مجدي دعيبس في «أكذب مثل التفاح» يمشي عيد بنات على حافة واد متعرج وسحيق، الجمهور ينظر إليه من قاع الوادي، يرفعون رؤوسهم للأعلى، يحبسون أنفاسهم ويتساءلون: كيف له أن يمشي بثبات على الحصى الصغيرة في هذه الدرب الضيقة والخطرة؛ يمكن أن تنزلق قدمه ويهوي في أي لحظة الآن، لكن العرض ينتهي ويحافظ الشاعر على ثبات قدمه حتى خط النهاية. هذا ليس مشهدًا في فيلم أمريكي تابعته في سهرة البارحة، بل هو ما شعرت به وأنا أقرأ المجموعة الشعرية «أكذب مثل التفاح» لعيد بنات والصادرة عن خطوط وظلال للعام 2021. كنت أتنقّل من قصيدة إلى أخرى وانتظر سقوط القصيدة في غياهب المعنى الذي لا يعلمه إلًا الشاعر كما يحدث أحيانًا في بعض نماذج قصائد النثر. صور مباغتة ترفض الانقياد للسائد والمألوف وتبحث عن فضاءات طازجة من الابتكار والاختلاف في البناء والشكل والإيحاء وآلية الفعل المتأتي من انزياح لغوي غير منفلت بل منتظم في مسار مبيّت ومدروس. يقول في قصيدة «وجه ناقص»: كل ما حدث/ أن الرسام أخطأ في النحو اللّوني/ نسي أن يرسم السماء/ وأن يضع المقعد في زاوية الغرفة/ كان أميًّا في خلط الألوان/ لا يعرف لون الحزن في تلك العينين/ لذلك أشاح باللون عنهما. وفي قصيدة «أسئلة يابسة» يقول: لا أعرف كيف تنام الفراشة/ فوق سرير الريح/ لكنني أسمع تزاحم الشهوة/ عند إناث الأقحوان! لم يعتمد الشاعر كليّة على جمع المتناقضات في صوره كأن يقول الثلج الساخن أو الشمس الباردة أو غموض واضح وهي طريقة نمطيّة لتركيب الصورة بأسلوب تبادل معطيات الحواس، بل بحث عن شخصية لقصائده من خلال اجتراح بصمة يصعب تقليدها كأن يقول: امسكوا الكلام الخائف من أطرافه/ كي لا يطير. وفي موضع آخر يقول: أنا رمل غريب يغفو على النوافذ/ وفوق الأسرّة وفوق العناق/ سأطوي لكم الخريف مثل منديل/ وألقيه مثل خيبة صفراء. وفي قصيدة «أصابعي نحيلة» يقول: أمشي على أصابع قدمي لأجمع الهمس اللذيذ/ الذي تساقط من فمها على سجّادة البيت. لا ينفك عيد بنات يفاجأ القارئ في بنية القصيدة فترى أصص النافذة ولا ترى النافذة ذاتها، وترى أكرة الباب ولا ترى الباب، ناهيك عن العتبات التي قد تتسامق في علوّها لتصل إلى غيوم السماء. يعشق عيد إعادة هندسة النظام وتحويله إلى نظام مختلف يميل إلى فوضى مؤنسة وفوضى مسليّة للوصول إلى مرامي القصيدة وحالة الإدهاش التي ترافقها. يعتمد بنات على شاعرية الفكرة؛ فيطغى المعنى البعيد على القريب وتتظافر الصور لبناء هيكل القصيدة. في «جسد مثقوب» أراد الشاعر أن يتحدث عن النساء اللواتي دخلن حياته وأصبحن الآن على رفوف الذاكرة المغبرّة. يقول: يمرّ الناس مني/ كل يوم/ يدخلون إلى جسدي/ ثم يخرجون/ منهم من يبقى/ ومنهم من يترك أشياءه/ ولا يعود../ سيدة لا أذكر