|
عرار:
إبراهيم خليل أبحاث في الأدب الأندلسي هذا هو عنوان الكتاب الذي صدر مؤخرا للدكتور صلاح جرار أستاذ الأدب الأندلسي في الجامعة الأردنية. وهذه الأبحاث منها بحث يتعلق بشاعر أندلسي قديم خامل الذكر، مغمور الاسم، يكاد لا أحد يسمع به أو بشعره. وهو الشاعر إسماعيل بن بدر القرطبي. فأول من أورد اسم هذا الشاعر، وعرف به، وذكر شيئا من شعره ابن فرج الجياني في كتابه الموسوم بالحدائق. ومع أن هذا الكتاب لم يزل طي الفقدان، إلا أن الباحث لم يفقد الأمل في أن يجد شيئا عنه في غيره من الكتب. فقد ذكره ابن الفرضي، والحميدي، والضبي، وابن حيان، وابن الأبار، والذهبي في سير أعلام النبلاء، وآخرون. وهذا الاسم (إسماعيل بن بدر القرطبي) لفت نظر الباحث فشرع على عادة المعنيين بالأدب القديم وأعلامه يسعى لتكوين صورة ما عن هذا الشاعر، وشعره، لا سيما وأنه يكاد يكون مجهولا لدى كثيرين من المتخصصين، حتى إن إحسان عباس الذي له الباع الطويل في الدراسات الأندلسية لم يشر لهذا الشاعر في كتابه القيم تاريخ الأدب الأندلسي- عصر قرطبة. ولم يذكره على الرغم من أنه أفاض في الحديث عن شعراء عصري الإمارة والخلافة، وترجم لغير قليل منهم، مما يؤكد أنه كان يجهل وجود هذا الشاعر القرطبي. ومن الخطوط والظلال التي ترسم لنا صورة هذا الشاعر الشيوخ الذين تتلمذ لهم، وأخذ عنهم، وهم كثر. فقد برع في غير علم من حديث، وفقه، وتفسير. إلى جانب علمه بالشعر، ونظمه. وكان قد عاش في زمن الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر(300- 350هـ)، ووليّ عهده الحكم المُسْتنصر(350- 366هـ). ومن المؤكد أنه كان الأثير لدى ولديْ عبد الرحمن، مفضَّلا لديْهما. وعلى رأي الحميدي، وابن حيان صاحب المقتبس: إن إسماعيل هذا اختص بمدح الخليفة الناصر، وولديه، وأسندت إليه وظائف سامية. من ذلك ولاية إشبيلية، ورئاسة ديوان المواريث، وعين واليا على شَذَوْنَة سنة 324هـ . وأيا ما يكن الأمر، فإن الذي يهم الباحث- ها هنا - هو شعر القرطبي لا قربه من هذا الخليفة أو ذاك. فقد رُوي أنه كان من المتقدمين في بلاط الناصر، ونوه الحميدي في المقتبس بشهرته شاعرًا، أديبا، لامع الذكر، واسع الصيت. ويقول ابن الأبّار في الحلية السيراء: « وهو أحد المُكثرين « ويضيف ابن الفرَضي في تاريخ علماء الأندلس: « إن صناعة الشعر غلبت عليه، وطارت باسمه « وهذا يعني أنه في عصره كان مشهورًا لا مغمورًا. ووصف بعضهم شعره بالسحر الحلال، لما فيه من الجودة، والجمال. وشاعرٌ كهذا جدير بالجهد المبذول للتعريف به، وبشعره. فموضوعات هذا الشاعر لا تختلفُ، ولا تتباين، عن موضوعات الشعر الأندلسي عامة، فعلاوة على مدحه الخليفة الناصر، والمستنصر، نجد لديه عناية بوصف الورود، والرياحين. وتوجد في أشعاره المتبقية مقطوعات غزلية تنمُّ على رقة الحاشية، ورهافة الحسّ، في رأي المؤلف، وإن كنا لا نؤيده في هذا، ومن ذلك ما يورده من عطائه متغزلا: كيف ترى شوقي وتعذيبي يا غايةً في الحسن والطيب إن الذي قال عليّ العدى إفكٌ كمـــــا قيـل على الذيب يا يوسفَ الحسْنِ ألا رَحْمة تكشِفُ عني ضــُـرَّ أيــــوبِ ومن اللافت أنّ هذه الأبيات تفصح عن طابع الشعر في عصره، فهو يشبّه ما قيل عنه بما قيل عن ذئب يوسف، و الحبيبة من حيثُ الحسن بيوسف الصديق، وصبره على آلام الحب بصبر أيوب. هذا