|
عرار:
د. عمر الفاروق/ القاهرة الشعر الأصيل، هو الذي يجعلك تقول عند قراءتك لأول كلماته: «كيف استطاع الشاعر أن يصل إلى هذا؟»، وتكون تلك الكلمات تعبيرا وجدانيا وانفعاليا عن تلك الجاذبية التي تشعر بها عند تفاعلك الأولي، والسريع، مع ذلك الشعر الأصيل. وهذا بالضبط ما يحدث -في تصورنا- للقارئ عندما تقع عيناه على قصيدة من قصائد جميل أبو صبيح. فالرجل يمشي، ويعيش، وينفعل ويكتب تحت مظلة الصدق الإبداعي. - وإذا كانت قصائد جميل أبو صبيح تنتمي في رأي بعض النقاد إلى مرحلة ما بعد الشعر الحر فإنها بذلك لا يطلق عليها (الشعر العمودي)، بل تصبح قصائد إيقاعية.. تعتمد على التشكيلات اللغوية ولكن الأمر في نظرنا يتعدى ذلك بكثير. فعمق الشعر الحقيقي، والذي يعبر عن صدق الشاعر الوجداني الدفين، هي التي تعلو فوق القوالب -مع احترامنا لها ومطالبتنا بها- إلى آفاق المعنى والتواصل الإنساني الراقي. وحبذا لو كان للشعر قضية.. فإن الأمر عندئذ يتحول من «دفقة انفعالية مقننة» إلى «دفقة اشتعالية موجهة فيكتب التقدير لها. وهذا ما قام به جميل أبو صبيح عندما أثبت أن الشعر مثله مثل الظواهر الاجتماعية في تطورها ونموها التدريجي.. فأصبحت لقصائده قضية من أشرف قضايا النضال الإنساني.. وهي «قضية الحرية». لذلك فنحن لم نقرأ القصائد بالعين، وإنما تعدى الأمر ذلك إلى القلب والوجدان والإحساس الإنساني المشترك، وخاصة عندما نشعر بالملحمية في شعره، وتلك «الكوادر» التي تكاد تنطق بالحركة. شخصية الشاعر: من خلال القصائد المتعددة للديوان يمكن القول بأن الشاعر جميل أبو صبيح يتميز بالخصائص النفسية التالية: 1- الأصالة: بشقيها التاريخي.. والفكري. فهو ابن أريحا... والتي تعتبر من أقدم المدن في تاريخ الإنسانية. فهو أصيل المنبت، وأصيل الفكر، فاستطاع أن يلبس المألوف من الأحداث والكلمات ثوبا جديدا على شكل قصائد.. أقل ما يقال عنها إنها قوية ومؤثرة.. ومعبرة. 2- الإلتزام الإنساني: لقد عايش الشاعر، وتعايش، ولا يزال يعايش معاناته المستمدة من معاناة الشعب الفلسطيني في صراعه الأبدي.. والعادل.. والمحتوم.. مع الكيان الصهيوني. وذلك الإلتزام يرتبط أيضا بإحساسه بإخوته وأخواته في الأرض المحتلة، فكان صوتا معبرا عن معاناتهم، وصرخة إبداعية تنطق بقضيتهم. 3- سلاسة القدرة على التعبير: وهي تدل على ثراء شخصيته الشعرية. والسلاسة هنا تعني دقة الطرح.. دون معاناة بيانية، بما يؤدي في النهاية إلى منظومة متكاملة رائعة البناء. 4- العاطفية.. وهي تبدو في أنه عبر.. بشعره عن عاطفة عامة، أو « ذات عامة انفعاليا ونقصد بها ذات الشعب الفلسطيني. « وذات خاصة «، ونقصد بها « ذاته» هو. والشعر الذي يخلو من العاطفة، مهما كان التوجه الذي يتوجهه.. لا يكون إلا شعرا أخرس البيان. 