|
عرار:
أ. د. عماد الضمور/ أكاديمي أردني تندرج المجموعة الشعريّة « أحزان الفصول الأربعة « للشاعر الأردني نضال القاسم والصادرة عام 2019م ضمن نتاج شعريّ يُصعّد من حالة الوجد لدى المتلقي من خلال بنى تعبيريّة، وصياغة لغويّة تحاول إحداث نوع من الدهشة في وجدان المتلقي، فكان التركيز على المرجعيات البصريّة للتشكيل الشعريّ، حيث الاحتفال بتوظيف الأجناس الأدبية الأخرى، فضلاً عن الفن التشكيلي، والتقنيات السينمائيّة لبناء النص الشعريّ؛ لجذب المتلقي إلى منطقة الدهشة من خلال الصور الشعريّة والعنوانات الموحيّة. لعلّ أهم ما يُميّز ديوان «أحزان الفصول الأربعة» هو وفرة القصائد القصصيّة الطويلة التي تمتاز ببنيتها الدراميّة المتناميّة، ونزوعها إلى التجديد، إذ إن غالبيتها نابع من مرجعيّة وجدانية واضحة، وكأنّه يحفر في ذاكرة لا تنضب، حيث استمد قصص بعض قصائده من مشاهدات واقعية أو أحداث يومية، التقط نواتها من الحياة المعاصرة، مثل قصيدة «ميدوري» التي يصور فيها لقاء حواريّاً مع فتاة يابانية جسّد من خلالها بناء قصصيّاً ناضجاً، وقدرة عالية على التصعيد الدراميّ المنتج للمعنى، ممّا يجعلها تدخل ضمن ما يُسمى في علم الجمال النفسيّ بالهروب من الواقع إلى عالم الرؤى وتعدد وجهات النظر. جاء عنوان الديوان «أحزان الفصول الأربعة» أكثر احتواءً لعنصر الزمن وفاعليته على المستويين الفكريّ والفني؛ فهو زمن شمولي يضم فصول السنة الأربعة دون استثناء، وكأنه ينقلنا منذ العتبة الأولى لتلقي الديوان إلى تنوّع واضح لفصول السنة، وتعدديّة الأصوات داخل النص الشعريّ لتتوحّد جميعها بصوت القصيدة ودلالتها الفكريّة. إنّ اختيار نضال القاسم لعنوانات قصائده يخضع لنسق تعبيريّ، يسعى الشاعر من خلاله إلى استقصاء دلالات الشحن التأثيري الذي يُصيب النص، لتحصل عدوى المشاعر، ولو بكثافة متفاوتة، ممّا يجعل من هذه العنوانات أداة تصويرية، أو عاطفية، تنبض برؤى النص الشعريّة، وانفعالات مبدعه، وتحقق تعددية واضحة في الأصوات الناظمة لرؤى النص الفكريّة، وتجلياته الفنيّة، كما في عناوين قصائده: «كان طيفاً وغاب» و»أحزان الفصول الأربعة» و»لشتاء خيل الذاهبين إلى يبوس» و»أنا يا أبي كالمطر» و»ميدوري» و»الخيل والليل»». يذهب نضال القاسم في قصائد ديوانه بعيداً نحو الإيغال في الذاكرة ؛ لينتج نصاً أكثر قدرة على البوح، والكشف عن تفصيلات مدهشة بتقنيات جديدة تمتلكها القصيدة الحواريّة بعيداً عن صخب الواقع وانكسارته؛ لتتوهج الذات وتنبعث عبر مشهد سينمائي، تحضر فيه التفاصيل، وتنبعث معه الرؤى، كما في قصيدته «كلُّ شيء يذكرني بليلى» حيث يقول: كلُّ شيءٍ يُذكرُّني بليلى... الطريقُ المؤدي إلى بيتها المنزوي في السفوح جدرانهُ البيض خلف الظلِّ والزقزقات شرفته الصغيرة والأصص أثاثهُ المُهلهلُ أبوابهُ الموصدة مقاعدُ الإسفنج والخيزران ملاءةُ السرير والوسائدُ الزرقاءُ والستائر شُّباكُ غرفتها المضيء قطتُّها الأثيرةُ أزهارها الذابلة فالشاعر يلتقط صوت (ليلى) التي تغنى بها الشعراء القدماء، لكنه يبتعد عنهم في شعريّة التفاصيل المدهشة، إذ لم تعد ليلى المعاصرة هي نفسها ليلى القديمة، حيث يلجأ إلى وهج التاريخ هروباً من انطفاء الواقع. يواجهنا نضال القاسم في قصيدة «لشتاء خيل الذاهبين إلى يبوس» بنموذج حداثي لتوظيف واعٍ لأصوات تراثية ، تُعيد إلى أذهاننا الموروث الخصب الماثل بالكنعنة (فلسطين أرض كنعان) ممّا يُجسّد رسالة فكريّة مقاومة للاحتلال، سعى من خلالها إلى حشد أصوات تتشابك فيها الرموز وتتوالد معها الصور بكثافة تعبيريّة تُسهم في نمو الدلالة واتّساع المعنى متجهاً إلى أفق دلالي خصب، حيث يقول: على طائرِ الوقتِ يأتي حزيرانُ يبكي لأنَّا.. هجرنا فلسطينَ يوماً كفرخِ الحمامْ فيا كنعانُ قاوم ولا تجعل الصمت يكوي شفاه الكلام ويا جُرحُ هلِّل وكبِّر ولا تستكين وقاوم لتسقي زرعنا دمنا ليزهر ياسمين. فهي علاقة تنبني على اختيار الشاعر الواعي للصوت التراثي بما يخدم رؤيته الفكرية، وذلك في سيرورة فاعلة، تنبثق منها الرؤى، وتنتظم من خلالها الكلمات في نسيج كليّ متين، تصبح معه الشخصية التراثية أكثر خصوبة وشمولاً في النص الشعري المعاصر، يودعها الشاعر أدق تفاصيل تجربته، ويمنحها حرية التعبير عن عمق الفجيعة، ومرارة الانهزام.، كما في ختام قصيدته السابقة مخاطباً جده كنعان: لم تمت.. فيا كنعانُ قاتلْ فلقد رأيتك في السواحل تمنحُ الأرض التفاؤل قم لتحكي.. قم لترثي حالنا.. فلقد كتبتُ في سِفري رسالة راحلٍ ضمنتُّها .. طعم المرارة والتخاذل. تمتاز القصيدة ذات الأصوات المتعددة عند نضال القاسم بوضوح صوت الثورة والرفض والتمرد؛ لخصوصية المرحلة الحضاريّة، والرغبة في تفعيل دور المقاومة النضاليّ، وبيان دورها في معركة التحرير، إذ انطلق الشاعر في استدعائه لكنعان من موروث خصب، وصوت راسخ في المقاومة. وقد يتبدّى تعدد الأصوات في نصوص الشاعر من خلال ما يُعرف في البلاغة العربية بظاهرة الالتفات التي تتضمن في جوهرها الانتقال من ضمير إلى ضمير أخر، وبمعنى آخر من صوت شعري إلى صوت شعوريّ تتجلّى من خلاله الرغبة في التغيير، والابتعاد عن دائرة الأنا إلى صياغة رؤيا جديدة مفارقة لما استقر عليه الواقع، كما في نهاية قصيدته «أوديسيوس الجديد...» حيث يقول: هذا أنا !! قلبي تمزَّق واحترق إنّي صحوتُ حان الموعددُ!! صَفْصافتي ذَبُلَتْ ... وراحلتي لهيب النار فأنا هنا، لكنهم، أهلي هنالك في الحصار لُفّي ذِراعَكِ يا بلادي فوق جُرحي الطريّ.. إنّي عائدٌ .. سأكونُ ناراً أنا لن أطأطئ هامتي أبداً.. سأكونُ جبّاراً. حيث جاء الانتقال من ضمير المتكلم (أنا) إلى ضمير المخاطب (أنتِ) في قوله: (لُفّي ذِراعَكِ يا بلادي فوق جُرحي الطريّ) باعثاً على المقاومة، ومخلصاً لأوجاع متراكمة طالما استبدّت بأحلام الشاعر، وانهكت قواه. ثمة رجع قريب يُفصح عنه المشهد السينمائي في قصائد نضال القاسم، وبخاصة عندما يعمد إلى التكثيف الإيحائي، والوصف الدقيق لذكريات مضت، وروح ما زالت منتشيّة بماضيها، إذ يبلغ هذا الرجع ذروته في القصيدة متعددة الأصوات، حيث تتكامل العناصر البوليفونية ذات المنحى التصعيدي لحركة النفس ورؤاها العميقة، وبشكل يختلف عمّا ألفناه في الرواية ذات الأصوات المتعددة، كما في قصيدته (إنّي متعبٌ جداً) حيث يقول: في الذاكرة صوتٌ بعيدٌ موحشٌ ضوءٌ يملأ ُ البيتَ نوافذُ ناعمة عينان حانيتان لامرأةٍ مضت إلى السماء لو أنّها.. لكنّها... وأناسُ مكدودون كالأشباح في الطُرقات أسمعهم أنفاسهم حرّى يَدُهم تدُقُّ الباب لو أنهم.. لكنّهم... وقميصٌ ضيَّعته الريّحُ خلف المدى كان فضفاضاً وأخضرْ واختفى منذُ أن ضاعت بلادي لو أنه.. لكنّه.. إذ جاء صوت الشاعر أكثر وضوحاً وانفعالاً بالأحداث وتفاصيل المشهد، فهو صوت يتجه إلينا مباشرة متضمناً مستمعين حقيقيين، وشخوصاً باتوا بعيدين، لا يحضر منهم إلا الذكرى، والآلام الدفينة. وقد جاء تعبير الشاعر بالجملة الاسمية بإيقاعها السريع، واكتنازها بالعناصر الصوتية والدلالية، فضلاً عن تكثيفها الشديد، وذلك من خلال بنية دراميّة متصاعدة؛ فالصوت