|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
قراءة في ديوان " ليلة الكرز" للشاعرة المغربية رشيدة فقري
أولا: استهلال. يقول "رولان بارت" متحدثا عن وظيفة النقد والناقد بأن الناقد يضاعف المعاني، ويجعل لغة ثانية تطفو فوق اللغة الأولى، أي أنه ينتج تلاحما للعلامات، ويبين أن النقد يستخدم وسيطا مخوفا هو الكتابة، عاشقة الصحراء : وأنه في جوهره قراءة عميقة تكشف في الأثر الأدبي عن مدرك محدد (1).
ونحن في مقاربتنا لديوان "ليلة الكرز" سنتبنى نوعا من النقد الذي نفضله، وهو النقد الحواري باعتباره على حد قول باختين: "صوت الكاتب وصوت الناقد، وليس لأي منهما امتياز على الآخر"(2).
ثانيا: في مقاربة الديوان.
تعتبر مقولة "الشعر وجدان" من المقولات القديمة المتجددة في مجال الدراسات الأدبية عامة، والنقد الأدبي خاصة، والذي مهما تعددت مدارسه، وتنوعت مذاهبه، وتفرعت مناهجه فإنه ينطلق دائما ويعود إلى مبدإ أساسي في مجال الإبداع الأدبي وهو المبدأ الوأيقاعية ذي يرى في الشعر الجنس الأدبي الأكثر التصاقا بالذات وهمومها ومشاغلها ورؤاها وتطلعاتها سواء في علاقة هذه الذات بنفسها، أو بمحيطها الاجتماعي والطبيعي أو بكينونتها ووجودها لما يتميز به هذا الجنس الأدبي من خصائص لغوية وتعبيرية وإيقاعية يتجاور فيها التعقيد بالبساطة، الوضوح بالغموض، والكائن بالممكن..
ويتخذ مصطلح "الوجدان" دلالات متعددة باعتبار الوجدان حالة نفسية ووجودية تلعب فيها الذات الدور المركزي والبؤرة التي تنصهر فيها كل مظاهر العالم الخارجي، وبالتالي يأتي الإبداع الشعري تأملا في الذات في بعديها الشعوري واللاشعور، وهي التعبير عن شعور وعواطف وأحاسيس الذاتن وهو التأمل الحر في كل ما يحوط الذات الشاعرة، ومنهم من وسع مفهوم "الوجدان" ليشمل الحياة والكون، وما العودة إلى الذات إلا تفتح على العالم بكلياته وجزئياته (3).
ولعل القارئ لديوان "ليلة الكرز" للشاعرة المغربية رشيدة فقري سيخلص ـ بعد انتهائه من قراءة الديوان بأن جل القصائد جاءت معبرة عن ذات الشاعرة، مجلية بعض خبايا هذه الذات التي تعلن عن نفسها بشفافية مفرطة أحيانا في كثير من النصوص، كاشفة عن المنابع التي تستمد منها طاقتها "الوجدانية" الطافحة والخلاقة، مستلهمة لغة عاطفية رومانسية راقية، عبر صور شعرية دالة وموحية ونابضة بالحيوية والحركية دلاليا وإيقاعيا، ولغة سلسة متناغمة ومعبرة.
وفي مقاربتي للديوان سأحاول أن أتوقف عند عنصريين رئيسيين أراهما كفيلان بأن يقربان المتلقي من جوانب من التجربة الشعرية الوجدانية عند الشاعرة رشيدة فقري، وهما:
أولا: صورة الذات وتجلياتها العاطفية الوجدانية. ثانيا: الوسائط الفنية التي توسلت بها الشاعرة للتعبير عن هذه الذات.
أولا: تجليات الذات:
يكاد يستحيل الإحاطة بكل تجليات الذات الشاعرة في الديوان، لأن هذه الذات تسكن كل كلمة أو حرف أو عبارة أو صورة أو إيقاع..لذا سأعمل على استجلاء بعضا من جوانب هذه الذات في بعدها الوجداني العاطفي الذي يبدو أكثر حضورا في الديوان.
