|
عرار:
أ. د. نايف خالد العجلوني يهيمن المكان، بكلّ أبعاده وتفاصيله المادية والتخييليّة، على ديوان «حضن الأفول» لسلطان الزغول. ولعلّ نظرة سريعة إلى عناوين القصائد، وقراءة أوليّة لها تكشفان عن كثير من ملامح هذه الهيمنة. بل إنّ عنوان الديوان المستوحى –فيما يبدو- من «قصيدة أيلول» يشير إلى هذا الربط الوثيق بين المكان والزمان في رؤية الشاعر: يحتضن المكانُ الشاعر، ويمكن للشاعر أن يتنفّس فيه الأفول، وأن يتمدّد في أرجائه. جدليّة الحياة والموت ترتبط إذن بالمكان على نحو وثيق. ويخبرنا الشاعر نفسه، في حوار صحفي، أنّ مكان النشأة، في أحضان الطبيعة في جبال عجلون وغاباتها، هو المؤثر الأبرز الذي يتدفّق بغزارة في شعره، بل إنه يعدّه أساسا متينا من أسس تواصله مع العالم. وأما المؤثر الثاني فهو مدينة اللاذقية على الساحل السوري. ويضيف مؤثرا ثالثا، وهو عمله مدرّسا في مدينة العقبة، حيث افتقد حضن الغابات والجبال. ومعنى ذلك كله أنّ الأمكنة التي ولد الشاعر ونشأ فيها تحتضن تجربته كلها، وتؤطّر أبعاد رؤيته للحياة والعالم. إذا كانت عتبات الأعمال الأدبية ذات أهمية خاصة في قراءة هذه الأعمال، فإنّ عتبة «حضن الأفول» تشير منذ البداية إلى تداخل عناصر المكان مع الزمن، وإلى إشكالية الحياة والموت. فالمكان يحتضن ساعة الرحيل والغياب (الأفول). تقول عتبة الديوان التي جاءت بمثابة «إهداء» إلى الأب: إلى أبي... رحل في الربيع عارفا تفاصيل العشب وأسرار الغيم فارتباط الأب بالمكان، كما هو الابن، ارتباط وثيق بتفاصيل مكان النشأة، « تفاصيل العشب وأسرار الغيم». وكما يعرف الأب أسرار الغيم على سفوح جبال عجلون، فإنه يعرف كذلك أسرار الأرض والتراب، إذ يتوحّد معها، ويلتصق بجذور الشجر: يتوحّد مع الأرض، و»يتنفّس المعنى الأول للعشب». صور تغور في أعماق المكان، وتشفّ عن نزعة رعويّة (pastoral) كامنة، تحنّ إلى براءة الريف وبكارة المكان، بعيدا عن أجواء المدينة الصاخبة: مات أبي.. بعد مئة وستة أعوام قضاها في الجبال وهو يحاول أن يُلملمَ الينابيعَ لتتدفَّقَ ضوءا يكشفُ أسرارَ الأرض.. أبي مات.. مضى كضوء شفيفٍ معلّق فوق رؤوس الأغصان فنما العشبُ من رجليه إلى أطراف الأشجار وسرت السنابل نحو صدره كذلك يبدو شيء من هذه النزعة الرعوية الريفية في قصيدة «رائحة الأم»، إذ تتماهى الأم مع عناصر المكان وروائحه التي لا تغادر أبدا. هكذا تظلّ صورتها محفورة في الأعماق، وهي تتفيّأ ظلال شجرة المشمش وتغازل أوراقها: أعيدُ لمشمشتي صوتَها طعمَها الحلوَ جذعَها يديكِ تراودُ أوراقها في المساء ورائحةً تعتريها كنتِ جلستِ على ظلّها سكنتِ الغصون وعدتِ بقلبي إليك يبحثُ عنكِ خلال الروائح يكتب رائحةً في القصيدة ليست من العطر ليست حريفة وليست شفيفة ولكنّها تعتريني إذا ما لمستُ الغصون خريفا ومن الطبيعي أنّ النزعة الغنائية الرقيقة في هذه القصيدة، كما في غيرها، تلائم النزعة الرعوية المشار إليها. إذا كنّا توقفنا في الفقرات السابقة عند هيمنة معالم المكان وبروز النزعة الرعوية في مجموعة «حضن