|
عرار:
د. عماد الضمور العلاقة بين الشكل والمضمون علاقة عضويّة تماماً كالعلاقة بين الروح والجسد، ممّا يجعل البناء الشعريّ يستدعي أساليب لغويّة وفنية تؤدي وظائف شعريّة، تنسجم من خلال الأفكار وتتسق معها الرؤى وصولاً إلى لذة جماليّة. ديوان عبدالرحيم جدايّة العاشر « قّلِقٌ أنا» الصادر عام 2020 ينهض الشاعر مبكراً على إقامة حوار دراميّ في مفتتح الديوان، حيث جاءت قصيدة (قّلِقٌ أنا) التي تحمل عنوان الديوان؛ لتكشف عن نزوع دراميّ كاشف للرؤى مثير للتساؤلات، وتبادل واضح للأفكار واتّساق للمتناقضات من خلال صراع حركيّ يكتنز بالعاطفة والشعور المعمّق للفكر والكاشف عن بواطنها. وعلى غرار الرومانسية، فإن حوار عناصر الطبيعة هو حوار الذات النازفة، والنفس المتألمة، حيث يقول: ستقول سنبلة الحقول لأختها قَلِقٌ هو وتقول ثمّ سحابةٌ لسحابةٍ مرتْ هنا: قد كان يرتجف الخريف على يديه قَلقٌ يساورني عليه حتّى اليمامة غادرتْ أغصانه مذ كان يسكنه الأرقْ فزعٌ يناوش صمته فتخونه تلك الرياح إذا عبرن عباءة الأيام تعبث بالورقْ( الديوان ص 5). وفي إطار القلق المسيطر على الشاعر يتنامى النزوع الدرامي في النص الشعريّ النابع في ذات الشاعر بحثاً عن الحبّ والاستقرار، حيث نلمس التقابل بين حركتين: الأولى مصدرها الذات القلقة، والثانية تنبع من الطبيعة حيث تلتقي مع الأولى في بحثها عن إجابات مقنعة لأسئلته الحائرة، فكان الحزن الرومانسي نتيجة حتميّة لكلّ هذه الأفكار القلقة المقلقة معاً، حيث يقول: قلقٌ يساورني وأشكُّ أن الثلج أبيضْ وأشكُّ أن الليل أسودْ وأشكُّ في قلقي إذا ناجيتني فالقلبُ يفرد صمته ويمدّني صمتي بموالٍ أسيرْ وأمدّه كذباً ( الديوان ص 6). لقد كان في استطاعة الشاعر التعبير عن مشاعره مباشرة، لكن إبداع صور شعريّة تمتزج بالطبيعة عمّق من الشعور بالضياع والاندثار، ودفع بالشاعر إلى المناجاة،وصياغة خطاب دراميّ يحمل في ثناياه بذور الشك في طبيعة الأشياء والثورة على الواقع والتمرّد على مقتضياته بلغة الشعر، وصفاء روحه، بعدما استقرت اللغة في ذهنه روحاً تبحث عن الخلاص، وأصبحت الطبيعة هي المبادرة إلى مناجاة الشاعر بعدما عهدنا عكس ذلك في الإبداع الشعريّ، كما في قصيدة ( مناسك الأشياء) حيث يقول: للبحر مناسكهُ والموج يطوف على كفّيكِ يغنّي عجباً للموج يُناجيني لليلِ مناسكه أيضاً لليلِ دروب الحزن على جسدي طعناتٌ تستر أوردتي أقطع للريح عهود الليل وأنسى هل أنسى أمسية عبرتْ من غير وداعْ( الديوان، ص15). إنّ خصوصية التجربة وصدقها تتضح بما اصطنعه الشاعر مع الطبيعة من حوار ، وهو ماثل في صوت خارجي يهمس من خلاله بآماله الضائعة ، ممّا يدل على حرص الشاعر على تجسيم تجربته والإخلاص لها. ومنطلق الشاعر في ذلك هو أحاسيسه وذاته النازفة، لذلك جاء التساؤل مشروعاً