1. بدء من القصيدة الأولى تطب علينا شاعرة ترتدي لبوس المتصوفة المتبتلة اللائذة بمحراب العشق المثالي وقد جعلت منه منارة وصِوا يهتدي به التائهون والباحثون عن معنى للعشق الحقيقي غير المزيف أو المخادع، وانتقت من أجل تحقيق ذلك لغة تمتح من المعجم الصوفي: الابتهالات، التراتيل، التعبد، التلاوة..تقول في قصيدة "إهداء":
قلبي سنونوة الهوى وفمي على ناي الحنين هذه ابتهالاتي أرتلها لتهدي العاشقين رشأ القصيد تعبدت فلتتلها سيرتها السنين. (الديوان. ص. )
2. الشاعرة العاشقة التي لا تتحرج بالبوح بمكنونات القلب، بل إنها لا تتردد في البحث عن العشق واضعة قلبها رهن إشارته، مقرنة هذا العشق بالقصيد، بل تجعلهما توأمان وصنوان، فلا وجود للواحد بدون الآخر، لأن كلاهما يمد الشاعر بما تصبو إليه..إنهما من يحققان للشاعرة نسبة كبيرة من كينونتها الإنسانية، والوجود الحقيقي، وغيابهما أشبه ما يكون بنفي للذات. تقول في قصيدة: "صبة":
سأعلن أني صبهْ وأحمل في يدي قلبه وأبعث مهجتي الولهى لتتبع في الهوى دربه ونلوي حبل دنيانا ونشرب للقا نخبه ونسكر بالشذى والشعر. (الديوان. ص. )
3. إن حضور الشعر والعشق في وجدان الشاعرة يكاد يهيمن على أغلبية نصوص الديوان، وكأن بين الثلاثة آصرة خفية ومعلنة قوية لا يمكن فك عراها، فالشاعرة إذ تعترف بعشقها للعشق وولهها به رغم أنه في كثير من الأحيان لم يقدم لها غير الألم والوجع. وإذ تسعى إلى أن يضل في طي الكتمان إلا أنه يتسلل خلسة إلى جسد القصيدة ليعلن عن حضوره الدائم. تقول في قصيدة: " الوجع":
يا عضة الوجع، استبد الشوق بي ألم كئيب يمتطي شرياني ليت الذي أخفيت عمري كله بين الجوانح ضل في الكتمان كانت الفواكه للندى حيث الهوى يأتي بضامن رفة الوجدان. (الديوان. ص. ) من نافلة القول أن العضة توجع وتؤلم، إلا أن الشاعرة تتحمل المعاناة وتلوذ بالشعر الذي هو في آخر الأمر من يحضن مشاعرها وعواطفها، إنه الحامي والمواسي. إنه من يسكن العواطف الجياشة المتراكمة الصادقة. وأعتقد لو أن الشاعرة أخفت مشاعرها هذه لما استمتعنا بهذه الصور الشعرية المركبة ذات البعد الإنساني المثقل بالحنين والوجدان. تقول في نفس القصيدة:
بيني وبين أحبتي طال النوى يقتات من وهجي ومن ألواني كعصفورة ناحت على أفنانها تشكو فأبكت مهجة الأفنان والبدر باكية على أكتافه سحب اللجين كأنها أجفاني النبع وشوشها فسال بقلبها همس الندى فجمعته ببناني. (الديوان. ص )
4. تلقانا في الديوان أيضا شاعرة مسكونة بالشوق، مترقبة للحظة العشق، واقفة على العتبة تنتظر ه ليطرق قلبها، وهي المتأهبة والمتلهفة للقاء، لقد بدلت ما في وسعها لتغري العشق، لكن للأسف لم تلق منه غير الصدود، ولم تجن غبر الخيبة والانكسار، ولاذت بالصبر سبيلا للسلوان، وكل ما تبقى لها هو وهْم اللقاء، فليتحقق إذا ولو في الخيال. تقول في قصيدة: "قبلة الأوهام":
يا قبلة الأوهام إني معذبي إني سكبت له نبيذا في فمي ودحوت عاج الطين متكأ له وجعلت طيب الزهر يرقص في دمي إلى أن تقول: هذا عذابي يحتفي بجوانحي كبرا، وبسماتي تشي بتجهمي مهما كذبت وقلت سالمة أبدا من رجفة الأيدي دليل تحطمي. (الديوان. ص )
