«شاعران من فلسطين» كتاب يستعيد ذكرى الراحلين: مريد البرغوثي وعزّ الدّين المناصرة
عرار:
د. أحمد البزور
نُشيرُ في البدايةِ، إلى أنَّ المقالَ يهدفُ إلى عرضَ ما تنطوي عليه فصولُ الكتابِ من أهدافٍ ومرامٍ، مما يُمكن إيجازهُ لإعطاءِ القارئ فكرةً شاملةً ووافيةً عن الكتابِ، وعليه، فإنَّ الكتابَ الموسومَ بعنوانَ شاعرينِ من فلسطينَ، الصّادرَ عن دارِ الخليجِ، يقعُ في مئةٍ وثمانٍ وعشرينَ صفحةً، ويتوزّعُ في قسمينِ، يُعيدُ المؤلِّفُ إبراهيم خليل من خلالِهِ ذكرى الشّاعرينِ الرّاحلينِ: مريد البرغوثي وعزّ الدّين المناصرة. لتأكيدِ ذلك، فإنَّ الكتابَ جاءَ كما يقولُ المؤلِّفُ؛ ليحيي ذكرى الشَّاعرينِ، وتقديرًا لتجاربهما الشّعريّة، وبهذه الإشارة، فإنَّ الكتابَ يشدُّنا شدًّا لشاعرينِ فلسطينيينِ كبيرينِ متقاربينِ؛ عمرًا، وإبداعًا، ومأساة، ووفاةً، لا يعرفانِ المهادنةَ ولا المساومةَ. وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ المؤلِّفَ في مقدّمةِ كتابهِ وطّــأ لنشأةِ الشّاعرينِ، وأعطى ملامحَ للحياةِ الاجتماعيّةِ، والعلميّةِ، والأدبيّةِ الخاصّة بهما. ومما يجدرُ ذكرهُ، أنَّ الشَّاعرينِ توفيا في العامِ الحالي. في الفصلِ الأوّلِ الموسومِ بعنوانَ القصيدةِ والبورتريه، ينطلقُ المؤلِّفُ من التّأكيدِ أنّ كتابَ «رأيت رام الله» لمريد البرغوثي لا يعدو أن يكونَ شهادةً أو شبه سيرة، لهذا، يتعجّبُ بأنَّ بحثًا منشورًا لأكاديمي يعدّها روايةً متخيّلةً، وفقًا لهذا، يشنُّ المؤلِّفُ هجومًا قاسيًا على بعضِ الأكاديميينَ ممن ظفروا بالدّرجاتِ العلميّةِ عن طريقِ الوساطةِ. انطلاقًا من هذا التّمهيد، يذهبُ المؤلِّفُ إلى أنّ مريد البرغوثي لهُ قصبُ السّبقِ في ابتكارِ ما يُعرف بالقصيدةِ القصيرة، وللتّوضيحِ، فإنَّ البورتريه فنُّ رسمِ ملامحِ الشّخصيّةِ وإظهار ملامح وجهها وتعبيراتها، وعلى ذلك، يرى المؤلِّفُ في إطارِ ما سمّاهُ بقصيدةِ البورتريه أنَّ البرغوثي يرسّخُ هذا النَوعَ من الرَسمِ في قصيدته؛ بناءً، ومضمونًا، وإيجازًا، وتكثيفًا. وتعزيزًا لما سبق ذكرهُ، يرى المؤلِّفُ، بأنَّ نهجَ البرغوثي في استعماله الشِّعريّ لمفردات اللغة، قائمٌ على تقنيةِ أقنعةِ الألفاظ، من حيثُ تحريرها من معناها المتداول. وبالموازنةِ بين العقّادِ والبرغوثي في قصيدةِ ساعي البريد، يستنتجُ المؤلِّفُ بأنَّ قصيدةَ البرغوثي لا تخلو من جماليّةِ النّظمِ في المستويينِ: الأسلوبيِّ والدّلاليّ، على عكسِ ما وجدهُ في قصيدةِ العقّاد. تبعًا لذلك، يقفُ المؤلِّفُ في الفصلينِ الثّاني والثّالث على نصوصٍ شعريّةٍ مختارةٍ كأروعَ ما نظمَ البرغوثي. وبالتّحليلِ، خَلُصَ إلى أنَّ الشّاعرَ يمتلكُ أدواته الشّعريّة من حيثُ البناءُ الفنّيّ والتّشكيلُ الشّعريّ، كما أنّ في شعرِ البرغوثي كما يرى نهجًا خاصًا، لا يجدهُ لدى شاعرٍ غيره، في اتّساقٍ وانسجامٍ، رغم المراوحةِ بين لغةِ الشِّعر والنَّثر، والجنوح إلى العاميّة. وزيادةً في الإيضاحِ، يتطرّقُ المؤلِّفُ في الفصلِ الرّابعِ الذي عنوانهُ الأمكنة وزهر الرّمان، إلى ديوانِ «النّاسِ في ليلهم»، وبالملاحظةِ، وَجَدَ بأنَّ الشّاعرَ عَمَدَ تنظيمًا جديدًا في ديوانه، ذلك من خلالِ تقسيمه إلى أبوابَ وعناوينَ لقصائدَ، وبذلك، يختارُ المؤلِّفُ البابَ الأوّل: زهر الرمان والأخير صمت الأمكنة كنموذجينِ للتّحليلِ. من هذا المنطلق، يرى المؤلِّفُ في البابِ الأوّلِ بأنَّ القصائدَ أقربُ إلى القِصَرِ منها إلى الطّولِ في لغةٍ مغرقةٍ بالبساطةِ والسّلاسةِ، مدركًا ما في نصوصِ البرغوثي من مفارقةٍ أساسها السُّخرية والتَّهكم. عطفًا على ما سبق، يحملُ البابُ الأخيرُ عناوينَ القصائدِ التّالية: الدّار العتيقة، ودار رعد، وبوابة البلد، ليصلَ المؤلّفُ إلى نتيجةٍ مفادها بأنَّ الشّاعرَ البرغوثي متأثرٌ بقواعدَ بناءِ السّيناريو، ومما لفتَ نظرَ المؤلِّفِ أيضًا، خضوعُ القصيدةِ لتصميمٍ بنيويٍّ داخليٍّ، وعلى الرّغمِ من اللجوءِ إلى التّقسيماتِ المقطعيّةِ والفراغاتِ، إلّا أنّ الشَّاعرَ حافظَ على نموِّ الفكرةِ فيها. عودًا على بَدءِ، يُلقي المؤلِّفُ الضّوءَ في الفصلينِ الخامسِ والسّادسِ على كتابينِ لمريد البرغوثي، هما: «رأيتُ رام الله»، و»ولدتُ هناك.. ولدتُ هنا»، كما أشرتُ إلى ذلك سابقًا، ليؤكّد بما لا يدع مجالًا للشكِّ، أنّ الكتابينِ لا يعدوانِ كونهما سيرةً ذاتية، وشهادة، ووثيقة، بدليلٍ أنَّ البرغوثي يذكرُ في الكتابِ الأوّلِ تاريخَ ميلاده، وما مرّ به من ذكرياتٍ في بلدةِ ديرِ غسّانة، وما عاشهُ من ظروفٍ، وحوادثٍ، وذكريات في سنواتِ دراسته، وحديثه عن شقيقه منيف، وعلاقته بجدّته، وغيرها، وعلى هذا النّسقِ، يواصلُ مريد في الكتابِ الثّاني روايةَ مشاهدَ من سيرتِه الذّاتيّةِ ورحلته من المنفى عائدًا إلى رام الله، ويرسمُ بأسلوبٍ قصصيّ ما يعانيه الفلسطينيون في ظلّ الاحتلالِ والسّلطة. استكمالاً لما تقدّم، توزّعَ القسمُ الثّاني من الكتابِ المخصصِ للشّاعرِ عزّ الدّين المناصرة، على ثلاثةِ فصولٍ تحملُ العناوينَ الرّئيسةَ التّالية: - الأصيل المتين. - تحوّلات اللغة في شعره. - القارئ في القصيدة. لا بدّ أنْ أشيرَ أولاً، إلى أنّ المتتبعَ للدّراساتِ النّقديّةِ عن شعرِ المناصرةِ، سيلاحظُ بأنّ شعره اجتذبَ الكثيرَ من الباحثينَ والنّقادِ، والسّبب في ذلك، راجعٌ إلى أنّ شِعرَه يحملُ روحَ البيئةِ العربيّةِ الفلسطينيّةِ، من ثقافةٍ، وعاداتٍ، وتقاليدَ، وتراثٍ شعبيّ، كما يتجلّى فيه إحساسُ الشّاعرِ بمأساةِ بلاده، وهذا هو تمامًا ما ذهبَ إليه المؤلِّف في الفصلِ الأوّل. قياسًا على ما سبق، يذهبُ المؤلِّفُ إلى أنّ المناصرةَ يقتبسُ من التّراثِ العربيِّ القديمِ، ولا يُغالي المؤلِّفُ كثيرًا في القولِ بأنّهُ أوّلُ من أحيا في قصائده ذكرى امرئ القيس، كما لا تفوتهُ الإشارةَ لرموزٍ وأسماءَ من الأدبِ الغربيِّ. إضافةً إلى ما تقدّم، يشيرُ المؤلِّفُ إلى أنَّ مفردةَ كنعانَ تتكررُ تكرارًا ملحوظًا في شعرِهِ، ولهذا السّبب تحديدًا، لُقِّبَ بالشّاعرِ الكنعانيِّ، ولا يفوت المؤلّفُ أن يشيرَ إلى ملاحظةٍ مهمّةٍ وحصيفةٍ، هي أنَّ المناصرة مبتكرُ قصيدةِ التّوقيع، وللتّوضيحِ، فإنّ قصيدةَ التّوقيع، قصيدةٌ قصيرةٌ، تشبهُ الهايكو شكلاً ومضمونًا. تعزيزًا لما سبق ذكره، يستهلُّ المؤلِّفُ في الفصلِ الثّاني الحديثَ عن الازدواجيّةِ اللغويّة بين العاميّةِ والفصحى، كونها تعدُّ ظاهرةً بارزةً في الشّعرِ الحديثِ، وفي هذا الصّددِ، يشيرُ إلى أنّ مجلّةَ شعر، واجهتْ الازدواجيّة باللينِ والرّفقِ، ولم تضعِ الحواجزَ بين العاميّةِ والفصحى. من هذا المنطلق، أمكن المؤلِّفُ الجزمَ، إلى أنّ المناصرة من أوائلَ الشّعراءِ الذين تعمّدوا التّخففَ من قيودِ الفصحى، وإنكار الحدود الفاصلة بين لغةِ الكتابةِ والحديثِ اليوميّ. وفقًا لهذا التّصور، يسلّطُ المؤلِّفُ الضّوءَ على ديوانِ المناصرة الأوّل الموسوم بعنوان «يا عنب الخليل»، متتبعًا الازدواجيّة، ويلاحظ أنّها حاضرةٌ في شعره، إضافةً إلى ذلك، يرى المؤلِّفُ أنّ المناصرةَ ينزعُ نزوعًا لافتًا لمحاكاةِ النّطقِ العاميّ، إنْ كان على مستوى العبارةِ أو الجملةِ، علاوةً على ذلك، يميلُ لاستخدامِ ألفاظَ محكيّة على المستويين: الصّوتي والدّلاليّ. على ضوءِ ما سبق، يتتبعُ المؤلِّفُ في الفصلِ الثّالث عددًا من الشّعراء من أمثال: شعراء المهجر، ويوسف الخال، وعرار، والرّفاعي، وغيرهم، ممن دعوا إلى الاقترابِ من لغةِ الحياةِ اليوميّة، واستخدام اللفظ المألوف؛ لأنّه أقرب طريقًا، وأيسر تناولاً، وأكثر تأثيرًا في القارئ. وعلى هذا النّحو، يلاحظُ المؤلِّفُ حضور العاميّة في شعرِ المناصرة، خصوصًا في ديوانه الأوّل الذي سبق الإشارة إليه. وخلاصة القول: يرى المؤلِّفُ أنَّ الشَّاعرَ المناصرة، لا يتورّعُ عن استخدامِ المفردةِ الشّعبيّةِ والعاميّةِ محاكاةً بالشّكلِ والمضمون؛ خدمةً لإيصال رؤيته للقارئ. نخلصُ مما تقدّم، إلى أنّ الكتابَ يضعنا وجهًا لوجهٍ أمامَ شاعرينِ فلسطينيين كبيرين، ممن أسهموا في إثراءِ الحركةِ الشّعريّةِ العربيّة، وأحسبُ أنّ للمؤلّفِ قصبَ السّبقِ في إفراده كتابًا خاصًا عن الشّاعرينِ بعد وفاتهما، يضافُ إلى سلسلةٍ من مؤلَّفاته المتقدّمة والسّابقة.