بعدما أفلت شمسه، واندثرت روحه في فضاء الوجود بعيداً عن واقعه المظلم، كما في قصيدة ( يكاد يشبهني الغياب): هل في الضياع خطيئةٌ لمسافرٍ عَبرَ الدجى والشمس غابتْ في جحورالليل ِ تنتظر الجوابْ أنا لا سؤال يشدّني ويشدّك المعنى وأغنيتي ويشدّني خوفٌ يقاتلني في النفسِ منكِ مواردٌ والروح تهبط في مسام العمرِ مثل قصيدتي ( الديوان، ص 26). لقد استدعت النزعة الدراميّة في الديوان بناء لغويّاً مفعماً بالعلاقات الداخلية التي تكشف عن تفاصيل الذات وعلاقتها الأزلية بالطبيعة في قالب قصصي يٌصعّد من الأسئلة النازفة، ويطمح إلى اكتناه حقيقة الأشياء، وأبعاده الجمالية، كما في قصيدة ( هذا ما ذكرته الريح) حيث يقول: أنا أنا لست أنتَ فمنْ أكون؟ هل أنتَ موال الخريف على ضفاف النهرِ تسبقني المراكبُ والغيوم العاشقاتُ إذا اشتهى الربّان قلبي والمدى أم أنتَ ضوءٌ راعشٌ بيني وبيني حين يُغرقني البعادُ فأشتكي ( الديوان، ص 38) إنّ هذه الحواريّة ذات الصيغة الاستفهاميّة أسهمت في نزوع قصصي واضح، ممّا أتاح المجال لظهور شخوص من الطبيعة تمنح أسئلة الشاعر زخماً دراميّاً وتعيد التوازن الفني للقصيدة وتؤزم من توترها الوجداني بعيداً عن المباشرة المألوفة. لعلّ هذا النزوع الدرامي حرر النصوص الشعريّة من الغنائية والخطابية ، وانتقل بها إلى أجواء الحكاية والمسرحية، حيث تعدد الشخوص وتوفر عناصر الحوار والحركة، وكثافة المجاز كما في قصيدة ( يأمرني الحزن فأصغي): يُضحكني حزني يضحكُ في رئتي النّاي ويُصغي للريح الهوجاء يلملم ضعفي يحسبني نبياً كي أقطفَ مُزني مُدُني ضاحكةٌ وتُغني والدربُ مليءٌ بالأحزانِ والقلبُ طريدُ ( الديوان، ص 43). فالتشكيل الدراميّ يتنافى مع الصوت الواحد، لذلك فإن تعدد الأصوات وحركتها سمة مهمة في النص الدراميّ الذي يسعى الشاعر من خلاله إلى بث أفكاره وتحقيق الانسجام بين المتناقضات ، فكانت الأنسنة للمعنوي جزءاً من شعريّة النص ودفقه الوجداني، كما في قوله: يضحك منّي الحزن ويسقيني بكفيهْ كي آوي إليهْ قد آتي صيفاً يا قاتلتي مع سرب حمامْ قد أحسو الغيمة في عطشي اسقيني من بركات الحزن قليلاً لا ليس قليلاً اسقيني كي يُروى الحزنُ بكفّي ( الديوان، ص45) وأعيش قتيلاً لعلّ هذا التآلف القائم بين الجانبين: البنائي والفكري جعل اللغة تسير في نسق تعبيري آخر، تتبادل فيه الألفاظ مواقعها وفق الحالة الوجدانية للشاعر وما يقتضيه الصوت الشعريّ من متطلبات بعيداً عن العبث اللغوي، أو التكرار الأجوف، بل نراه ينظم ألفاظه وفق نسق لغوي يعزز من النزعة الدرامية في النص ويعكس حالته النفسيّة القلقة، كما في فوله: يأخذني الحزن بعيداً ونهاري حين يناغي الصبحَ أعلّل ذاكرتي المهموزةِ مثل الخيل تنازل قاتلها فالمقتول أنا والميت أنا والقاتل في الحلم أنا وأنا السيف المثلومُ برقصة أنثى غجريّةْ ( الديوان، ص ص 46 ـ 47). لا يخضع للغة بمعناها المألوف، بل يُخضع اللغة لوجدانه الثائر، ويطوّع ألفاظها ، ويُجري تقديماً وتأخيراً مرة أخرى موازياً لإيقاع ذاته مفجراً طاقات دراميّة ذات بعد نفسيّ موغل بالمعاناة ، والشعور بالضياع. وقد تنشأ الحركة الدراميّة من تتابع الأسئلة ، وعمق مضمونها وذلك في قصائد طويلة توظف تقنيات السرد دون أن تفقد شعريتها وكثافتها التعبيريّة القادرة على استيعاب ذات الشاعر النازفة، كما في قصيدة ( سؤال الوقت) حيث يقول: يُفكّكني الصمتُ بطيئاً ينادمني الغياب لألهو على هامش الوقت ثوانٍ تغنّي وئيداً تمرُّ كأغنيةٍ للزفافِ ويحملها الوقت للقطافِ لماذا يمرُّ لماذا يفرُّ لماذا يثورُ بدون سؤالْ لماذا يمرُّ الزمان بطيئاً كسبع ٍ عجافْ يمرُّ سريعاً ( الديوان، ص62). في قصيدة ( صلاة المرايا) تبدو تقنية المونولوج الداخلي والمونتاج النصيّ واضحة بعدما أسند الشاعر ضمير الخطاب إلى ذاته، حيث الانطلاقة بأدوات الدراما التي ارتكز عليها سابقاً في بناء قصائده من حيث الحوار والصراع والمشهد والمونتاج السينمائي، ممّا يؤكد تطور أدوات الشاعر الأسلوبية وإفادته من الفنون الأخرى، حيث يقول: أبحثُ عن ذاتي أتسلقُ خيط النور لأعبر مرآتي عفواً مرآتكِ نافذة الصبر إلى قلبي جدراني الحمقى تصدمني أتمنّى موج البحر ليوصلني للشاطئ كي ألقي مرساتي( الديوان، ص125) دراميّة الشكل الفني في النص عكست ارتباطاً عضوياً وثيق الصلة بتجربة الشاعر الوجدانية، وقدرته على رسم ملامح واضحة لحالة الاغتراب والضياع التي يحياها ، حيث تبدو نبرة صوته واضحة في ظل تموّج الإيقاع الداخليّ ورسوخ الانفعال الذي أخرج السرد من رتابته وصقل الصور الفنية برؤى الفنان. ولا يختلف الأمر في قصيدة ( تشكيل) التي جاءت لوحة فنيّة فيها من التشكيل ما يعكس طبيعتها الجماليّة، وحواريتها العالية مشحونة بحركيّة ذات إيقاع حزين، حيث يقول: خزفٌ أنا فتشكلّي مثلي حماماً أبيضَ النسماتِ تُغرينَ المدى كمْ مرَّ طيفكِ في رحيق العمر شكّلكِ الصبا هذا أنا فتشكلّي ورداً بحجم طفولتي ما بين كفيكِ الربيعُ فشكلّيني( الديوان، 131) لقد جاء ديوان( قَلِقٌ أنا) راصداً لتجربة شعريّة ناضجة استطاع من خلالها عبدالرحيم جداية إكساب خطابه الشعريّ منحنى دراميّاً اتخذ فيه الشاعر موقع السارد للأحداث، مستعيناً بأصوات أخرى، ممّا يعني نجاح الشاعر في التحرر من القوالب التقليدية وقدرته على إبداع قصيدة توائم بين البناء الغنائي والبناء الدراميّ فضلاً عمّا حققته قصائد الديوان الطويلة من فاعلية الامتداد الأسلوبي القادر على استدعاء السرد والتناص وتفعيل الجوانب الحواريّة في البناء الشعريّ. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 19-05-2020 12:46 صباحا
الزوار: 729 التعليقات: 0
|