5. الشاعرة المتيمة الولهى التي لم تقدر على كتمان عشقها والذي لا تشي به أشعارها فحسب، بل إن أمره داع واشتهر بين الناس، وما عاد بالإمكان التستر عليه أو مداراته وإخفاؤه. ومادام الأمر كذلك، فلم تعد تعبأ بالقيل والقال. تقول في قصيدة: "رفقا بقافيتي":
رفقا بقافيتي وشعري رفقا ملكي يا أميري، طال موال النوى وقد انطوى في قبضة اليام صبري. إلى أن تقول: ويحي إذا، قد شاع بين الناس أمري في صدرك الحاني تساوت كل أحلام الفصول. (الديوان. ص. )
6. هي لحظات ناذرة في الديوان تستقبلنا فيها الشاعرة وقد امتلأت سعادة وبهجة خصوصا عندما يعترف العشق بها، يعانقها ويبوح لها بأسراره. إنها في غاية الفرح عندما يراها العشق في هذه الصور البهية. فهي: (مدفأة الكلمات ـ عطر الصباح ـ بوح الندى ـ ابتسامة أغنية ). تقول في قصيدة: "قال لي":
أنت مدفأة الكلمات بغياب الشتاء أنت عطر الصباح وبوح الندى وابتسامة أغنية رسمتها عيون السماء لم يكن واعيا أنه أطلق الشمس في ليلتي تستبيح القتام تحتفي بالسناء. (الديوان. ص. )
7. الشاعرة المتفائلة المسكونة بعشق الحياة والتي لا ترى فيها إلا وجهها المتألق والمشرق، وهي، إذ ترى الوجود مجرد لحظة عابرة وزائلة وبلا معنى، فإنها تنتهي إلى حقيقة واضحة، فالحياة لا تستحق كل هذا الألم الذي نعانيه، وبالتالي فهي تدعونا كخلاصة لتجربتها بشكل مباشر وغير مباشر إلى تجريب الحياة في بعدها الجميل، وفي العشق يكمن سرها وسحرها وما علينا إلا أن نقتفي أثره، فهو من يجعلنا نعلي من جراحاتنا وهمومنا. تقول في قصيدة: "ريم الضحى":
واترك شفاه الضحى تمطر صحاريه وتوقظ الشمس: يا ريم الضحى انطلقي واسهر مع البدر، وارسم ملء ليلته كل العذاب الذي خبأت بالحذق العمر ساعاته تجري بلا نفس تعدو كمن يبتغي فوزا من السبق إن البلايا وإن طال إلى عدم فاغنم من الدهر يوما ساطع العبق. (الديوان. ص. )
8. الشاعرة الباحثة عن حقيقة ذاتها في كل ما هو جميل وبريء، إنها تحلم بالعودة إلى حياة الطفولة زمن البراءة والدفء، وليس هناك أفضل من العشق حيث يمدها بعطف وحنان الأبوة. كما تحلم أن تكون جزء من الطبيعة وذلك في صورة الظبية التي فتنت الشعراء، وألهمتم أروع الأشعار، واقترنت لديهم بالجمال والكمال، لكن عندما تنظر حواليها لا تبصر غير العزلة والوحدة والضياع. وانتظار العشق الذي لم يتحقق رغم كل الجهود المبذولة لتأتيت فضاء يليق بحضرته. تقول في قصيدة: "الظبية وإغفاءة المنبع":
ولأكون طفلة ليتني في حجره ويطول إغراقي له وتكسري وأكون ظبية بلحظة صمتنا ويكون لي روضا شفيف المئزر إلى أن تقول: متى يعود لكي يزين عالمي وردا ونسكر في ظلال السكر. (الديوان. ص. )
9. تتأكد صورة الشاعرة الظبية، وتضاف إليها صورة الشاعرة المهرة في قصيدة: "ليلة الكرز" جوهرة عقد الديوان، حيث تصور لنا الشاعرة لحظة لقائها مع العشق وكأنها لحظة حلم، إنها لحظة تداخلت فيها الأحداث والأزمنة والأمكنة والعواطف، وحيث الخط الفاصل بين الوهم والحقيقة يبدو شفافا وناعما، إنها قمة السعادة والمتعة. تقول:
