عرار:

عمان :  يستحيل المكان في الدرس النقدي إلى تمثيل وتصوّر، يتشكّل في النفس، فيظهر جملة من الأحاسيس، والمشاعر التي ربما أثارها بحمولاته التذكُّرية التي لها صلة بالذات في لحظة من لحظاتها المعاشة.             
تعددت علاقة الإنسان بالمكان، فنجدها أكثر عمقاً في النواحي النفسية، والوجودية، والتاريخية، تظهر في نسيج لا متناهي للنص الجمالي، وتؤسس للامركزية الإنسان بالعالم.
ويلاحظ الدارس لنتاج محمود الشلبي الشعري حضوراً مكانيّاً واضحاً، تجلّى في معظم قصائده دون استثناء، وتفسير هذا الحضور هو ألفة الشاعر للأمكنة التي يحيا فيها، أو يزورها، ويرتبط معها بكلّ وشائج القربى، حيث يحرص على إبراز عناصر الجمال فيها.
لقد نجح الشاعر في أن يجعل من نفسه طاقة تتفاعل مع المكان، تتحد به، وتقدسه، وتعكس جمالياته، إذ إنّ العنصر المكاني، يُصاغ بخيال المتلقي، وأحلام يقظته، حيث يستعيد تجربة المكان الأليف، والذكريات المستعادة.
إنّ محمود الشلبي في محاولته للكشف عن خفايا، وبقايا خبرات طفولته، يلتصق بالمكان بشكل واضح، فهو لا يعيش طفولة زمانية مجردة، ليس للمكان دور فيها، لذلك يُشير إلى مكانية الأحداث التي عاشها إبان تلك الفترة ، فلدى الشاعر مشاعر الالتصاق بأرض معينة، لها معالمها، وأنساقها، وانبعاثاتها، فإحساس الشاعر بالمكان، يسبق إحساسه بالزمن.
والبحث في صورة الغوريات في شعر الشلبي، يرجع بالمتلقي إلى طفولة الشاعر، الذي ولد في  قرية» دنا» في بيسان، وانتقل مع أهله من هذه القرية الوادعة، إلى « الباقورة» في منطقة الأغوار الشمالية، وعمره خمس سنوات، إذ « لم تكن الباقورة وجارتها العدسيّة أمراً عابراً عند الشلبي؛ لأنهما ملاعب هواه، ومسارح طفولته التي أمضاها ما بين بيوت القرية الطينية، والماء الذي كان يعشقه، فلا يغادره إلا عندما يظهر جسر النور الممتد من الجبال المرتفعة بكبرياء غرب الماء إلى جبال « المدراج» الواقعة إلى الشرق، واصلاً بين أخوين فصل بينهما القهر، والجبروت»(1).
ولأن النمو الذهني للإنسان يبدأ بالمحسوسات، لينتهي بإدراك المجردات، فمن الطبيعي أن يكون للمكان أثاره على نمو الشخصية، وبشكل أقوى من الزمان، لاسيما في مراحل الطفولة، التي يظهر فيها تداخل الزمان بالمكان.
فالشاعر يتحدث عن طفولته في الأغوار الشمالية، بوصفها مصدراً مهماً لإبداعه، وحالة تشكّل خاصة عاشها في أمكنة ذات إيقاع جمالي خاص، فيقول واصفاً هذه المرحلة:» للطفولة في حياتي صور فنية، تحتفظ بها الذاكرة .. الطبيعة، والأحداث، وإيقاع الغربة.. تناغمت مع منظومة التشكيل الذاتي.. ليكون الطفل الماثل فيَّ حالة خاصة تشهدها قرية الباقورة.. تلك التي يطارحها نهر اليرموك عشقه، وتاريخه، وتنهداته صباح مساء، ولم يكن النهر بلا ذكريات حين كان هذا النهر يدعونا إليه للسباحة والصيد واللعب... فنرسم أوّل الخطوات في سلم التأمل، والعشق، والبحث عن وطن.. على الرغم من أنّ هذا الوطن كان قاب قوسين أو أدنى منّا، كان على مرمى حلم.. يلوح بعيداً عن قرب.. وقريباً على بُعد، لا يفصله عن الذات سوى ارتعاشة أجسادنا الغضة تحت شمس الغور اللاهبة.. ورغبتنا في معانقة الغامض المجهول كلما أشرق صبح، أو أفلت شمس.. هذه الطفولة لم تكن مجرد صفحة في كتاب العمر.. بل كانت كتاباً في تاريخ العمر.. تحكي عن قصة جيل كامل شردته النكبة.. وشكلته قسوة الحياة.. وجمار المعاناة.. ورياح التحدي.. فظلت فلسطين الهاجس، والحلم الذي يتنامى كطيف مجهول.. ويترسب في أعماقنا سؤالا كبيرا غامضا.