الأفول»، وارتباطهما بصورة الأب والأم، فإننا نقف الآن عند هذه الملامح نفسها لدى الشاعر الابن، «سليل الكروم»، ورفيق الغيوم «على ضفاف الجبال»، وقد امتزجت روحه «بخرير الغابات»: أنا ابنُ رفيف أجنحة الغيوم على ضفاف الجبال أنا سليلُ الكروم المتَّكئة على السفوح صوتي صهيل الزيتون في أعنّة الوديان روحي امتزجت بخرير الغابات المغمورة بريح تشرين مُدوّخاً بروائح السنديان جئت ألاحِقُ الدحنون في سقوف الغابات أجمع حبّات البلوط.. أداعب الغيم ممتزجاً بنشوة الأقحوان جئتُ على فرس الترقّب أدْعكُ العشب ليطلع كانون.. وتمضي هذه القصيدة –وكثير غيرها- على هذه الشاكلة من الامتزاج الحميم مع جماليات المكان وتفاصيله الريفيّة الأخّاذة في ربوع عجلون وغاباتها. تجربة شعرية مجبولة مع عناصر المكان ومعالمه وروحه، ومجبولة مع تراب الأرض، وخضرة المكان العتيق: أتذوّق التراب أسأل البلوط مُتَّكَأً... يستأذن الغيومَ... ويحيطني بالأخضر العتيق.. ونجد في قصيدة «نيسانيات» مثالا آخر يؤكد علاقة الشاعر الحميمة مع المكان وعناصره، مرتبطة بحركة الزمن: الغيم، الفضاء، العشب، الفجر، الندى، نيسان، الأرض. تتكئ الصورة الشعرية في هذه القصيدة، كما في سواها، على تقنية تراسل الحواس (synaesthesia)، ما يساعد على خلق فضاء شعري مفعم بالجدة والدهشة: يشْرَقُ الشاعر بالغيم... فيشربُ الفضاء يتوضأ بالعشب ويريق بقايا البريق على الكلمات... يمسح أهداب الفجر ليوقظ الليل يدنو من رعشة الندى فيتفتح النهار يربط قلبه بخيوط نيسان فتفيض الأرض بالبهجة قد يكون من المناسب، في معاينة تجربة المكان في شعر سلطان الزغول، الإفادة من المقاربة الفينومينولوجية (الظواهرية) للعالم وأشيائه، إذ تركّز هذه المقاربة على النظر إلى العالم المعيش (lebenswelt) من خلال جدل الذات والموضوع. ولا تختلف هذه المقاربة عن مفهوم مارتن هيدغر «الكينونة في العالم» أو «الوجود في العالم» (being-in-the-world). تنفتح هذه المقاربة على طرق أخرى في المعرفة غير المعرفة العلمية أو الفلسفية. ففي المثال السابق نلحظ أنّ اندماج الشاعر مع فضاء العالم وأشيائه يصبح جزءا عضويا من تجربة عالمه الخاص كما يعيشها في لحظة زمنيّة معيّنة: «يربط قلبه بخيوط نيسان /فتفيض الأرض بالبهجة». وفي اللوحة الثانية من القصيدة نفسها «تزهر الغيوم» حين تشرق عينا المحبوبة: عيناك حين تورقان تُزْهِرُ الغيوم هكذا تندمج عناصر المكان والكون مع تجربة الشاعر الحيّة الفعليّة في عالمه المعيش اندماجا كليّا؛ وإنما يتحقّق هذا الاندماج من خلال الحدس والرؤيا والشعر. يسمّي الشاعر هذه اللوحة المكوّنة من سطرين شعريين «سرقة»، ربما لأنها تتناصّ مع قصيدة السياب المعروفة «أنشودة المطر»: عيناك حين تبسمان تورق الكروم نعم، إنها «سرقة مستحبّة»، إذ تَفِدُ أصداء مشبعة بالمكان والحب والمطر والأسطورة من «جيكور» إلى غيوم «عجلون» وغاباتها وناسها. من الطبيعي إذن أن يرتبط عالم المكان مع عالم الحب والمرأة في التجربة الحيّة المعيشة. فإذا كانت الغيوم، كما في المثال السابق، تزهر وتَعِد