هل ما رأيت بليلتي حلم أم أن فرحتي وهم. إلى أن تقول: غابات صدرك في تدللها ظبيان لي فيها، وفيها سهم مهرين كنا في الهيام، فلا صحو يصيح: قفا: ولا نوم ...... قل للذي لم يكن وله دنياك زاهية ولا طعم أما فواكهنا فألسننا خلقت لها، ولأجلها الشم. (الديوان. ص )
10. الشاعرة التي تجد في الشعر المعوض عن عشق غير متحقق على أرض الواقع، فيتحول إلى حمال مشاعرها، ومسكن للواعجها ومعوض لخيباتها، إنه البديل الفني والموضوعي لموضوع عاطفي مفتقد. تقول في قصيدة: "أغنية في ليلك الفجر":
يجري الهوى في واحة الشعر ويتيه في أرجوحة البدر إلى أن تقول: فهلا سألت الشعر عن أمري إن كنت في درب الهوى دنفا أم قد جفوت، ولم أعد أدري. (الديوان. ص. )
11. شاعرة صادقة الوعد والعهد، شيمتها الوفاء وكيف لا وهي "الأرض المتعطشة" للماء والمطر، لكن لسوء الحظ أن العشق المرتقب أخلف الميعاد، فلم تجد الشاعرة غير قلبها لتعاتبه، وتسمه بالغباء لأنها وضع الثقة في غير موضعها، ومع ذلك فلن تتردد في تلبية نداء العشق متى دعاها. تقول في قصيدة "وشم العهد":
هل تذكر العهد الذي قطعت لك يوم انتشى مني ليسقيك الملك ............ أرضي التي أحببتها تقول لك أشتاق للغيث فهات منهلك ........... قد خانني قلبي الغبي، ارتاح لك يا ليته بحضنه ما استقبلك. (الدبوان. ص )
12. الشاعرة التي تعيش الوساوس ووهم العشق، إنها ترى ما ليس حقيقيا، إنها المخيلة التي تعبث بالصور، وتجعل من المتخيل واقعا مرئيا. ففي حوار داخلي تنبه الشاعرة ذاتها إلى أن تستفيق من الغفلة والوهم لتبصر الحقيقة كما هي وليس كما تتصورها أو تتصور لها. تقول في قصيدة "ضياع":
ثعلب الوسواس يجري في عروقي قاتلين سال هواه فاستفيقي اهجري كوخ المنى والأغنيات أطفئي شمس الهوى قبل الممات كنت نصفي البرتقالي الجميل كيف ضاع النصف وسط السبيل. (الديوان. ص )
وهي نفس الصورة التي تتجلى فيها الشاعرة في قصيدة "يا قاتلي" حيث تجد نفسها في دوامة من الشك ولا شيء يبدو غير اللايقين. تقول:
يا قاتلي، خرست أناشيد الهوى لما أبى الجوى، أن ترفقا في بؤرة الشك اللعين حشرتني وقسوت، أه، وبي هوى أن تشفقا. (الديوان. ص. )
13. الشاعرة المسكونة بقضايا الأمة، المتضامنة مع طموحات أبنائها، وهي تأمل أن ترى هذه الأمة وقد نهضت من كبوتها، وأزالت عنها دثار التخلف والجهل والاستبداد، وتحلم أن ترى الشباب وهو يأخذ المشعل منبهة الحكام العرب بأن زمنهم ولى وأن المستقبل للشعوب التي تشبعت بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية. تقول في قصيدة "يا شمسنا العربية" بنبرة احتجاجية صارخة مثقلة بالهم:
يا شمسنا العربية، اتقدي ما الصبح إن لم تولدي بيدي ....... فاض الشباب، وفي العيون غد نشوان صاح بيومنا استندي.. (الديوان. ص. )
إلى أن تقول مبرزة بشكل واضح موقفها من الحكام العرب:
يا نار أسئلتي ويا قلقي من نور إيماني ومعتقدي لا تخدشوا وجه الصباح ولا تلقوا غليه بغيمنا اللبد الشمس هذي برتقالتنا ما الشمس إذا لم تنبثق بيدي. (الديوان. ص )
14. وفي قصيدتي "نار فينوس" و "شهرزاد" ترتسم صورة مغايرة تماما للشاعرة كما عرفناها في النصوص السابقة، إنه الوجه الثاني الغامض ولم لا الحقيقي للشاعرة. إنها تبدو محصنة من العشق، متمنعة، وليس من اليسر أن يصل إلى قلبها الذي لا يقدم في طابق من ذهب، فهي تعلنها بصراحة ووضوح، وتحذر كل من سولت له نفسه سرقة شعاع العشق البهي منها. فالحب المبتذل هو آخر همها. تقول في قصيدة "نار فينوس":
بعيني أودعت فينوس نارا وفيها عتقت أزكى رضاب فحاذر أن تروم العشق مني فتصبح كالمعلق في الضباب فلا أرضي تطول ولا سمائي وتطمسك المتاهة في شعابي. (الديوان. ص )
إلى أن تقول:
فلا تجنح إلى عبث التصابي حذار، فليس حبا أن يدلي غمام ثدييه لفم اليباب. (الديوان. ص. )
وفي خضم هذا التمنع يحضر الاعتزاز بالنفس. إنها الشاعرة الموهوبة والتي متى نطقت شعرا يتردد صداها في البراري والحقول، فتسمعه في حناجر الطيور، وتبصره في سنا الثريا في عليائها، وهي الجمال المتفرد والطيب الفواح، والبسمة الأخاذة، والمؤمنة الصادقة الإيمان. تقول في قصيدة "شهرزاد":
أنا الثريا وقد جاوزت عليائي ومن السماء العلا أطلقت لآلائي أنا الحروف، وناي الحب لحنها أنا الجمال، ولا أنثى تشابهني وليس غيري بساح الشعر يا رائي. (الديوان. ص. )
إلى أن تقول:
إذا تبسمت لف النور أنحائي بأعيني خبأت شمس الهوى شعلي وطرزت ببهاء الله إيماني. (الديوان. ص. )
آمل من خلال هذه الورقة أن أكون قد قربت المتلقي من جوانب من ذات شاعرة مسكونة بالعشق وبالقصيد اللذان اتخذت منهما نقطة ارتكاز وجودي وحياتي ووجداني في ديوانها "ليلة الكرز". ولن تكتمل هذه الورقة وصورة الشاعرة دون الإشارة إلى بعض الجوانب الفنية والتقنية التي وظفتهما الشاعرة لتمنح لتجربتها الشعرية قيمتها الجمالية والدلالية، وفرادتها الإبداعية.
ثانيا: جوانب فنية.
في هذا الجانب سنحاول أن نقرب المتلقي إلى الكيفية التي تعاملت بها الشاعرة فنيا للتعبير عن رؤاها ومواقفها ووجدانها.
1. الأشياء. (أشياء العالم الخارجي).
عندما نتأمل الأشياء التي توسلت الشاعرة بها للتعبير عن تجربتها الإبداعية، فإننا سنلاحظ أنها توظفها في شبكة من العلاقات الدلالية تدفع بالمعاني للتوالد بشكل لا نهائيـ بل إنها توحي بدلالات قد تكون مباشرة او غير مباشرة. ف (المدفأة، والشمس، والغمامة، والحقول، والعصافير، والطين، والفراشات، والقميص، والكرز، والسهام، والغاب...خ) ليست مجرد دوال تحيل على مدلولات في الواقع بل إن الشاعرة تجرد العلامة اللغوية من مدلولها المباشر الاصطلاحي إلى مجال أكثر ذاتية وإنسانية، بل تمنحها دينامية وحركية تجعلها تمتد في الزمان والمكان.
إنها تدفع بالعلامة اللغوية إلى آفاق أرحب لتتحد مع الذات فتعبر العلامة عن حالة وجدانية روحية وصوفية. إن المفردة تتحول إلى كائن حي يتواصل ويتفاعل ويعبر، وهو ما نلمسه عند شعراء الاتجاه الصوفي أو الوجداني الرومانسي.
فالمدفأة مثلا في قصيدة "قال لي"، ليست مجرد كلمة، شيء مادي وظيفته أن يمنحنا الدفء في الأيام الباردة، بل إن الشاعرة تنقل المدفأة من بعدها المادي البسيط المحدود إلى كائن إنساني يلتحم مع الشاعرة في كيان واحد ويأخذ بعضا من صفاتها:
قال لي: أنت مدفأة الكلمات بغياب الشتاء. (الديوان. ص. )
2. دلالة الرمز: كما حولت الشاعرة المفردات اللغوية إلى رموز تعكس البعد النفسي للشاعرة، فحضرت مفردات ذات الطابع الرمزي مثل: (الليل، والضباب، والأحلام، والنار، والسكر، والصبح، والظلماء، والاحتراق..إلخ). فهي لا توظف للتشبيه الذي تقوم فيه العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي على المماثلة، والاستعارة التي تقوم على المشابهة، والكناية التي تقوم على المجاورة، وإنما على أساس التبرير الأيقوني. والأمثلة كثيرة في الديوان.
ووظفت الشاعرة رموزا تاريخية ـ ولو أن حضورها كان محدوداـ للتعبير عن رؤيتها وموقفها من الواقع العربي، وآفاق هذا الواقع من خلال ذكر اسمين شهيرين وهما: المأمون والمعتمد. تقول:
وعلى مناكبنا مهللة أسياف مأمون ومعتمد جئنا نوحد صوتنا لنقول "هذا الصباح " لكل منتقد. (الديوان. ص. )
وظفت الأسطورة والخرافة أيضا للتعبير عن مواقف الشاعرة الوجدانية والعاطفية من خلال رمزين معروفين وهما فينوس وشهرزاد. تقول:
بعيني أودعن فينوس نارا وفيها عتقت أزكى رضابْ فحاذر أن تروم العشق مني فتصبح كالمعلق في السراب. (الديوان. ص. )
لقد تعاملت الشاعرة مع الرمز بأنواعه المختلفة الأسطورية واللغوية والتاريخية ليس فقط لما لها من دور في تكثيف الصورة الشعرية واختزال الدلالات، بل لأنها تساهم في توصيل الدلالات الثقافية والاجتماعية وتعبر عن تفاعل الشاعرة مع ذاتها وواقعها وقضايا مرحلتها التاريخية، وما تعانيه من قلق وتوتر اتجاه هذا الواقع في كل أبعاده. فالرمز كما هو معلوم يملك قدرة على تفجير المعنى المصاحب أو الإيحائي بطريقة غير محددة وهو ما يمنح التجربة الشعرية غنى وقدرة على التدليل المتعدد والمفتوح.
3. الجانب الإيقاعي:
3/1. الأوزان: تعتبر الموسيقى مكون أساسي من مكونات الشعر، سواء أكانت هذه الموسيقى داخلية أو خارجية، مصاغة في قوالب شعرية تقليدية أو مصاغة في أشكال بلاغية معروف دورها في إغناء إيقاعات القصيدة. وقد اختارت الشاعرة قوالب إيقاعية محددة لصياغتها تجربتها الشعرية تراوحت بين الخفيف والمتدارك والبسيط والكامل، وإذ يبدو أن الشاعرة مغرمة بالبحر الكامل: كمل الجمال من البحور الكامل ***** متفاعلن متفاعلن متفاعلن فهذا يعود إلى كزن هذا البحر عند أغلب العروضيين من البحور الدالة على الشجن والعشق والرومانسية والفروسية، وهذا ما يتماشى مع تجربة الشاعرة في ديوانها "ليلة الكرز".
3/2. القافية:
تنوعت قوافي النصوص بتنوع الأوزان والمشاعر والمواقف التي عبرت بها وعنها الشاعرة، فاختارت قوافيها بعناية لتتناغم مع مستويات الحالة الوجدانية والعاطفية والفكرية التي مرت منها أو عاشتها الشاعرة، ويتجلى هذا التنوع في
أ. استعمال قوافي مطلقة ومقيدة أو المزاوجة بينهما. ففي قصيدة "إهداء" نجد تجاور بين القافية المطلقة: (الذي يدقُّ ـ كل صباحِ ـ سلة القمرِ.) والقوافي المقيدة: ( ياسمينْ ـ تحملينْ ـ حنينْ ـ عاشقينْ ـ سنينْ).
