د. عماد الضمور ينتمي سعد الدين شاهين إلى جيل شعراء التسعينيات من القرن الماضي، بعدما أصدر عشرة دواوين شعرية استطاعت أن تضع اسمه بارزاً بين الشعراء الأردنيين، فهو صاحب قدرة على التكثيف والإدهاش معاً، وهذا يعكس بلاغة في القول وقوة في المعنى. عندما نقرأ لسعدالدين شاهين ننتقل من دور المتلقي للشعر إلى دور المشارك في طرح الأسئلة، والمعاناة، فهو يختزل الألفاظ دون أن يفقدك الرغبة في الاستمرار، فالمعنى جامح والأسئلة في انبعاث مستمر، ففي قصيدة « الشاعر جرعة ماء» يفلسف فكرة الإبداع الشعري بطريقته الخاصة، وبرؤى الفيلسوف الذي يتجاوز عذاباته إلى تعميق قيمة الحزن الوجودية، فإذا كان الشاعر جرعة ماء فإن الشعر حياة: الشاعر مطرُ الأرواحِ ويهمي ـ حين تجف الروح ـ ..غناء لا يكشفُ سرَّ الشاعر إلا دمعةُ حزنٍ سبقت أمطارَ الشاعرِ دون بكاء وهنا يكمنُ معنى أن نفقدَ كلّ الأشياء(الديوان، ص 9). تفيض قصائد الشاعر بجموح حياتي واضح؛ فهو مستقل بشخصيته الشعريّة، تزدحم جمله بخصوصية الذات، وتعلقها بعذباتها وآمالها في حياة هانئة بعيدة عن انكسارات الواقع، حيث يقول في قصيدة « ما يفضي إليّ»: يا راعي الغيمات في فلواتها لا توصِ غيماتي لتمطرَ دون موعدها فلي وطني... وأنوائي وأرضٌ شكّلتني كي أعودَ إلى بقايايَ التي أودعتها سرّ الجريح(الديوان ص13). أجد نفسي وأنا أقرأ شعر سعد الدين شاهين أمام أداء شعري راقٍ، يتفتق بالمعنى، ويكتنز بالرؤى، ويصعّد من العاطفة، ويؤكد حقيقة أن الشعر شعور مهما أبرز الشاعر مقدرته، وأدواته الفنية، لأن الموهبة والبراعة الفنية كفيلتان بخلق قيمة إنسانية فائقة. تتجه قصائد الشاعر بقارئها نحو قضيتين: الأولى: تتبلور حول دور الشاعر في الحياة، والثانية، فنية تتمركّز في وسيلة الشاعر لإبراز شعريته. فيما يتعلق بالقضية الأولى فإنّ قصائد الشاعر تؤكد وعيه الحاد نحو قضايا واقعه، فهو ينطلق من معاناة المجموع؛ ليمضي في رحلة فنية نحو عوالم أجمل فكانت وسيلته في ذلك هي ذاتُه النقية، وكلماتُه الصافية التي تعكس رؤاه، ورغبته في الخلاص من قيود الواقع. إنّ بؤرة التمركّز النصي في قصائد الشاعر تتأتى من تفكيك عناصر الارتباط الوجدانية المهيمنة، وإعادة تركيبها. وذلك بإبراز الرؤى التصويرية التي منحت قصائده تعاليّاً في الصياغة وفاعلية في التعبير وبوحاً شفيفاً محمّلاً بطاقة تعبيرية وحركيّة تتصل بالمتلقي حيناً، وتنفصل عنه حيناً آخر من خلال إحالات ذهنية ذات علاقة وثيقة بالنص. لعلّ أكثر ما يشد المتلقي لشعر سعد الدين شاهين هو تعلقه بالرؤى المرتدة لذات ملهمة، فعنوانات الدواوين ومحتوى القصائد يدلان على ذلك، نقرأ: أهدتني البحر وخبأت الشاطئ، أرى ما رأته اليمامة، وحيداً سوى من قميص الأغاني. إنّ عنوان « نزفٌ بريء» استبدّ بعناوين عديدة للديوان، وطغى على عدة عناوين يمكن أنّ يجعل