|
عرار:
أعلم علمًا ليس بالظن، أن الناقد الأدبي في مجتمعنا الفلسطيني داخل اسرائيل يعاني أزمة حقيقية بالنسبة لتقييم الشعر المحلي الجديد، ذلك أن قسمًا كبيرًا من شاعراتنا وشعرائنا الجدد تستعصي أشعارهم عن التحليل والتفسير لغموض ما يحول دون استحسان أو استهجان العمل الأدبي المعتمد.... أمام هذه الحالة المستعصية يتقدم الناقد مزودًا بقيم ومعايير ومقاييس ألفها ودرج على استخدامها ولا يستطيع التخلي عنها، لا لجمود فيه أو انغلاق في نظريته، بل لأنه يعجز أن يطور كل يوم قيمًا جديدة تعتمد العمق النفسي والفكري لهذا الشعر الجديد.!!!!! ولما اتسم ديوان وأقطف تراب الصمت الجميل للشاعرة الفلسطينية فاتن مصاروة بإيقاع داخلي خاص تَشَكّل من قوة الغموض وعمق المعاني العاطفية والقومية من ناحية، وصخب الرموز والإشارات من ناحية ثانية؛ ارتأينا الاّ نخوض في مغامرة نقدية شاملة قد لا تعطي هذا العمل الأدبي المميز ما يستحقه من تقدير، واكتفينا برصد تصور بانورامي لطبيعة هذه المحاولة الشعرية واتجاهاتها استجابة لواقعنا ومشكلاتنا الاجتماعية كونها منهجًا بديلاً في مواجهة المناهج السائدة في الساحة الثقافية... وننوه هنا أننا لن نحاول أن نتناول الرحلة الفكرية والأدبية والسياسية للشاعرة الانسانة فاتن مصاروة بمراحلها وتحولاتها، ولكن ما سنحاوله هو الوقوف على موضوع الشعرية الأدبية كواحد من مجالات ابداعها كما برز في قصيدة"وأقطف صمت التراب الجميل". تجدر الإشارة إلى أنٌ ديوان وأقطف صمت التراب الجميل للشاعرة فاتن مصاروة الذي خرج إلى النور برعاية مكتبة كل شيء في حيفا، هو الديوان الثاني، بعد صدور ديوانها الشعري الأول فرس المجاز عن دار الشروق للنشر والتوزيع في رام الله والاردن عام 2014. ديوان"وأقطف صمت التراب الجميل"تضمن فصلين اثنين. اشتمل الفصل الأول"نايات من الوجع"على اثنتين وأربعين قصيدة من شعر التفعيلة (الشعر الحر). هي وليدة مناسبات اجتماعية وسياسية محلية جاءت وفق ظروف زمنية انحصرت في السنوات (2014-2017)، وأحوال نفسيه وعاطفية مضطربة ربما تجمعها جامعة وتربطها قرابة، لتحاور في ذاتها قضايا إنسانية متعددة في مناخها الاجتماعي العاطفي وأبعادها الفكرية والقومية ضمن صياغة شعرية متخيلة حرصت فيها على المزج بين واقعية الكلمات والمعاني من ناحية، ورمزية اللغة الشعرية المتخيلة من ناحية أخرى. اما الفصل الثاني"ومضات من الدمع"فسُجلت فيه تسع وعشرون ومضة قصيرة جدًا تجرعت في بعضها مرارة الألم والحسرة على حبيب غائب تاه في زحمة الدنيا ووطن غريب يأبى أن يضيع. جاءت هذه الومضات على شكل خواطر نثرية ذات إيقاع داخلي ينسجم ويتماهى مع المضمون، تجمع بين التأمل الفكري الميتافيزيقي والاحساس العاطفي الحار؛ فكل خاطرة من خواطرها لها لونها العاطفي الخاص النابع من نَفَس فكري، وعاطفة قلقة جانحة، في الاغلب، إلى التشاؤم والتمرد الطبيعي الخجول الخالي، لسوء الحظ، من الصلابة والثقة بالانتصار. إنّ التمعن المتأني في قصائد الفصل الأول من الديوان يكشف لنا شاعرة موهوبة ومتمرسة، تتمتع بذائقة شعرية راقية تنطلق من أولية اللغة الشعرية جاعلة القصيدة ترقى وتسمو حتى تصل إلى آفاق جديدة مجهولة المعالم... في المجموعة الأولى من الديوان"نايات من الوجع"رأينا أن الشاعرة فاتن مصاروة استطاعت أن تحوك من مفرداتها اللغوية وتعابيرها الشعرية المميزة عقدًا فريدًا من نوعه، تشابكت فيه اثنتان واربعون لؤلؤة خضراء، تسللت في وسطها خلسة جوهرة فريدة صامتة، لتكون واسطة العقد، لها وقع صاخب لم نألفه لدى كثير من شعرائنا المحليين. وإن اقتصر وقوفنا على قصيدة واحدة"وأقطف صمت التراب الجميل"فإننا نرى فيها تمثيلاً مقبولا ونموذجًا جيدًا يبرز الاتجاه الشعري الذي انحازت اليه شاعرتنا. من خلال قراءتنا لهذه القصيدة نجد أن الشاعرة فاتن مصاروة تجمع بين اتجاهين. ونعني بهما: الاتجاه العاطفي الشاكي المتمرد المتشائم، ثم الاتجاه الفكري الذي تميزت به طبيعتها وأشعارها العقلية الارادية والواعية بما تريد. وهنا يراودني احساس بأن انحصارها بين