|
عرار:
القصّة القصيرة جدّاً بين البانتومايم والتجريد.................. عندما سئل د. يوسف حطّيني عن تعريفه للقصّة القصيرة جدّاً، أجاب: (لم أتورّط مرّة بتعريف لها، لكنّي أدرك هويّتها وحدودها إلى حدّ بعيد. فهي تنتمي إلى الفنون السرديّة الحكائيّة، وتبلغ حدّاً لافتاً من القصر الذي لا ينتج عن تكثيف اللغة، بل تكثيف العناصر البنائيّة؛ ذلك أنّ تكثيف اللغة سمة يمكن أنْ تتميّز بها الرواية والقصّة القصيرة وغيرها). وفي رأيي البسيط، لا يفترض بنا أنْ ننظر لهذا الردّ على أنّه مظهر من مظاهر ضبط النفس التي لا بدّ أنْ يتحلّى بها الناقد الحصيف، أو نصفه بأنّه مجرّد تحفّظ حذر وشبيه بموقف تشيخوف، بعدما طلبتْ إحدى الكاتبات الشابّات رأيه بروايتها، فردّ عليها: - ما هكذا تلتحق الفتيات الروسيّات بالثورة!. بل، نوع من الإدراك الحقيقيّ لماهيّة القصّة القصيرة جدّاً التي وصفها في موضع ثان: ( ... وقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين وما بعده اجتهادات نقديّة لافتة لتحديد أركان القصّة القصيرة جدّاً الأساسيّة (...)، وعلى الرغم من وجود خلافات في هذا الشأن، فإنّ الحكائيّة والتكثيف والوحدة النصّيّة والبناء الفعليّ للجملة والمفارقة، تشكّل أسساً لا غنى عنها لكي ينتمي هذا النوع من الكتابة لفنون السرد). فلا فنّ من بين الفنون السرديّة يمتلك هذا التعقيد من التلوّن، والالتفاف على أنظمة السرد، والمراوغة في الشدّ والجذب، مثل القصّة القصيرة جدّاً. ولأنّ هذا التعقيد يزداد حدّة كلّما قفزت إلى الساحة محاولة تجريب جديدة، فلا بدّ من عودة إلى التنظير والمقارنة بعمليّة رصد تأخذ بعين الاعتبار أنّ النصوص مثلما هي قابلة لتعدّد القراءات، قابلة أيضاً لأنْ تكون قضيّة بحجم لم يتوقّعه أحد، وهو بالضبط ما تعنيه القصّة القصيرة جدّاً في صورة من أبسط صورها. لقد أكّدنا في مبحث سابق إنّ هذا التركيز الغير متقن، على التكثيف الشكليّ وفعليّة الجملة وقصرها الشديد، وإقحام الومضة في المتون، سينتج نصوصاً من نوع ٱخر وتحتاج تجنيساً مغايراً للقصّة القصيرة جدّاً. وأستطيع القول وبيقين تامّ، إنّ بعض تلك النصوص تستحقّ أنْ تصنّف، نصوص تجريديّة والأخرى نصوص بانتومايميّة. والفنّ التجريديّ هو فنّ يعتمد في الأداء على أشكال ونماذج مجرّدة تنأى عن مشابهة المشخّصات و المرئيّات في صورتها الطبيعيّة والواقعيّة. وتتميّز بمقدرة الفنّان على رسم الشكل الذي يتخيّله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماماً قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصليّ. ويعتبر بابلو بيكاسو من أبرع الرسّامين الذين استخدموا التجريد في أبرز أعمالهم المشهورة. هذه المقدّمة ليست تحايلاً منّي، بقدر ما هي توضيح بسيط يصلح للحديث عن النصوص الكثيرة الّتي شاعتْ في الفترة الأخيرة، وصنّفتْ على نحو غريب كقصص قصيرة جدّاً، لا أريد أنْ أنحو منحى أحد النقّاد العراقيّين قديماً عندما قال عن قصّة آرنست همنغواي: "للبيع: حذاء طفل لم يُلبس أبداً". أنهّا تصلح أنْ تكون لافتة في محلّ لبيع الأحذية!؛ رغم أنّنا قد نحتاج هذه الحدّة فعلاً، وخاصّة عندما يتعلّق الأمر بمئات النصوص الّتي تعتمد تغييب المعنى والموضوع والحدث وجماليّات السرد، خلف آليّات أقلّ ما يمكن أنْ يقال عنها؛ أنّها غير منضبطةٍ بعرفٍ ولا بقانون. إنّ التجريب وجد أصلاً لإغناء التجربة الكتابيّة وليس لتحويلها إلى عمليّة تجريد ينزع منها هويّتها، ومبرّرات وجوده محكومة هي الأخرى بجوهر المادّة الفنيّة التي أُسّست وفق منظور أكاديميّ معروف. يقول الدكتور مسلك ميمون في إحدى دراساته مؤكّداً هذه الحقيقة: (لا جنس من الأجناس السّرديّة ، استوقف المبدع و النّاقد كالقصّة القصيرة جدّاً. فالنّاقد