انتصار عباس احتشد كتاب «ديوان البيسان» الشعري الصادر عن دار الغرير للطباعة والنشر للشاعر نايف عبد الله الهريس بقصائد استفاضت بحساسية الحب والانتماء، وهي تقدم الموروث الخصب للغة والتراث والشعرية بحيث أمطرت الصور بالمعاني البهية لتحاكي روعة اللغة العربية (لغة الضاد) وتميزها وجماليتها على صعيد اللغة والصورة والإيقاع: بالدين والعلم تسمو الضاد وبالأدب والانتماء عرين اللفظ للنجب ومن أراد بلوغ المجد أسكنه قنديل علم إلى العلامة الأرب إذ تجلى البعد الديني والحس الصوفي الروحي لدى الشاعر، فجاءت القصائد تنسج لبنتها من هذا الفائض الحسي في مدح الرسول والاعتزاز بالموروث الديني والقيم والفضائل: «أتى من سماء الحق للأمم رسولا بدين بارئ النسم كشمس تبث النور في خلق شعاعا أضاء الكون بالقلم « نبضت القصائد بالبعد العروبي والقومي والوطني وتغنت في عشقها للعروبة والمدن وكرم الأخلاق التي تميزت بها والسمو ورفعة العلم والرقي فيها، فضلا عن التطور والحداثة والجمال المتأصلة في تلك المدينة فكانت «دبي» ملاذ الشاعر ونبع هذا الفيض والدفق: دبي نزلت من كون خالقها بوحي من الأفكار نزلها ومسبار فذ العلم شخصها صروحا سما العلياء أصلها ورمز العطا أيدي محمدها أشادت من الأنوار هيكلها» واستفاض الحس العربي لدى الشاعر فتغنى في مدن عربية أصيلة مثل القدس وعمان ومصر والجزائر، مقترنة بصور الكرم العربي والجمال والأصالة حيث يعتز الإنسان بعروبته وانتمائه للوطن العربي الكبير وقد توهجت المشاعر: تألقت في أنسي وإنساني بعمان بر النفس ينساني وروحي تفادي الأرض في بدني وفي عشقها وضأت إيماني فقد تمازجت القصائد بإيقاعها الموسيقى والحس الجمالي فجاءت نابضة بالعذوبة وقد تلونت الفضاءات الشعرية وحلقت الصور ترنو الجمال والحب. امتازت اللغة لدى الشاعر بجزالة الألفاظ ومتانتها وقوة تماسكها الصوري والبلاغي والتشكيلي، فجاءت متوهجة تنبض بذائقة فنية عالية مترعة بالخصوبة والجمال وهي تتألق بالنسق الشعري المتدفق بالمعاني والصور، حيث مازج الشاعر ما بين المهجور من اللغة والمألوف لتخرج قصائد منسجمة تفردت في الإيقاع الشعري والمضمون: سقتني الهوى والقلب كان ظمي وعيني بسهد العشق لم تنم دعتني لحب جاء يوقظني من الهم حين اغتم بالألم « تفرد الشاعر في أسلوبه الشعري المعاصر الذي حاكى التجديد في الموسيقى النابضة في القصائد الملتزمة بالفن القديم، وبين اشتقاق بحر شعري جديد يسميه (البيسان) وهو بحر استحدثه الشاعر وأطلق عليه هذا الاسم تيمنا بمدينة بيسان الفلسطينية: أفيقي هواي فيك قد أرقا بطيف خجول مر وانطلقا جرى في ضباب للحبيب جوى يحاكي سنا الأنوار والأفقا» تنوعت البحور الشعرية في الديوان الذي ضم مجموعة من القصائد عبقت بالحس الإنساني والوطني واستفاضت بالحب والمشاعر المتدفقة، وقد حملت عناوين مختلفة ومتنوعة دلّت على مكنونها بقيمة دلالية وسيميائية عميقة ومتشظيّة، فكان منها (الرسالة، خير الأنام، رسول الرحمة، دبي، عين القدس، ربة عمون، هنا مصر، كرامات العرب، البو سعادة، إمارات الحضارة، الحقود، الشيب حك ظهري، عمان أيقونتي، الجوع يتقد، صدود العمر، جنة العشاق، من علمني حرفا)، في حين تكررت المعاني العميقة الدالة على الأصالة والرفعة والانتماء إلى الأرض والتاريخ والوطن الكبير: دمانا بطين الأرض تنجبل لها في كرامات العلا مثل تناجي عرين المجد في وطن لناس بوقع النقع ترتجل تنساب المشاعر رقراقة وقد ارتبطت بالأصالة والأرض والتراب والعروبة والحس الديني بلغة شفافة تستعين بالموروث الديني والأصالة العربية. انزاحت بعض القصائد تغزل من وميض قلبها حكايا الحب تنثر عطرها وبوحها، وتستعين بالرؤية الشعرية الكامنة في روح الشاعر وثقافته وخبرته وتجربته الوافية في الحياة، وهو يستدعي الحبيبة الغائب ويغريها بالتوحد في فضاء هذا الحب السماوي: «جنة العشاق قلبي مفتاحها فادخلي واستوسدي في أقيالها واسهري في أمسيات الكيف التي خمرت نشوى تناغي ثمالها» وجدف الشاعر ببحوره الشعرية بين البيسان والطويل والخفيف و المتئد والمطرد والمنسرد، كي يحصل من هذا التنوع الإيقاعي الجميل على حصيلة شعرية وفيرة وكثيفة ومكتظّة بالمعاني والدلالات القيمة: «عزيز النفس من يخطو للمعالي مهاب جانح عن سوء الخصال صدوق صادق لا يغريه جاه قنوت نوره مزلاج العدال إنّ الشاعر في مجمل قصائده ينطوي على تجربة غزيرة في الحياة تنمّ عن وعي ومعرفة وخبرة وحساسية عالية، فهو يعرف كيف ينتقي مفرداته، وكيف يطوّع هذه المفردات لتنسجم مع موضوعاته الشعرية بما يخلق صوراً رائعة ترتفع إلى مرتبة الجمال والرقّة، إذ على الرغم من بساطة مفرداته الشعرية وعفويتها غير أنها تأتي مثقلة بالشعرية التي تستمدّ روحها من التراث الشعريّ العربي في مختلف عصوره، فهو شاعر عارف بحدوده الشعرية ويتحرّك في فضاء شعري ينهل من ينابيع السحر والجمال ما يشاء بلا تكلّف ولا تمحّل ولا خلل.