5- حب الحرية والحرية ليست الانطلاق بالسلوك دون رقيب.. وليست في العيش الرغيد.. ولكنها في « كرامة الحرية»، « وحرية الكرامة».. فمفهوم الحرية الحقيقي أن تكون صاحب مبدأ - أو قضية - تدافع عنه، أو عنها.. دون قهر.. دون سطوة خارجية.. دون ذبح للحق بسكين الباطل. ونحن نجد أن تلك الخصائص قد انعكست إسقاطا موحيا إبداعيا على قصائد الشاعر، وشكلت تكاملا لإبداع وأثق من نبتته الأصيلة. الخصائص الشعرية في أعماله: يتضح من قصائد الشاعر المتنوعة.. أنها تتميز بالخصائص التالية: 1 - قوة البناء والطرح، لغة.. ومعنى. 2 - جزالة اللفظ، وحس توظيفه. 3 - تنوع التشكيلات اللغوية الثرية. والواضحة. 4- كثرة الصور البلاغية المعبرة. 5- قوة الوصف وأشكاله المتعددة. 6- وضوح اللفظة الشعرية المفعمة بالموسيقى. 7- وضوح الأسلوب الملحمي في كوادر فنية ناطقة بالحركة والقدرة الشعرية. وفي كل ما سبق، نجد الشاعر وقد تميز بالقدرة على التخييل، وصاغ من خياله واقعه المؤلم.. فكان التزواج الطيب بين هذا وذاك. كما تميز الشاعر أيضا بالقدرة على الوصف لما يكتب مستخدما القوة البيانية الواضحة لديه. القضايا التي يطرحها الشاعر: يطرح الشاعر عدة قضايا تستشف من قصائده الطويلة.. فتعبر عن عمقه الوطني، وأصالته الإنسانية.. ورغبته في أن يتواصل مع أخيه الإنسان في أرض فلسطين، وخارجها. ومن تلك القضايا المطروحة ما يلي: 1 - قضية الأصالة الضائعة: فنحن في عصر غلبت القوة فيه.. على الحق.. ولم يصبح الحق قوة.. إلا بقوة تحميه وأصبح الباطل حقا.. وأصبح الحق باطلا.. اختلطت الأوراق.. وضاعت الأصالة في ترهات اللاأصالة.. 2 - الطاقة المهدورة والمقهورة: فالشعب العربي والفلسطيني على خصوصية نضاله، طاقات خلاقة ووثابة.. ولكنها مهدرة إما بسبب قوة البطش والبغي.. وإما بسوء التوظيف إن الشاعر يريد من الجميع..ومن ولاة الأمر ألا يهدروا الطاقات. كما أن الطاقات في ذات الوقت مقهورة، ومكبلة الخطى في سعيها نحو تحقيق المصير. 3- قضية الحرية: فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. ومنذ قديم الأزل، وقضية أهم قضايا الإنسان على مرّ عصور تطوره.. أو تدهوره. إن الحرية تاج على رأس الأمم.. ودليل حقيقي ووحيد على أمانة الشعوب الراقية وحرصها على حياة أفضل لكل أفرادها. 4 - قضية جهاد المدى البعيد: إن الإنسان الحق.. إن كان يشعر بأن الحق معه، وحتى لو كانت قوى العدوان أقوى من حقه، لا يمكن أن يتنازل عن كرامته، بل هو يتجلى بالجهاد من نوع المدى البعيد. هو لا يهدأ.. إنها ثورة تحت الرماد وفوق.. الثرى وستنفجر في يوم من الأيام.. واليأس لا يعرف الطريق إليه. فهو أقوى بإنسانيته.. وعروبته.. وحقه المصيري.. التطبيق من واقع الديوان (بعض الأمثلة): - عنوان الديوان: يكاد العنوان يفصح عن الشاعر، وعن القصائد بكلمات ثلاث أقل ما يمكن أن توصف به.. أنها كلمات عامة، جامعة.. معبرة فلفظة «الخيل».. البدوية.. البرية.. توحـي بالأصالة.. العربية، وتعبر عن الانطلاق.. والقوة.. والجموح.. والكبرياء.. وعدم الخضوع