يحاول جاهداً أنْ يلملم جزئيّات هذا الجنس، لتستقيم شكلاً فنّياّ أدبيّاً قصصيّاً، فيحتار في الجزئيّات و أهميّتها ، و في النّسق التّركيبيّ . و يزيده حيرة و ارتباكاً هذا الإقبال المنقطع النّظير، و هذا الزّخم من المجموعات التي أصبحت تتكاثر كالفطر منوّعة و مختلفة، و كأنّ كلّ قاصّ له فهم خاصّ لمبادئ و خصوصيّات هذا الجنس الحديث! حتّى أنّي سمعت في أحد الملتقيات، من يدّعي أنّ هذا الفنّ بدون قواعد. فيومئذ فهمت سرّ الإقبال، ذلك أنّ البعض استسهل الأمر. و رأى أنّها وسيلة للظّهور، بأقلّ عناء و كلفة أمام حيرة النّاقد و هو يحاول الحسم قدر الإمكان . وأمام الفهم المُرتجل لبعض المبدعين ضاعت أو تكاد فلسفة هذا الفنّ، الذي أريد له أن يكون فقط : قصّة/حكي ، و لكن بحجم قصير و مؤثّر. و السّؤال النّقديّ ، كيف يكون قصيراً ؟ و كيف يكون مؤثّراً؟ سؤالان هامّان يشكّلان فلسفة القصّة القصيرة جدّاً، و من لم يستوعبهما سيتيه في دروب قصيدة النّثر ، و تهويمات الخاطرة، و حكم الشّذرة، و مدارج الهايكو.. وهلمّ جرّا و مدارج الهايكو.. وهلمّ جرّاً . و عنده أنّه يكتب قصّة قصيرة جدّاً. و شتّان بين ما يريدُ و ما كتبَ). ففي الوقت الذي أثار نصّ إبراهيم بازو: خروج - إلى اليمين سِرْ - صار شمالنا يا سيدي!. زوبعة لغط وجدال، فاجأ القاصّ العراقيّ ساجد محمد رضا المسلماوي الجميع بنصّ جديد في شكله وأسلوبه: اللاشيء ما فتِئتُ أبتلعُ منقوع الصبر على ريقٍ ناشف. (……… ……… ………) …في عالمٍ آخر، صوتٌ ما: أعيدوهُ طينا!. لا داعي للقول أنّ النصّين مختلفان عن بعضهما، فالأمر واضح ولا يحتاج أيّ جدال. وبإمكاننا أيضاً الذهاب أبعد من ذلك فنقول أنّ النصّ الأوّل يمكن أنْ ندرجه تحت عنوان (نصّ تجريديّ)، إذْ تتلاشى القصصيّة وتستتر خلف أشكال ذهنيّة. فيما كان اللاشيء (نصّ بانتومايميّ) استخدم فيه الكاتب تقنية الحذف بطريقة لافتة، واستغنى عن وظائف القصصيّة كليّاً، واضمحلّ الموضوع، والحدث، واختفيا تماماً. ويمكن تعريف (البانتومايم)، على إنّه أحد أنواع التمثيل الذي يتمّ بدون كلام. ويتمّ العرض فيه، على شكل مسرحيّة قصيرة لا تنطق فيها كلمات، يؤدّي فيها الممثّلون أدوارهم بالإيماءات والحركات الجسديّة فقط. ولا يخفى على المتتبّع ما في النصّين من براعة في الأسلوبيّة، وتحايل ودوران على الأنظمة البنيويّة، وإدغام تناغميّ بين المحسوس والملموس. لكنّ القول يتعلّق بإشكاليّة تجنيسهما كقصص قصيرة جدّاً. إذ إنّنا نحتاج أوّلاً إلى قصصيّة، وحدث، وموضوع، ضمن لغة الّتي هي (مجموعة من العلامات... وإنّ أصل علامة هو مبتدأ التشكّل، ولكنّ أصل التشكّل هو توفّر صورة حسيّة تُدرك عبر إحدى قنوات الحواسّ الخمس، فإذا ارتبطت هذه الصّورة الحسّية باضطلاع معيّن بين الأفراد المشتركين، نشأت العلامة). كما يقول الأستاذ عبد السلام المسدي في كتابه ماوراء اللغة. ومع أننّا لا نستطيع أنْ نلغي طموح الكاتب في كسر القيود والتّحليق في أفق الابتكار والإبداع، فهو حقّ من حقوقه على كلّ حال. سيّما وأنّ الكاتب نفسه قد عبّر عن هذه الحقيقة في ردّه على بعض التعليقات: "الكتابة الادبيّة تفرض علينا طرق جميع الأبواب وأنْ لا نراوح في نفس المكان، هكذا نستصلح مناطق جديدة للكتابة". لكنّنا أيضاً نملك حقّ التساؤل فيما إذا كانت القصّة القصيرة جدّاً، حقل تجارب مفتوح بلا حدود أو قيود، وبطريقة تشعر المتابع إن ّالأمر قد انتهى، ولم يعد بالإمكان التوقّف عند أنموذج ما. وهنا يعترضنا سؤال ملحّ: "إذا كانت صناعة نصّ قصّة قصيرة جدّاً بحاجة إلى قوانين، فهل يُمكن عكس الفرضيّة، بإنتاج نصوص بلا قوانين"؟ علي غازي / العراق الكاتب:
إدارة النشر والتحرير بتاريخ: الثلاثاء 19-05-2020 05:29 مساء
الزوار: 929 التعليقات: 0
|