هو إسماعيل بن بدر القرطبي إذًا. شاعرٌ مخضرمٌ عاش في عصري الإمارة، والخلافة، الأمويين في الأندلس. وشعره سواءٌ أكان في المديح، أو الغزل، أو الوصف، لا يشذ عن نظم الأندلسيّين، بما يوليه هذا النظم من ضرورة التشبيه، والاقتباس، والتضمين، والإفراط في المُحسنات، والبديع. وهي في مطلق الأحوال محسناتٌ شاع استعمالها، وتداولها، لدى الأندلسيين كثيرًا، وحظه من الابتكار فيها أقلّ من القليل. ومن فصول الكتاب التي تسترعي الانتباه الفصل الموسوم بعنوان « دلالات اللون الأحمر في مملكة غرناطة النصرية، وانعكاساتها في الأدب الأندلسي «. وابتداءً يلاحظ القارئ في عنوان الفصل شيئا من الغموض، فهو إذ يوحي بتتبع الباحث لدلالات اللون وإيحاءاته وظلاله شعريا في مملكة غرناطة بين عامي 635 و 897هـ فإذا به يسعى لاستقصاء الأسباب التي حالت دون وصف ملوك غرناطة في تلك الحقبة ببني الأحمر، أو الأحامرة، مع أنَّ مؤسس الدولة محمد بن يوسف بن نصر(595- 671هـ) عُرف والده بلقب الأحمر. ولذلك من الطبيعي أن يسمى ابناؤه وأحفاده بأبناء الأحمر، بيد أن هذا – وكما تثبت الدراسات القائمة على التقصي في المصادر - شيءٌ لم يكن، بل الذي كان هو نسبتهم لبني نصر، ويلقب الواحد منه بابن نصر. والغريب، اللافت للنظر، أيضاً، أن هذا العزوف عن لقب بني الأحمر أو ابن الأحمر اقتصر على من هم داخل ممكلة غرناطة. إذ يشير د. صلاح لتكرار ابن الأحمر وبني الأحمر في مؤلفات دُوّنتْ، وجرى تداولها، إما في كورة أخرى غير غرناطة، أو في برّ العدْوَة بالمغرب. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يتواتر استخدام هذا اللقب عند ابن سعيد المغربي في حُلى المَغْرب كثيرا. وفي كتب ابن خلدون. ومن هذا نستنتج أنَّ الملوك النصريين في غرناطة كانوا يحظرون تداول هذا اللقب، ويفضلون عليه لقب بني نصر لغاية في نفوسهم، وهي الاعتزاز بانتسابهم لسعد بن عبادة الأنصاري(توفي 14هـ). فهو نسبٌ يكسبُهم الشرعية السياسية في بلدٍ مُضْطرب. وقد سلك المؤلف هذا المسلك، وانتهج هذا النهج، في معالجته تسمية قصر الحمراء بهذه الاسم، نافيًا أن تكون لهذا الاسم علاقة مباشرة أو غير مباشرة ببني الأحمر. لا سيما وأن بناة هذا القصر وجدوا قلعة في الربوة ثم زادوا عليها زيادات، وربما كانت هذه القلعة تحمل اسم القلعة الحمراء، فسمي القصر بذلك. وكنتُ في ما مضى من الزمن قد قرأت في كتاب عن حدائق جنة العريف، وأروقة الحمراء، ذكر فيه المؤلفُ- وهو أجنبي- أن تسمية القصر تعزى إلى الحُمْرَة التي تغلب على الربوة التي بُنيَ عليها ترابًا وحِجارةً. أما الراياتُ الحُمْر – فربما اختير هذا اللون من باب المغايرة لسواد الرايات التي اتخذها بنو هود موالاةً للعباسيين. وقد ذُكر لون الرايات الحمر في شعر الأندلسيين كثيرًا من غير دلالات، أو إيحاءات تتخطى تحديد هذا اللون. وهذا بالطبع يؤكد أن العنوان لا يتناسب مع هذا المحتوى. فذكر الشاعر لون الراية، وأنه أحمر، أو أصفر، أو أخضر، لا يحمل- في ظننا- إلا الدلالة ذاتها التي يعبر عنها هذا اللون، وليس في ذلك ما يُنْسب للتفَنُّن.