جماليات الانزياح في ديوان«نبض القصيد» للشاعر علي غبن
عرار:
محمد رمضان الجبور كيف لنا أن نقيس نبض القصيد في ساحةٍ امتلأت بالغث أكثر من السمين، كيف لنا أن نقيس نبض القصيد بعد أن فقدنا لغة الأوائل.. هل هذا ما أراد قوله الشاعر د. علي غبن في عنوانه لديوانه (نبض القصيد). والديوان صادر عن دار العنقاء للنشر والتوزيع عام 2021 م، وقد طُبع بدعم من وزارة الثقافة الأردنية مشكورة، وقد أهداه الشاعر إلى والديه، اللذين تُحلق روحهما حوله في كل وقت... إلى زوجته وأبنائه.. إلى الأصدقاء....» وقدّم للديوان الشاعر علي الفاعوري الذي عنون تقديمه بـ «عرفتُهُ ذات شِعر» «بدأنا نقترب أكثر.. لأن مغناطيس الشعر وكاريزما الشاعر عند علي غبن لا تدع لك الكثير من الفرص للهرب. لأن عذوبة ما يتساقط عن شجره الوارف يغريك بأن تبقى... فتبقى حتى تتورط « الديوان ص6 وقدّم الناشر والشاعر زياد السعودي شهادته «الشاعر ركب بحور الشعر ورقص تفعيلات حره وراح يحقن مضامينه وفق أغراض قصائده...» الديوان ص 8 يظلّ العنوان «نبض القصيد» الباب - ولا أقول العتبة - الواضح والواسع لدخول المتلقي إلى حدائق د. علي غبن، فقد استعار الشاعر عنوان ديوانه من عنوان قصيدة من قصائد الديوان، وهذا العنوان لا يخلو من الشاعرية والانزياح ومن الدلالات التي أرادها الشاعر والناقد د. علي غبن، والمتصفح لديوان «نبض القصيد « يرى أن الكثير من القصائد تم بناء عناوينها وجاءت تحمل انزياحات بلاغية متنوعة بعضها قائم على التشبيه وأخرى على الاستعارة والكناية، فمفردة نبض توحي بالحياة وهي التي من خلالها نستطيع تميز الحياة من الموت، فهل أراد د. علي غبن وهو الشاعر والناقد أن يوجه رسالة من خلال هذا العنوان، الإجابة نجدها في قصيدة الشاعر التي عنونها بهذا العنوان «نبض القصيد « خاطبتُ/ نبض قصيدتي بقصيدتي/ وسألتُها:/ ما حالها/ ما بالها/ وعلام ترتبك الحروف/ إذا تهادت إلى البديع/ وكان فيه مآلها/ ووقفت أنتظر الجواب/ فجاءني/ صوت القوافي الصائحات/ من الغياب/ إن كنت تعلم/ ما الجواب/ فما يفيد سؤالها/ ص 69 (الديوان) ويتابع الشاعر قصيدته ممجداً للغة العربية، مفتخراً بلغته فكلماتها كالملكات، وكالأنثى التي تُطُّل من علٍ، ويتناص مع معلقة (أمرؤ القيس) عندما أراد أن يتغنى بأمجاد اللغة العربية «وذكرتُ/ أيام الزمان الأولِ/ يا أيها الليلُ الطويلُ/ ألا انجلي/ مُتطيباً/ بين الحروف/ نهضتُ/ من بين القوافي/ والخوابي كالنبي» (الديوان ص 73) كثيرة هي الكتب والدراسات الأسلوبية التي تناولت مصطلح الانزياح، ويظل تعريف الانزياح ببساطة هو الانحراف والبعد عن الشيء، وفي الاصطلاح هناك الكثير من التعريفات للانزياح عند النقّاد والأسلوبيين فمنهم من قال «استعمال المبدع للغة، مفردات وتراكيب وصورا،استعمالا يخرج به عما هو معتاد ومألوف، بحيث يؤدي ما ينبغي له أن يتصف به من تفرد وإبداع وقوة جذب وأسر»، أو كما قال د. أحمد مبارك في دراسته للانزياح في شعر المتنبي « انحراف الكلام عن نسقه المألوف، وحدثٌ لغوي يظهر في تشكيل الكلام وصياغته، يمكن بواسطته التعرف إلى طبيعة الأسلوب الأدبي، ويمكن كذلك اعتبار الانزياح هو الأسلوب الأدبي ذاته». في هذا البحث القصير نحاول إلقاء الضوء على الوظائف الجمالية من خلال الانزياحات الأسلوبية «في ديوان «نبض القصيد». المشهور من أنواع الانزياح ثلاثة أنواع الاستبدالي (الدلالي) وهو متعلق بالمادة اللغوية، الاستعارة، والتشبيه، والكناية والانزياح التركيبي ويتعلق بتركيب الكلمات مع ما يجاورها، التقديم والتأخير، الحذف، الالتفات، والانزياح الإيقاعي ويتعلق بالوزن والقافية. عنوان الديوان (نبض القصيد) نرى أنّ عنوان الديوان، والذي هو عنوان احدى قصائد الديوان، قد لفت انتباهنا إلى ظاهرة فنية بارزة، فقد شبه الشاعر القصيد بالكائن الحي الذي يملك روحاً ونبضاً، فنحن نرى مفردات لا يربط بينها سوى التناسق اللغوي، فهي مفردات (نبض، قصيد ) تنزاح عن استعمالها المألوف لتحمل دلالة جديدة ومعانٍ أكثر عمقاً. فالقصيد في رأي الشاعر يجب أن يكون له احترامه وتقديره وأن يعامل معاملة الكائن الحي