هذين الاتجاهين جعلها تتماهى مع ما يلائم تفاصيل حياتها الشخصية وذاتها الشاعرة، فحياتها غنية وعريضة يملؤها الأصدقاء، ومخيلتها طافحة بالمستجدات الأدبية والفنية والتأملات القلقة التي لا تغيب عن فكرها، ملتزمة بقضايا وهموم شعبها، وشغلها الشاغل البقاء والثبات في ظلال الصراع النفسي والاجتماعي الذي تعرض له المثقف العربي منذ نكبة فلسطين التاريخية. شاعرة تأبى أن تسجن نفسها وأفكارها خلف قضبان قناعات ثابتة وعقائد يضفي عليها طابع القدسية، إنّها ترى في الشعرية العربية بنية حية تلتحم التحامًا عضويًا بالحياة والواقع. والعودة للحديث عن مكنونات قصيدة"وأقطف صمت التراب الجميل"تبين لنا أنّ من يقرأ القصيدة أكثر من مرة، لا بد أن يقع في تساؤل جديد في كل قراءة، وكأنه يتعامل معها لأول مرة. فعنوان القصيدة"وأقطف صمت التراب الجميل"يشكل عتبة نصية بعيدة عن نظام الأتمتة اللغوية، (تعبير معقد يحتاج إلى شرح وتفسير)، بل ربما كان لغزًا يحتاج إلى شيفرة خاصة لفك رموزه واشاراته مما يجعله بعيدًا عن مفهوم القارئ العربي العادي، وربما يجد القارئ المتلهف نفسه أمام خطاب فوقي متعال رافض للمناقشة والمساءلة. يبدو ان الشاعرة ارادت بهذا الاستخدام الشكلي أن ترقى وتسمو بالقصيدة لتثير تفكير القارئ، تثقف لغته وتحفزه لأن يكون شريكًا في صياغة النص الشعري المعتمد. قد يسأل سائل:"موسم القطيف"كما اسماه آباؤنا لا يكون الا عندما ينضج الثمر على الاشجار بشكله الجميل ولونه الزاهي. فأي قطف جميل نبغي من التراب الصامت الجامد الفاقد للطعم والرائحة...؟ وهنا تأتي رمزية الاستخدام. إنّ أكثر ما يلفت النظر من ناحية الأسلوب وتقنية اللغة في الديوان عامة وفي قصيدة"وأقطف صمت التراب الجميل"هو المستوى اللغوي الذي مزج بين واقعية الكلمة وبين رمزيتها، بحيث ما نلبث أن نلمح المستوى الواقعي حتى يطفو على السطح المستوى الرمزي. نحن هنا امام لغة غادرت دلالاتها المعتادة وأخذت تلعب دورًا غير مألوف. فما التراب إلا رمزًا لتاريخ فلسطين الجميلة: تراب الجليل، تراب حيفا، تراب الخليل، وتراب تلك المدن والقرى الصابرة القابضة على مفتاح العودة كمن يقبض على الجمر. وما الشاعرة الا صوتًا لصدى التراث العربي الأصيل المثقل بأعباء الماضي. تقول في ذلك: أنا صرخات الياسمين المدمّى وما الحب وهوس العاطفة عندها الا لذاك الشاب الغائب، العائد، التائه والحائر الذي لا يطيق الانتظار ولا يطيق الانكسار على عتبة المستقبل الغامض المجهول. ولعل هذه القصيدة جاءت لتطرح حقيقة الأزمة الاجتماعية والسياسية التي مر بها المثقف العربي الفلسطيني في إسرائيل والبقاء في دائرة الصراع النفسي الشديد، ومن ثم البحث الاستحواذي لإيجاد السبيل من أجل تحقيق الذات وتثبيت الهوية القومية. ولا غرو في ذلك، فمنذ النكبة حتى أيامنا ما زال المثقف العربي يسعى ويبحث عن هوية قومية ضاعت منه في خضم الأزمات السياسية والاجتماعية القاسية التي عصفت به. وهنا لنا رأي نود أن نسجله: إنّ الشاعر عندما يكتب اليوم بالطرق القديمة مضامين وأشكال قديمة، لا يكون بعيدًا عن ذاته وعصره فحسب، وإنما يكون مشاركًا في تغريب الإنسان. وهذا يتطلب استخدام لغة جديدة تساهم في خلق ثقافة تؤمن بالإبداع والتجديد والتحول. وبما أن العالم الذي نعيشه هو عالم متحرك ومتجدد، لا يثبت على حال واحدة، نفترض أنه لا يمكننا أن نتقدم ونتجدد نحو مستقبل ثقافي أفضل، إلا إذا غيرنا علاقتنا وتصورنا مع الإنتاج الشعري السائد، ولم نعد نتمسك به كتراث مقدس لا يجوز لنا حتى مجرد التفكير في مراجعته وإعادة هيكلته من جديد. وإن لم نفعل ذلك، بقينا غرباء عن ماضينا وعن حاضرنا، وسنبقى غرباء في مستقبلنا أيضًا. فلا بد لنا إذًا، من العمل الجاد ومحاولة البحث عن إبداعات وطرق جديدة تسير وفق متغيرات العصر؛ فالشعر ليس مجرد ألفاظ صوتية ذات دلالات صرفية أو نحوية أو معجمية وإنما هي تجسيد حي للوجود له كيان وجسم. ديوان العرب الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 01-05-2018 04:31 مساء
الزوار: 986 التعليقات: 0
|