اسمها، لكنّ رنينها الأنثوي/ ما زال يقطع مسافات شاسعة في جسدي/ وما زالت حتى الآن كلما غبت../ تطفئ الليل وتوقظني. يتابع الشاعر الحديث عن نسائه حتى يصل إلى المقطع الأخير: ثم تركتني وحيدًا/ وتركت أبواب جسدي/ مشرعة/ للريح. وهنا يجب الانتباه إلى العنوان الذي يضع حجر الأساس للقصيدة وبدونه لا تكتمل الصورة ويصبح البناء مشوّهًا بشكل قبيح، وليس كما يفعل بنات في تفكيك طوب ناطحات السحاب ورصف الشوارع والساحات به، فيشعر القارئ بغرابة فريدة، ولا يتبين إن كان قد صعد إلى الناطحات أم نزلن إليه. ومن الأفكار النائية التي هجّنها الشاعر لخدمة بناء قصيدة مختلفة ما جاء في قصيدة «أدوات»: أصحو/ من النوم فارغًا/ أبحث عن عبوة الفرح/ لا أجدها.../ أقلّب العبوات المنتشرة على الرفوف/ أقرأ ما كُتب عليها:/ حزن خفيف/ حزن غامق/ حزن طويل/ أمدّ يدي/ أتناول عبوة/ مكتوبًا عليها:/ بلادة/ أتجرّعها ثم أمضي. باب تنويع البناء لجأ الشاعر إلى المفارقة الطريفة التي ختم بها القصيدة كما جاء في «هندسة الأحلام»: في الليلة السابقة/ وضعت يديّ بكل رفق/ فوق السرير/ تركتُ رأسي مفتوحًا/ ركنت إلى جانبه/ قليلًا من الأحلام/ التي لم تستعمل بعد/ وأغلقتُ عليه الليل/ حينها/ دخلتُ في أرض غريبة/ كنت أحاول/ أن أقطف التفاح اللامع/ من بستان حالك/ حينها صاحت بي: يداك تفتحان أزرار قميصي. «جمهور من الوهم» قصيدة في خيبات الحياة التي لا تنتهي، فيها من الحنين والشكوى والألم، وفيها من السيرة الذاتية لشاعر يبحث عن جمهور يقرأ الندم والحسرة في شعره ولا يصفق بعد قصيدة حزينة بل يتمايل مع أنغام قصيدة منفلتة من ألحان القصائد المملة، أو يقهقه مع الفتى الذي نام يومًا كاملًا وظنّ أنّ الشمس توقفت عن العمل كما تفعل ساعة الحائط عند نفاد البطارية. يقول: أنا لست ظلًا للكلام/ أنا لمسة صغيرة/ جفّت على توتة أمي/ حين تركت أصابعي النحيلة/ قبل خمسين عامًا على خدّها/ وعلقتُ صوتي فوق جدائلها/ أنا الشاعر الذي يرى/ الشجر يضحك/ ولا أعرف لمن يضحك. يتابع الشاعر سرد أناه والخوض في مفاصل حياته حتى يصل إلى المقطع الأخير: وماذا لو كانت وجوهكم لي/ وكنتم أنا/ ماذا لو توقف صوتي/ ولم أجدكم/ وتركتُ القاعة مذعورًا/ لأنني/ لم أجد أحدًا سواي! «جمهور من الوهم» من القصائد الطويلة في المجموعة التي مالت معظم قصائدها إلى التكثيف، وتراوحت بين التّوسط أو القصر من حيث الطول، وقد اعتمدت القصيدة مدار الحديث على البوح وكشف جوّانية الشاعر من خلال تكرار لفظة أنا. الشاعر عيد بنات يسعى لطرح رؤيته الخاصة في قصيدة النثر من خلال تحميلها تجارب الحياة القاسية وخيباتها المؤلمة، واستحضار تلك اللحظات الجميلة التي ما زالت تتراءى له مثل حلم يقظة لذيذ ما انفك يتوالد كل يوم.