الذي ينبض ويتنفس، وعدم العناية به هو قتل له، فقد استعار الشاعر مفردة نبض ليشعر المتلقي بأهمية اللغة والقصيد، فهذا الانزياح شكّل جمالاً في الجملة ومنحها بُعداً جديداً، ودلالة جديدة. وفي قصيدة بعنوان (سحر المطلع) تشارك فيها الشاعر مع الشاعرة د. شفيقة وعيل: زفرتي/تشكو التهاب الأضلع/ ولشوقي رعشةٌ/في الأدمع/كيف أني صرت فيك أنا/أيها الواحدُ/ ما عدتُ أعي/ (الديوان ص 44) في هذه القصيدة يستخدم الشاعر ألفاظاً تخرج عن سياق المعجم اللغوي ( الزفرة/ تشكو/ الشوق/رعشة ) ولكن هذا الخروج وهذا الانزياح يُكسبها دلالات جديدة، فالزفرة تشكو، فقد أتسع مجال ومدى الشكوى حتى أصبحت مع كل زفرة ومع كل نَفسٍ يتنفسه الشاعر فهي شكوى متواصلة، وشبه الشوق بالإنسان الذي قد يشعر جسده بالرعشة، فالشاعر يُوسع من دائرة الألم باستخدام هذه المفردات، فالانزياح هنا قائم على الاستعارة. الانزياح في الاتكاء على المفردة المستخدمة في الحياة اليومية حتى يتعايش المتلقي مع النص، وتكون وظيفة الانزياح وظيفة تأثيرية، تحفز وتثير المتلقي، وتشد انتباهه، وتوقظ مخيلته، فالشاعر يحاول التجديد في قصيدته باستخدام بعض المفردات المخالفة للمعجم اللغوي، وهذا ما يلاحظ في شعر د. علي غبن فقد ورد في أكثر من نص في الديوان، ويُعد من ملامح التجديد والحداثة، فقد استخدم الشاعر هذه الظاهرة الأسلوبية في أكثر من نص في ديوانه، فهو في توظيف المفردة الشعبية قد خرج عن المألوف، فالشاعر يعتبر الشعر جزء من الحياة اليومية، فهو يحاول الخروج عن المعجم اللغوي، وطرح مفردات جديدة تثير المتلقي، باعتماده على الانزياح الدلالي لمفردات تستخدمها العامة في حياتها اليومية، مما يضفي جماليات جديدة على القصيدة المعاصرة. ففي القصيدة التي عنونها الشاعر ( قلاية) يقول: غلابا/ في البلاد موزعين/ بقايا روحهم/ قلق الأنين/ تكاد ترى المآسي/ في المآقي/ وتسمع/ همسة الناي الحزين/ يلذُ لهم/ تعاطي معجزاتي/كأن قصيدتي/ الفتح المبين/ (بقلاياتهم)/ أسكنتُ روحي/ وذبتُ كما الطماطم/ في الصحون/ صبغتُ دمي/ بحمرة أمنياتي/ وكحلتُ/ الجنون من الجنون/ بفلفلهم «تأردنت» المعاني/ وضم بهارهم/ وجع السنين/ بهاراً ما تراه سوى بعيني/ حريفاً ضم جوع العالمين/ الديوان ص 43 فمفردة (قلاية، قلايات) رغم فصاحتها إلا أنها من المفردات التي يستخدمها الناس في الحياة اليومية، فالشاعر أراد أن يستخدمها ليثير فضول المتلقي ويثير شهيته بالمفردة التي يستخدمها في الحياة اليومية، وهناك مفردات أخرى استخدمها الشاعر مثل (تأردنت) أي أصبحت أردنية. ونرى ذلك في قصيدة بعنوان (محراب الهوى): وحيث الماء/ يجري في ثناياها/يُشقق صخرها للورد/ وينبتُ في تبسمها/ ويخطف لذة المخمور مختصراً/حكيا العشق في قبلة/ وفي ليلة/ يغني في الهوى ثملاً/ أخيراً بتُ داخلها و»جوّاها» فاستخدم الشاعر كلمة «جوّاها» وهي من المفردات التي يستخدمها الناس في الحياة اليومية لتأكيد مفردة (داخلها). وفي قصيدة أخرى بعنوان (سلام عليها) يقول: من « الفوق» جورية/ شعرها كالنخيل/ تشكل تاجاً/ على مفرقيها/ إلى « التحت «/ حيث يذوب الحضور/ وينعدم الوقت/ الديوان ص 82 استخدم الشاعر بعض الألفاظ بدلالات جديدة، يستطيع المتلقي فهمها من سياق الجملة، ومن هذه المفردات التي أرى أنه حدث لها تطور دلالي كلمة (فوق، تحت)، نلحظُ بأن الشاعر قد أدخل عليها (أل التعريف) الفوق والتحت، فقد خرج الشاعر عن المألوف بإضافة أل التعريف لظرفي المكان تحت وفوق واستعملها بمعنى الأعلى والأسفل. لا شك أن الموروث الديني يعتبر من أهم المصادر التي يلجأ الشعراء إليها ويغترفون منها، لما للدين من مكانة في نفوسهم، فقد تناص الشاعر في قوله من قصيدة ( يا جبر): فأنك للقصيد حبيبُ/ يا شاعراً/ قد البديعُ قميصه/ منذ احتوت/روح العزيز أديبُ/ قطعت/ أيدي المنشدين شقاوةً/ ولديك/ مزمارُ القصيد يطيب/ الديوان ص 41 الديوان يحتاج لأكثر من دراسة في الجانب الأسلوبي، فهناك الكثير من القصائد وأساليب الانزياح لم نستطع الوقوف عليها في هذه العجالة، نبارك للدكتور الشاعر والناقد علي غبن ونرجو له المزيد من الألق.