ب. كما استعملت قوافي موصولة بالهاء كما في قصيدة "صبة" (صبهْ ـ قلبهْ ـ دربهْ ـ نخبهْ ـ) وقوافي موصولة بمد: (ولهى ـ دنيانا ـ ) وقوافي خالية من الوصل: (الشعر ـ المجنون ـ الكون.)
ج. كما نجد قوافي مردفة (وهي التي بينها وبين الروي ألف هاوية) كما في قصيدة "عضة الوجع": (شرياني ـ كتمان ـ وجدان ـ ريحان ـ أفنان).
ح. وأحيانا نجد القافية مردفة موصولة بمد، أو هاء، أو ياء، أو الهاء واللف معا: ( صدرنا ـ أشواقنا ـ ألواني ـ أفنانها ـ أكتافه ـ أجفاني ـ بقلبها ـ بنياني). وهذه الظواهر كثيرة في الديوان مما أثراه إيقاعيا.
خ. وفي قصيدة "وشم العهد" اختارت الشاعرة أن تلتزم بقافية واحدة وروي واحد مما قرب النص إلى الأرجوزة أكثر من قربه من القصيدة، وزاد من جمالية النص اختيار بحر الكامل كقالب موسيقي لصياغة التجربة، تقول:
هل تذكر العهد الذي قطعت لكْ يوم انتشى مني ليسقيك الملك يستمطر الدفء الذي ما أهملك ويلثم الدر المغطي سنبلك. (الديوان. ص. )
إن الانسجام الصوتي النابع من تكرار القافية والروي والتوازي بين الأسطر الشعرية ساهم كل هذا في شحذ الطاقة الإبداعية التخيلية سواء لدى الشاعرة أو لدى المتلقي. فالتكرار ينبه المتلقي إلى أهمية الألفاظ والأصوات المكررة لما تتمتع به من شحنة إيحائية كبيرة، إضافة إلى بعدها الجمالي الذي يتجلى في انسجام كل مكونات الإيقاع ومكونات الدلالة مما يساهم في التأثير على مخيلة المتلقي ودعوته إلى المشاركة في العملية الإبداعية.
لقد استطاعت الشاعرة أن تتفوق وتنجح في نسج خيوط تجربتها الشعرية في ديوانها "ليلة الكرز" لما حققته من تفاعل فاعل وقوي ومؤثر بين الشكل والمضمون. ويمكن اعتبار الديوان ليس فقط إضافة كمية للساحة الشعرية المغربية، بل إضافة نوعية أيضا.
المصطفى فرحات ابزو: رمضان 2012
.................................................................................................. (1). فاضل تامر. اللغة الثانية (في إشكالية المنهج والنظرية والمصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث). المركز الثقافي العربي. ط/1. 1994. ص 112. (2). نفسه. ص 112. (3). أحمد المعداوي- المجاطي. ظاهرة الشعر الحديث. شركة النشر والتوزيع مدارس. ط/2. 2007. ص 110 وما بعد. الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الجمعة 16-11-2012 11:46 صباحا الزوار: 1650
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
قراءة في رحلة (الطّريق إلى كريشنا) لسناء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 14-11-2024 |
" أنشودة أخرى للوطن " للشاعرة ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 02-11-2024 |
"كسرت الأقلام وجفَّت ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 01-11-2024 |
قراءة في رواية «النبطي المنشود» لصفاء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
قراءة في كتاب «معاصر السمسم بين الماضي ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 22-09-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-09-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 09-06-2024 |
«إيقاع بوح» للشاعرة د. سكينة مطارنة | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 09-04-2024 |
قراءة في رواية صفاء أبو خضرة «اليركون» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأربعاء 14-02-2024 |
وقفة نقدية مع ديوان «أنا فوق أرصفة جسدي» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 22-12-2023 |
قراءة في ديوان «المشكال» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 22-12-2023 |
قراءة في رواية( عشرُ صلواتٍ للجسد) ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 24-07-2023 |
تقنيات التعبير الشعري وأبعادها الجمالية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 09-07-2023 |
"القدس بالرواية العربية" ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 04-07-2023 |
قراءة في كتاب «للأشياء أسماء أخرى» لروند ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 28-05-2023 |