البعيد الموحش هو ذكريات راسخة ما زال أثرها عميقاً في نفس الشاعر، ظهر صداه في عيني المرأة التي صعدت إلى السماء، وفي وصوت الناس المكدودّين في الطرقات، وفي أنفاسهم الحرّى التي تطرق الباب، لكن هيهات دون جدوى. يواجهنا نضال القاسم في قصيدة (ميدوري) بنموذج متقدم للقصيدة متعددة الأصوات، والمنتجة للخطاب، حيث تتبدّى جماليّة الحوار مع الآخر، وافتنان الشاعر في بناء قصيدة دراميّة ذات طابع حكائي، يكتنه أسرار السرد، وينتشي بفعل اللقاء مع الآخر بلغة تترك المجال للنسيج النصيّ بأن يلتئم بعيداً عن محدوديّة الذات أو انكسار أفقها، حيث يظهر صوت الشاعر المنبثق من دواخله ليمهد إلى محاورة منتجة للشعريّة وباعثة لأصوات جديدة، كما تقديمه لهذا الحوار: في الطائرة في اندلاع الظهيرة والأستارُ مسدلةٌ والضوءُ ينسلُّ بين النوافذِ يلوح ُ ويأفلُ والدروبُ تغيبُ تبعثرتُ لما رأيتك مشغولةً حائرة كُنتُ وحْدي وأينعت في خاطري حكايةٌ جديدةٌ ومغامرة هذا المشهد الدراميّ المثير للوجدان والباعث على الحركة يمهد لانبلاج صوت جديد يدفع بالنص الشعري إلى الامتداد والانتشاء معاً، فالشاعر ما زال مبهوراً بجماليّة المشهد، يستعد للدخول في حوار استجوابيّ مع مضيفة الطيران اليابانية (ميدوري) حيث طال الانبهار بجمالها، والبحث عن كلام يُحيط بها، حتى استعاد صوته تماسكه: تهدّج صوتي، قلت: ما اسمك؟ قالت: ميدوري وماذا تعملين هنا قالت: مضيفةٌ في الطائرة قُلت: من أين أنتِ يا ساحرة قالت: من بلاد الشمس قلت: أليس من وقتٍ لديكِ. قالت: جدولُ الأعمال مزدحمٌ قلت: ليست مصادفةً أن نلتقي هنا وأن نحبّ وأن نغازل بعضنا قالت: هل كنت تحلم ذات يومٍ نلتقي، وما بيننا ألفُ ليلٍ وليل وكيف يمكن أن نحبّ وأن نغازل بعضنا في الطائرة قلت: يا هذه، الحبّ يأتي فجأةً، الحبّ يخترق الحدود العابرة وإذا كانت الدراما في جوهرها تعني الصراع الداخلي، فإنّها في قصيدة «الخيل والليل» ذات طبيعة خاصة، منتجة للعاطفة، والعشق الجامح لماضٍ لا يغيب، حيث يتجلّى حوار الشاعر مع أبيه الغائب أكثر نزوعاً إلى توليد الأصوات وإثارة العواطف، ومسرحة النص الشعري بشكل يكشف جمالية الشعر وحركيّة المسرح؛ فالشاعر يرتبط بوالده ارتباطاً عاطفيّاً وفكريّا مؤثراً، حيث نجح الشاعر في تشييد حوار روحيّ مع أبيه في حضرة الغياب: أنا أبي الجديدُ في خيال التائهين أنا العطورُ والظلالُ والألوان أنا الحضورُ أنا الغياب حكايةُ المنفى أنا بعد دهرٍ من الثُكلِ والاحتضار واللَّعنة الجامحة صورتك الجديدة في الجهاتِ التي لا جهاتَ لها وصوتك الغزيرُ في هدأة الليلِ بين الحقيقة ِوالحلمِ صوتك الذي اختفى وذاب صوتك الذي يملأ البيت بالميجنا والعتابا وترتجُّ منه القلوب صورتك المضيئة في فضاء الصهيل بعينين ذابلتين على رصيف الحلم ارتعاشةُ قلبك في عتمة الليلِ إذ يتعالى به النبضُ على غصون الانتظار لقد نجح الشاعر في ديوانه «أحزان الفصول الأربعة» في صياغة خطاب وجداني قادر على إثارة مكنون النفس وشحذ هممها ؛ حيث يبدو صوت الشاعر قويّاً ومؤثراً ، رسم من خلاله شكلاً فنيّاً يقوم على التعدد الصوتي في القصيدة من خلال نسيج دراميّ أظهر أصواتاً داخلية متصارعة تحاول في المجمل إبراز رؤية الشاعر الفكريّة التي تنبثق من بعد وطني نضالي عميق التأثير في المتلقي، وتمتلك من العاطفة والإيحاء ما يجعل من المستحيل ممكناً، ومن الذات بؤرة للانطلاق. المصدر: الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 05-06-2020 11:32 مساء
الزوار: 1019 التعليقات: 0
|