ثورة الوجدان واتساق المعنى في ديوان «أخيلة» لعيد النسور
عرار:
د. عماد الضمور * لعلّ أهم ما يُميّز الشعر أنه في عملية التلقي يتحول إلى مناجاة عميقة تملأ الصدور، وتبهج القلوب، وتمتلك من المواقف الشعوريّة ما يجعله حالة وجدانية متفجرة تنبعث وجداً وتتشكّل روحاً قادرة على الحلول في الأجساد. يحمل ديوان «أَخْيِلَةْ» للشاعر عيد النسور والصادر عن دائرة الثقافة في أمانة عمّان الكبرى عام 2016م ـ روحاً شعريَة تنبعث وجداً خالصاً وفيض مشاعر لا يمكن أن تكون إلا لشاعر عاشق للحياة ولحنها الجميل. العنوان «أَخْيِلَةْ» جاء مفتتحاً شعريّاً بامتياز، فهو كلمة واحدة دالة، وهو صرفيّاً على وزن «أفعلة» ليدل على أحد أوزان جمع القلة، ممّا منح فضاء النص الشعري اختزالاً بصريّاً من الناحية اللغوية، لكنه مؤثر دلاليّاً من الناحية الفنية. لقد جاءت كلمة «أَخْيِلَةْ» متّسقة دلاليّاً ومعنوياً ولغويّاً مع السياق العام لقصائد الديوان التي حملت طابع الإيجاز والتكثيف، وكأن العنوان ومضة سريعة ما أن ينطق بها الشاعر حتى تنتهي تاركة أثرها في المتلقي، فنقرأ العنوانات التالية لقصائده (كبوة، ليلاي، أرق، عشق، شقاوة، وسادة، صبابة، قمرايّ، نفاق، إعياء، عواء، درابيل، غربة، جمرات، صومعة، فكرة، تهجد، جدّولة، الليل، المهرج، الفيروز، غياب، وشوشات). وهي قصائد قصيرة، ممّا يكشف عن بنية جمالية للنص الشعري تحمل طابع التفجّر الوجداني والتشكّل المشهدي الدقيق، الذي أنتج أبنية تصويرية، تشع برغبة جامحة لنظم الشعر، والانفلات من أسر الواقع وانكساراته المتتالية. عنوان «أَخْيِلَةْ» بمنباه اللغوي ووزنه الصرفي وإيقاعه الموسيقي جاء تعبيراً صادقاً عن وجدان متدفق مُهيّأ للبوح في أيّ لحظة بعيداً عن التصنّع أو القوالب اللفظية التقليدية. إنّها ذات معنى جامح مستعد للانطلاق بأية لحظة، فقد جاء العنوان كلمة واحدة (أخيلة) ولم يأتِ مركباً بالإضافة أو النعت، كأن يقول: أخيلة جامحة، أو متدفقة، أو كثيرة...إلخ، بل جاء مفرداً؛ ليكتسب صفة التكثيف الدلالي والاختزال المعنوي للغة. لقد جاء العنوان جمع قلة؛ ليؤكد قدرة الشاعر على البوح في أي وقت بعيداً عن قيود اللغة، ودلالاتها المتعددة. إذ أسهمت بنية (أفعلة) الصرفية التي جاء عليها العنوان في إحداث انسجام صوتي، وتآلف موسيقي، فضلاً عن وظيفتها البيانية التعبيرية التي تمنح المفردة قوة في التعبير، ووضوحاً في السمع، وجمالاً في البيان، وانسجاماً في التركيب. قصائد (أخيلة) تعبير واضح عن لحظة جمالية عاشها الشاعر، فجاءت مكثفة، ومجسّدة لحالة شعورية ووجدان ثائر لا يهدأ، فهي قصيدة اللقطة، والتوقيعة ذات التركيز والإدهاش فضلاً عن روحها الغنائية وحساسيتها الشعريّة الكاشفة لحقيقة النفس ورغبتها في معانقة الوجود. إذ إنّ اتجاه الشاعر الرومانسي ينحاز إلى التواصل الجمالي مع المتلقي، وهز انحياز يحمل في ثناياه تفضيل لحقل الطبيعة، وسياقاته الدلاليّة، التي تعتمد على التشخيص، وتكوين الصورة المركبة التي جعلت لغة الديوان تميل إلى تصعيد الخطاب الوجداني مع المتلقي، وتعبّر عن حالة وهج وجداني، يحتفل بالأنوثة ومفرداتها؛ فالأنثى غواية، والطبيعة كذلك، فضلاً عن كونهما مصدر مهم للإبداع، وقيمة جماليّة وفنيّة حاضرة بقوة. نقرأ في قصيدة (ها أنت ثانية) قوله: ها أنتَ ثانيةً وثالثةً!! تقولُ لمن، نغازلهُ الربيعْ. ولمن تُناغيهِ الهوى؟ ولمن نهودجُ حلمنا ولمنْ، نصوغُ الصمتَ آمالاً، لمن ولمنْ.؟ ( الديوان ، ص 16). إن إسلوب السرد الخاطف سمة واضحة في قصائد الشاعر، لذلك فإن الألفاظ مُنتقاة بعناية لتختزل المعنى، وتشدّ المتلقي إليها بسرعة، إنّها ومضة السؤال الثائر ولغة العشق المُعتّق وبيان اللغة المؤثرة، ودراميّة الاشتباك مع المتلقي دون تعقيد، فليس من وظيفة الشعر شرح كلّ شيء، بل من وظيفته الإدهاش والإيحاء بدفقات شعوريّة مركزة قادرة على إنجاز مهمة الشاعر في الامتاع والتأثير، بعدما أصبحت الألفاظ الكثيرة غير قادرة على اقتناص المتلقي أو التعبير عن المبدع نفسه. نقرأ قصيدة( ليلاي) وكأنها كلمة واحدة يبقى صداها طويلاً في القلوب العاشقة للحياة، حيث يقول: متعبٌ والسّهد أنا ليلايَ بلا قمر، ورؤايَ على بعدِ نافذةٍ، يحتديها الأمل. ( الديوان، ص22). إنّ قصائد ( أخيلة) انعكاس واضح لعصر الشاعر، وما يشهده من سرعة وإيجاز وتكثيف، فهي قصائد مضغوطة ـ إن جاز التعبير ـ تعكس إيقاع حياة مبدعها. بعدما كشفت قصائد الشاعر عن لغة جديدة تبتعد عن الصياغة التقليدية للألفاظ المكررة، تجمع السهولة والقوة معاً، تعبّر عن المعنى بأقل اقتصاد لغوي ممكن، كما في قوله: في حضرة الشرق المُسجّى بين زهوٍ وانكسار عاد من أقصى العروبةِ حارسُ الأحلام، يبحث عن جديلة طفلةٍ ضاقت بها الدنيا وأحرقها الخنوعْ.( الديوان، ص96). يمكن رصد اهتزازات وجدان الشاعر من خلال ألفاظ قصائده القصيرة، ممّا يعكس براعة الشاعر اللغوية ومقدرته الشعريّة على الاختزال دون الإخلال بالمعنى. نقرأ في قصائد الشاعر القصيرة فضاءات رحبة من الخيال المجسّد للمعنى ، كما في قوله: العمرُ بلا عشق كخريرِ، بلا ماءٍ وحفيفٍ بلا روضٍ وشجرْ ( الديوان ص24) لقد تحررت قصائد الشاعر القصيرة من الخطابية، فجاء السرد أكثر احتفاءً بالمعنى وإيحاء بسبب تركيزه الشديد وقصره؛ ليتناسب مع ذائقة العصر الذي أخذ يميل فيه المتلقي إلى التكثيف والاختصار والسرعة، ممّا جعل القصيدة تنقاد وراء اللحظة الانفعالية ذات المعنى الرحب، إنّها بلاغة الإيجاز وانعكاس للحظة تأمل عميقة ودلالة خصبة مثمرة لغويّاً ، تنهض بالكثافة العالية والمفاجأة المولّدة للدهشة، كما في قوله: رفيقةُ دربي.. لها سربُ أجنحةٍ تتهجّى طقوسَ الهوى، ترتدي ثوبَ الوفاء هاجدةً لتُّطيّرَ حُلمَ صِبايّ.. جناحاً وقوراً ليشربَ من عادياتِ السّحابْ.( الديوان ص119). لقد نجح عيد النسور في جعل عنوان الديوان( أخيلة) صاحب سلطة تواصلية مع المتلقي، ينقاد وراء بلاغة الحذف مُشيراً إلى اختزال الألفاظ وتبني المعنى بإحالاته داخل بنية النص الشعري؛ ليجسّد من القصيدة القصيرة صورة ومعنى ورؤى تتشكّل بألفاظ قليلة ذات فضاء لا ينتهي من الحلم، وثورة لا تهدأ من الوجد.
* ناقد وأكاديمي من الأردن
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 10-02-2017 10:31 مساء
الزوار: 1411 التعليقات: 0