بغير اقتناع. كما تعبر عن حرية الحركة... وقوة الأداء. أما لفظة « البحر « فتعبر عن الاتساع والرحابة والعمق والثورة المحتملة، وجيشان الحركة.. وهو اختيار موفق، ويتكامل مع « بيئة الشاعر الذاتية..». أما كلمة « الجسد « فهي متعددة المعاني.. وقد تنطبق على أمة أو قضية أو فرد والشاعر هنا يتكامل في مسمياته الثلاثة. فالألفاظ موفقة الاختيار.. ومعبرة عن الديوان في نفس الوقت. - التأثير بالخيل بيئيا: فالشاعر يذكر ص 13 من الديوان، تعبير «على أطراف الصحراء». كما يورد أيضا تعبيرات أخرى مثل « صدر البحر»، «نحو الغرب» و»الصحراء الكبرى». - اقتحام المجهول: ففي ص 13 أيضاً يذكر تعبير « نحو المجهول» كتعبير عن أن الحركة دائبة لن تهدأ. ولن تقف عند حد معين، بل ستتخطى حدود الواقع وتقتحم المجهول بأسواره المنيعة. - قوة البيان والطرح: ويتمثل هذا في روعة تلك الجملة « جلس الكنعاني على طرف النهر.. يرى الأسماك». ملاحظات.. ونقاش: - قد يكون التكرار مثبتا ومفيدا في كثير من المواطن، وقد يكون غير ذلك، وهذا ما دفعنا إلى التأمل في طبيعة التكرار الذي أتي به الشاعر، كذكره لفظة « الأطيار» كثيرا في الصفحات 17،14، 19، 23. وقد يكون للشاعر عذره هنا.. فالمعاناة التي يعاني منها الفرد.. أحيانا ما تبعث في النفس مرارة... تجعله يكرر... ويكرر.. كدليل على تلك المعاناة.. والاضطراب النفسي الذي ينشأ عنها. - ونلاحظ أيضا بعض التداخل بين الألفاظ الأساسية لدى الشاعر «كالجمل» و»البحر» و»الصحراء» « والحقول» كرموز تعبيرية، إلا أن القوالب التي استخدمت فيها تلك الألفاظ اتسمت بالقوة التي تخفف من حدة التداخل.. وتجذب المرء إلى جمال البناء والوصف، دون الشكل المجرد. كما لوحظ أن القصائد طويلة. وهذا الطول في القصائد يطرح قضية القدرة على نظم الشعر، بكمه ونوعه. كما تطرح قضية «التنوع». وفيما يتصل بذلك التنوع.. نرى أن له بعدين: «بعداً خارجيا.. و»بعدا داخليا». فأما «البعد الخارجي» فيتمثل في تعدد الأعمال والموضوعات، وهذا ثراء بياني.. لاشك. و»البعد الداخلي» ينحصر في داخل القصيدة الواحدة، وإذا توافر أحد البعدين السابقين.. فلا غضاضة. أما إذا كان الطول على حساب المعنى.. فهذا أمر غير محبب للنفس الشاعرة كما أن «فائض المعنى» يطرح نفسه بقوة. والشاعر وإن أطال.. فقد اتسم بالتنوع الطيب الذي لا يمنعنا من التنويه ببعدي طول القصائد الشعرية كما أسلفنا. - وإذا كانت شبهة القص الشعري تلقي بظلالها من خلال قصائد الشاعر فإن سيناريو تلك الشبهة يوجد على استيحاء. فالشاعر يعاني وجدانيا. والمعاناة..وإن عبرت عن نفسها هكذا.. فإن الشاعر يكون قد قصد ما كان، ونكون قد أفصحنا عن إعجابنا به. ولعل الأمر في النهاية يدل على قوة شعرية متمثلة في شاعر أصيل مثل جميل أبو صبيح. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 28-05-2023 09:10 مساء
الزوار: 634 التعليقات: 0
|