريات المسترجعة من قصة حياته، وهي ذكريات غير قابلة للمحو، ذكريات الأم التي أحبها، والتي هي جزء مهم من حياته. إنه يحن إلى تلك اللحظات الجميلة التي كان بين يديها متربعًا عاريًا في لقن الغسيل. أما قرصة الأم في مقالة كامل النصيرات فيستعيدها النصيرات هربًا من الحاضر الذي يتعرض فيه إلى خيانات بعض المحيطين به، ودسائسهم، ومؤمراتهم. إنه يجد في تذكر قرصات أمه على ما فيها من ألم ودموع ما يخفف عنه وطأة الحاضر الذي يبدو فيه وسط مضايقات بعض الناس من حوله، كأنه في غابة بشرية. فشتان بين قرصات الأم وقرصات الآخرين. هكذا رأينا في كتاب «شجرة الليف» للعامري، ومقالة كامل النصيرات «القرصة» الأم موئلًا لذكريات كل منهما، وجزءًا مهمًا من سيرتهما الذاتية، ويجدان اللذة في تذكر ما قامت به نحوهما. ذكرى الأم عند الكاتبين تمثل الحنين إلى المكان الأمومي، وتشير إلى مرحلة الطفولة التي تعني البراءة والهدوء والأمن والسعادة. ولقد عبر الاثنان عن هذه المعاني: العامري بأسلوبه الشاعري، والنصيرات بأسلوبه الساخر. إنها المعاني التي كان محورها الحنين إلى الماضي هربًا من الحاضر، ذلك الماضي الذي ظهرت فيه الأم مثل الشمس في يوم ضبابي معتم. روائي وناقد في الاردن جريدة الدستور الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 19-05-2017 10:33 مساء
الزوار: 1525 التعليقات: 0
|