بالمطر والخصب حين تشرق عينا المحبوبة، فإنّ حالة حبّ أخرى تستدعي تدفّق عناصر الطبيعة في الجسد: غاباتٍ، وأنهارا، وعشبا: إذْ تتثنّى.. تعبرُ غاباتٌ في جسدي تتدفَّقُ أنهارٌ ينمو عشبُ يا موجَ البحر بصدر الفجر يا لَسْعَ الصبح بأوّل آذار يا وَلَهي.. كذلك من الطبيعي ألا تقتصر حالات الوجد والحب على جبال عجلون وغاباتها، فقد يصل فضاؤها إلى الصين، فتنضاف إلى صور الغيم والغابات صور الضباب الذي يلتهم مدينة «نانشنغ» ونهرها وبحيرتها، فتختلط معالم المكان وأجواؤه مع عالم الحب والمرأة والبهجة: كنتُ أعجُّ بالغيم يَلْبَسُني حتى أكادُ أن أمطرَ فتُمْطِرُني البهجةُ غيما على غيمي يتراكمُ الغيمُ فأزدادُ دفئا، أمشي دون مظلةٍ تدفعُ كتفي امرأةٌ بسيقان من البلّور الطازج تحيطني بالبهجة... تتساقطُ البهجةُ عن شمالي ومن فوقي.. ... ... ... ... وفي قصيدة «رائحة الجسد»، المكوّنة من ثلاثة مقاطع، يتماهى جسد المكان مع جسد المرأة في وحدة تقترب من مفهوم «وحدة الوجود» الصوفي: المرأة والطبيعة صنوان: الأنثى ربيع ليلكٌ وقرنفل سحابٌ من فوقه سحاب سحبٌ.. وغمام غمامٌ.. وشهب شهبٌ ووَجَل العالم والمرأة، في هذه القصيدة نفسها، عالم واسع فسيح، متعدّد، متجدّد، يضجّ بالعطر والعبير. وحديقة المرأة هي حديقة الجسد نفسها: الكرزُ الأحمرُ الذي انتظرتُه طويلا تفتَّحَ أبيضُهُ عن أخضر كثيف عاد لوزا في الربيع يا لِبستان الجسد..! لكن رؤية الشاعر للمكان والعالم ليست بهيجة دائما، فهي عرضة للتغيّر والتحوّل بمقتضى تحوّلات المكان والزمان في عالمه المحيط وفي عالمه الخاص. تتّضح هذه الرؤية القاتمة لعالمه المعيش الذي صار فيه المكان قاتما، إذ تحوّل إلى «جدار» عالٍ يحول دون الوصول إلى المحبوبة، وإلى النبع الصافي، وإلى عالم البراءة النقي: تلك الطريق إلى النبع انقطعت وتوارى النبعُ خلف الجدار لم يعد غيمُ نيسان يمسحُ روحي بالألفة نسيتِ الأزهارُ روائحَها صار الجبل أقلّ ارتفاعاً صار النهرُ أبعد صارت القهوة بلا طعم صار الحبّ بلا لون ويبدو أن هذه النظرة القاتمة للمكان –المدينة خاصة- تغلّفها صور البياض والموت، وتستمرّ في عدد من قصائد المجموعة المذيّلة بتاريخ عام 2016. وتتكشّف هذه الرؤية المتحوّلة إلى المكان في القصيدة الأخيرة في الديوان التي يتناصّ فيها مع تجربتي أمل دنقل ومحمود درويش في جدل الحياة والموت. ومع أنّ النظرة القاتمة للمكان والواقع العربي تهيمن على جوّ هذه القصيدة وقصائد أخرى تمت الإشارة إليها، إلا أنها تنتهي بنبرة من الحب والتفاؤل. يقول الشاعر في مخاطبة دمشق، بوصفها رمزا أصيلا للمكان العربي وتاريخه المستمر: أيا دمشق توضئي كي نكتب الورد الأليف على دروب الصالحين ونستفيق على الصباح بقبلة أو قهوة ترنو إلى نظراتك الحبلى بوعد الحبّ يا حبَّ من ساروا إليك محبةً وتطهّروا كي يكتبوك قصيدة خضراء كم مسّها ببياضه الموت الأليفُ ولم تمت أبدا ولكن... لن تموت. المصدر: الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 05-06-2020 11:55 مساء
الزوار: 1314 التعليقات: 0
|