وهو يتحدث في هاتفه النقال، لكنك لا تستطيع الإمساك به متعللاً بكثرة المشاغل، ومن خلال هذا الالتقاء المستمر في المعرض تستطيع اصطياد البعض، أو يصطادونك في فعالية ما أو حتى في الممر الذي لا ينقطع من المارة .
ومن خلال هذه اللقاءات تدور نقاشات عديدة وتكشف الكثير من الأمور، ربما يأتي بعضها مصادفة وعن غير قصد، وبعضها قد يكون مقصوداً للفت النظر إلى أن هناك حقيقة ما تختفي خلف قناع زائف نراه حاضراً في المشهد الثقافي .
توقف أحدهم مع مجموعة من زملائه للسلام عليّ، ثم امتد هذا السلام إلى نقاش طويل حول قضايا عديدة كانت بحاجة إلى طاولة نرمي عليها أجسادنا المتعبة من الوقوف، وإلى فنجان قهوة يعدل مزاجنا، أو كأس شاي أو حتى شربة ماء تطفئ لهب الحوار .
فجأة . . وبينما كان يتحدث عن الشعر قرأ قصيدة أذهلتني، ليس لأنها قصيدة جميلة رصينة تحتوي على لغة تنساب عذوبة وصور تثير الدهشة، وتحليقٍ يأخذ المستمع إلى فضاءات بعيدة، لكنه أدهشني لأني سمعت هذه القصيدة من آخر، وسبق لهذا الآخر أن ألقاها في أمسية ما، لكني أعلم أن هذا الشاعر الواقف أمامي شاعر حقيقي لن يخطر في بالي أو يراودني أدنى شك في أنه سرقها من الآخر، لأن هذا الشاعر تجربته طويلة وحقيقية، ويدعم هذا الظن ثقافته العالية ومعرفته بجزئيات كثيرة تتعلق بالشعر على مستوى شكله الخارجي والداخلي وعناصره الفنية بل وحتى نقده، أما الآخر الذي لديه هذه القصيدة نفسها فتجربته قصيرة جداً، وأثيرت حوله الشبهات، وأسقطه أحدهم في يوم ما بسبق الإصرار والترصد في فخ الإيقاع والعروض، ولم يستطع الخروج من هذا الفخ إلا بالهروب من المكان متذرعاً بأن البحر يحتاج إلى تركيز ووقت أطول حتى يستطيع الشاعر ضبطه .
شاعرٌ آخر جمعني به المعرض أيضاً بدا متحسراً ومنفعلاً جداً، وحين سألته لم كل هذا الضيق؟ كشف عن المستور بصعوبة وقال لي: ذلك الشخص الذي يوقع الديوان الآن يوقع نبضي، وليس لذلك الشخص سوى الاسم الذي وضعه على الغلاف، قلت له يا أخي أنت كشفت نفسك ولم تكشفه هو فقط، وهنا ارتفعت حرارته أكثر، وأحسست أن بركاناً سينفجر من صدره ليصل إلى وجهي الذي يقابله ويحرقه، قال لي "بدلاً من أن تقف في صفي وتخفف عني تقول لي هذا القول؟" قلت له نعم، لقد كشفت أنك لست أميناً على شعرك، ولا قيمة له عندك، ولست أميناً على الناس وأسرارهم، وبما أنك وافقت على التنازل عن نبضك للآخر، وأسهمت في هذا التضليل وتقديم هذا الآخر على أنه شاعر يشارك في أمسيات وفعاليات عديدة وتنخدع به المؤسسات الثقافية، فلماذا لم تصن هذا السر الذي ائتمنتك عليه طالما أنك قبضت ثمناً ما مقابل هذه الخدمة؟
الحقيقة أن ما يتكشف في هذه اللقاءات لا يمكن الجزم بحقيقته إلا من خلال تتبع مستمر وطرق أخرى لكشف الزيف الذي يقدم إلى الساحة ويسهم فيه بعض القادرين على الكتابة لأسباب زائفة ورخيصة، لكن كما يقول المثل "حبل الكذب قصير"، والمثل الآخر "يا خبر بفلوس بكرا ببلاش"، نعم ستكشف الأيام عن حقائق كثيرة، وستسقط الكثير من الأقنعة لأن الزيف والخداع والكذب لا يمكن أن يستمر طالما أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمصلحة .

hala_2223@hotmail .com