الشاعر أحدها للديوان، لكنه باختياره لعنوان « نزفٌ بريء « استطاع أن يشكّل عتبة قادرة على اكتناه أسرار النصوص الشعريّة، التي ضمها الديوان، فضلاً عن أنّه أحدث علاقة ذات مرجعيّة وجدانية، تعين في فهم النصوص، فضلاً عن العنوانات الداخلية التي ترتبط مع النصوص الشعريّة بعلاقة وثيقة. العنوان يتألف من مركب نعتي « نزفٌ بريء « وهذا يفيد التخصيص، حيث الربط بين متجانسين، يعد أولهما مؤثراً ونتيجة لفعل ما (نزفٌ) والأخر نعتاً دالاً عليه(بريء). وبعيداً عن الدلالة الحرفيّة للنزف، فإنّه يرتبط في علم الإبداع بعالم الانكسار والتشظي والضياع الذي يمكن من خلاله نظم الشعر، بل يحمل دلالة بالغة التأثير قادرةً على استنطاق الكلمة، وحملها على أبعاد تأويليّة خصبة بانزياحات اللغة، وتهويمات الصوفي ذات الأبعاد الوجوديّة. ولعلّ نعت النزف بأنه بريء، يُسهم في إثراء المعنى بدلالات إبداعيّة واضحة، يستدعيها العنوان. فالنزف بمعناه المعجمي يحمل معنى الفقدوالانفصال، أمّا الدلالة الإيجابيّة فإنّها تنطوي على حالة الإبداع التي وقع الشاعر تحت تأثيرها. والتي تمكنه من قول الشعر. لكنه نعته بالبريء يجعله نزف الحالم الباحث عن سر الوجود، وتشكلاته العميقة بعيداً عن حالة الانكسار. فالنزف بهذا المنظور يبتعد عن التقريرية، ويجعل مفردات الشاعر تنفلت من سياقاتها المعجمية إلى سياقات تأويليّة خصبة، ممّا جعله يبتعد عن المباشرة، ليتجه إلى نزف اللغة، وطقوسها الإبداعيّة. إنّ اتجاه الشاعر الوجداني ينحاز إلى التواصل الجمالي مع المتلقي، وهو انحياز يحمل في ثناياه تفضيل لحقل الطبيعة، وسياقاته الدلاليّة، التي تعتمد على التشخيص، وتكوين الصورة المركبة التي جعلت لغة الديوان تميل إلى تصعيد الخطاب الوجداني مع المتلقي، وتعبّر عن حالة وهج وجداني، يحتفل بالحياة ومفرداتها؛ فالحياة نزف، والطبيعة كذلك، فضلاً عن كونهما مصدر مهم للإبداع، وقيمة جماليّة وفنيّة حاضرة بقوة، لكن مع هذا النزف تستمر الحياة، وتتعمّق فيها قيم الوجود. أيّ نزف بريء أراده الشاعر؟ وأيّ كلمات تحمل المعنى، وتبلغ به حالة الالتصاق بالمتلقي، والبحث عن الأحلام الهاربة، والرؤى المتوهجة؟ فكان نزفه الدائم في رحلة البحث عن عالمه الحالم: نزفٌ على الأطلال دون دمٍ يُراقُ ما جاء بي فرسٌ هنا لأجوسَ بالمعنى دياراً كنتُ وارثُها ولا ركبتْ قوافيَّ المراكبُ دون لُجتهِ وطار بي البراقُ (الديوان، ص17) نصوص الشاعر نتاج مغامر يتشابك مع الواقع حيناً، ومع الحُلم حيناً آخر. فالشعر ليس مجردَ قوافٍ وأوزانٍ فحسب، إنّه واقع وخيال، ينبع من مشاعر، وأحاسيسَ عميقةٍ، فيحرك الوجدان، وتهفو إليه القلوب. تكشف نصوص الشاعر عن تصورات ذاتية لحالة ذهنية تبرر فوضى الواقع المعبّر عن التشظي لكنها فوضى إبداعية محببة لا تلبث أن تنتظم في معطى إبداعي يقدّم المعنى قرباناً للذات، ويصيغ الحبّ برؤى الحالم الباحث عن الحياة في عالم الموت والضياع، كما في قصيدة (سأخبر الله عن كل شيء) حيث يقول: سأخبر الله عن كلِّ شيء وأقتصُّ منكم إذا عشتُ. صاحَ الغلام الصغيرُ الذي انتشلوا نصفهُ من دمار البيوت لماذا نثرتم حجارةَ بيتي ودَوّيتُم الصوتَ كي استفيق من النوم والحلمُ ما زال في أول الليل ينصُبُ حولي خيوطاً كما العنكبوت سأخبرُ الله عنكم وأخبرهُ أنني كنتُ أنوي الحياةَ إلى أن أموت (الديوان ص ص 105 ـ 106). ممّا يُلفت النظر أيضاً في تجربة سعد الدين شاهين الشعريّة هو توهج الرؤى الحُلمية، فأحاسيس الشاعر تستيقظ في نصه وتتراكم في تأملات شعرية شاردة تتعدد فيها الأصوات وتكتنز معها الدلالات، وهذا لا يكون إلا لشاعر موهوب، امتلك ناصية الشعر، واستطاع البوح بكوامن نفسه المتّقدة وجداً. تمتاز قصائد الديوان بأنها محمّلة بمشاعر الحزن والأسى والانكسار لما حلّ بالأمة العربية، إذ تعكس انكسار الحلم العربي وجراحاته المستمرة نتيجة للمؤامرات الدولية، ممّا جعل من شعره شاهداً على صدق التصوير، ولوعة الدم العربي المراق. يجعل الشاعر قصيدة (ادخلوا مصر) في أربعة مقاطع أعاد فيها تصوير المشهد العربي المعاصر شعراً نازفاً بآلام الأمة، واحتلال أراضيها، إذ يعمد الشاعر إلى بعث أحزانه في الآخرين باسترسال مشوق، ونزف مستمر، تتراكم من خلاله المعاناة، وتتعاظم معه الجراح، فالدم العربي ما زال طرياً يبعث الأحزان، ويحفّز على الصمود: نقصد الشام إن أردنا نجاةً فإذا ياسمين الشآم بالدماء غريقُ والسفوحُ التي شاغلت بالهوى بردى لا تردّ الصدى والنوائبُ فيها تحيقُ ( الديوان ص 165) إنّ تجربة سعد الدين شاهين الشعريّة لم تكن عابرة في القصيدة الأردنية بل مزيج لمرحلتين: تقليدية وحداثية تختزل الكثير من الهموم والصراعات والأحداث تستمد خصوصيتها من رؤاه العميقة التي تطرحها النصوص
الشعريّة التي أبدعها الشاعر، إذ يبدو السرد ذاتيّاً لكنه يكشف في الحقيقة عن تجربة جمعية عميقة يقدمها الشاعر عبر بوح شفيف ولغة سردية غنية بالإيحاءات بهيمنة واضحة للفعل المضارع بدلالتيه الحركيّة والحلمية الكاشفة للرؤيا والمضمخة بهموم الواقع، ممّا يجعل من شعره نبوءة بالتغيير والرغبة في معانقة ماضي الأمة، وبطولاتها الخالدة، فهو يبحث دوماً عن البديل للانكسار والإخفاق؛ ممّا يبعث في ضمير المتكلم حيوية ذات نسق متماسك وحوارية عميقة تحاول الاقتراب من الحقيقة بحيادية لا تخلو من الإحساس بأهمية الآخر. وهذا ما جعل من ذات الشاعر بؤرة إشعاع لأفكاره ينطلق من خلالها للآخرين دون الانغلاق على نفسه بل بإيجاد صورة توافيقية بين حلمية الذات وواقعية الآخر، ممّا أخرج نصوصاً ذات رؤيا وحياة قائمة تحتشد بالحوار وكثافة المجاز والرموز والتناص، فضلاً عن إحالات نفسية وفكرية عاشها وظهرت في شعره بوحاً صادقاً، وصورة عميقة ذات دلالة.