إنما الذي كنا نتوقعه هو أنْ تكون لهذا اللون دلالاتٌ أخر، كالتعبير عن الغضب، أو الموت، أو أي شيء آخر، كالذي نجده في قول عمْرو بن كلثوم: بأنا نوردُ الراياتِ بيضًا ونُصْدرُهنَّ حمرًا قدْ رَوينا فهي حمرٌ لأنها تصطبغُ بدم الأعداء. واللون الأحمر في العربية له دلالاتٌ جمة، وإيحاءاتٌ كثيرةٌ، فقولهم « حمر القسيّ « معناه أنهم كثيرو القتال. و» احمرّت الحدق « أي حمي الوطيس. قال الشاعر : هلا سألتِ بني نبهانَ عن نسبي عند الطعانِ إذا ما احمرَّتِ الحَدقُ و» الطعنة الحمراء « هي النافذة التي يندفع منها دم القتيل كالشؤبوب. و» العين الحمراء « هي التي لا تهادن، ولا ترحم العدو، ولا الصديق. و» حُمْر اللثات « أي كريمو المحتد. و» السحاب الأحمر « هو الذي لا غيث فيه ولا مطر، وإنما الصقيع والجفاف. و» احمرّت آفاق السماء « اشتد فيها القرّ مع غياب الأمطار. و» الموتُ الأحمر» هو الموت في ساحات الشرف، و» القباب الحمر « كناية عن الزعامة، والرياسة، قال الأعشى، ورويَ البيتُ لعبيد بن الأبرص: أهلُ القباب الحُمْر والـ نّعم المؤمَّل والقنابل(1) ويولي المؤلف التعبير الأخير « القبابُ الحُمر « كبير عنايته، وجلَّ اهتمامه، جاعلا من ذلك معيارًا على تأثير اللون الأحمر في الجماعة الأندلسية عامة، والنصرية بصفة خاصة. وهذا ضرْبٌ بعيد من الظن؛ ذلك لأن القباب الحمر تعبير شائع منذ القديم، ولا تختصُّ به جماعة من الناس أندلسية أو غير أندلسية. والمؤلف يعرف أن النابغة الذبياني، وكان ممن يُحكـّمون في الشعر، ضُربت له قبة حمراءُ من أدَم في سوق عكاظ. ولا شك في أنه يعرف أن (مُضَرَ) وهي من أكثر قبائل العرب حسَبًا تعرف بمضر الحمراء نسبة للقبة الحمراء التي ضُربت على أبي إياس سيد القبيلة، مثلما جاء في قصص العرب. وكنا نتوقع أن يجيبنا المؤلف، وهو قادرٌ على ذلك بلا ريب، ما الذي عناه ملوك غرناطة باتخاذهم اللون الأحمر لونا مميزًا للورق الذي يكتبون فيه رسائلهم، ومراسيمهم، دون غيره من الألوان. فالذي يتضح من البحث أنهم كانوا يلتزمون باستخدام هذا النوع من الورق الورديّ، أو (القرمزي)(2) وما جاء في البحث عن تفنُّن الشعراء في وصف هذا الورق فيه شيءٌ من المبالغة، فما عسى أن يتفنن فيه الشاعر، وهو يصف القرطاس بالأحمر، وأنه لا أبيض، ولا ما يحزنون؟ وتأكيد المؤلف على حقيقة أن ملوك بني نصر كانوا يكاتبون ملوك عصرهم في الجوار بورق أحمر، وأنهم كانوا يستقبلون وفودهم وسفراءهم في قباب حمر، لا بيض، ولا سمر، في المناسبات، فهذا كله لا يشفّ عن دلالات جديدة لهذا اللون، وإنما يقرر حقائق تاريخية لا نشك في أن الباحث يعيد التأكيد على ما فيها من خيار لوني، لا أكثر، ولا أقلّ. والخلاصة أنّ المؤلف التزم بغايته من البحث، وهي تسليط الضوء على ما في تاريخ بني نصر – ملوك غرناطة - من صلة باللون الأحمر، ولم يتجاوز غايته هذه لتقصّي دلالات هذا اللون في الشعر الأندلسي، وفي هذا يتجلى فضله. هامشان: 1.للمزيد انظر كتابنا ألفاظ الألوان ودلالاتها عند العرب، ط1، عمان: دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع 2021، ص 49- 52 2.يذكر أن الإسباني أنطونيو غالا كتب رواية عن آخر ملوك غرناطة ومذكراته المتخيلة بعنوان المخطوط القرمزي، وقد ترجمها للعربية رفعت عطفة، وصدرت بدمشق. انظر كتابنا ظلال وأصداء أندلسية في الأدب المعاصر، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، ط1، 2000 ص 118- 126 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 10-09-2021 08:07 مساء
الزوار: 974 التعليقات: 0
|