كانت مجمل الحالات والتحولات التي تقف على مفاصل الحياة اليومية مدعاة للبوح.. وإطلاق الكلام مجبولاً بجمر الهوى.. وماء الشريعة، فكانت الكلمات سطوراً نابضة بالحياة.. وصدى لها.. وكانت الذاكرة المكتوبة.. هي أول سطور الشعر في دفتر المحاولات.. بدائية كفرح الطفولة.. غضة خضراء مثل كينا العدسية.. أو حلفاء اليرموك، بل قل مثل وهج تعليلة بكر حَفِلت بغناء مختلف. . كان الشعر في داخلي نهراً يبحث عن مجرى.. أقول البيت أو البيتين، وأقف على تلَّةٍ من تلال الباقورة؛ لأناجي النهر
والوطن.. وأهتف باسم المدى.. فيسيلُ الشِّعرُ من فؤادي، ولساني، وأعقد القافية على بوح مُتحمِّسٍ للصهيل»(2).
لذلك فإنّ الغوريات في شعر محمود الشلبي تشكّل ظاهرة بارزة، فنجده يذكر بيارات الأغوار، وهضبات الباقورة، وكينا العدسية، ويتغنى بوادي اليابس، بوصفها أمكنة حاضرة على الدوام، إذ يتشكّل المكان وفقاً لذكريات الطفولة، حيث يرتد الشاعر إلى أيام الصبا، يستمد من وهج المكان ما يعينه على مواجهة الواقع، فتنتظم مفردات اللغة وفقاً لمعطيات المكان النفسية، وإرثه المتراكم في النفس، كما في خطابه للباقورة (3):
«الباقورة/ طيفٌ من الشجرِ الجميل/ صبيةٌ تحنو على فَخَّارِها/ ماءٌ يسافرُ في المدى/ والنَّهْرُ يُوقِظُ ما تبقّى/ مِنْ نيامْ/ والشمسُ تَصْحو في النَّدى».
وقد تكون جمالية المكان مدعاة لجعله موضوعاً لحالة تحفّز وجداني، تبوح فيها النفس بما تختزنه من ذكريات، حيث تتكاثف المشاهد، وتتلاحق الصور؛ لتخلق ؟أجواء نفسية مشحونة بعلاقة الشاعر مع مكان أليف، طالما حلم بالعودة إليه، كما في حديثه عن الباقورة(4):
«هي قريةٌ سهرتْ/ على أحلامها/ وتناثرتْ تمشي على ألامها/ هذا الفتى يَصْحو/ ويصعَدُ في الغرامْ/ يمشي إلى «تعليلةٍ»/ يزهو على أوتارِها/ نغمٌ شريدٌ/ في القُرى/ طيفٌ فريٌ/ في الورى/ هي قريةُ الأسماكِ/ والحَلفْاءِ/ والوجهِ/ لمُخبّأ/ في ارتعاشاتِ السُّرى».
وما هذا الفتى الذي يروي سيرته إلا هذا الشاعر العاشق لمفردات المكان، والمنتمي للباقورة، التي تركت آثار الحبّ والجمال في شعره.
ويرسم محمود الشلبي صورة سريالية للمكان، تنبض بحالة هياج نفسي، وتعلق أزلي بمكان يفرض نفسه على بنى النص الشعري، حيث يتقدّم أثره على الفعل المسبب له، كما في خطابه للعدسية(5): 
«العدسية/ سربٌ من الكينا/ وعينُ النَّبعِ تَروينا/ غناءٌ يرتمي بين المسافةِ/ والطريقْ/ يغدو السياجُ أمامَنا/ من «سَيْسَبانٍ»
ويمزج الشاعر بين مصاحبات المكان، وحالات النفس الإنسانية؛ ليعكس ضياعه الحاضر، واضطراب أفكاره، بعدما عصفت بها الأحداث، وكأنّه يجد في العدسية معادلاً موضوعياً لضياعه، ومأساته، حيث يقول سارداً عشقه للعدسية(6):
«والمدى بيارةٌ تمتددّ/ في أحلامنا/ نغفو لديها أو نفيقْ/ ونضيعُ عند ضفافِ/ رغبتنا/ إذا شطَّتْ بنا شُعَبُ المسافةِ/ وانتشرنا في الرحيقْ».
وترتد كثير من نصوص الشاعر الغوريّة إلى عهد الطفولة، التي  تظلّ « حيّة فينا، ومفيدة لنا من الناحية الشعرية على صعيد أحلام اليقظة، وليس على صعيد الأطفال، وبهذه الطفولة.. نُبقي على شعر الماضي»(7).
فقد يتداخل العنصر الزماني بالمكاني؛ لإحياء زمن الطفولة المشرق، بكلّ ما يحمل من عفوية وإشراق، إذ يلحُّ الشاعر على إبراز هذه الطفولة، كما في قوله مسترجعاً عهد الطفولة (8):
«نغمٌ تجودُ به الصبايا/ في الحقولِ/ وعند خَصْرِ النَّهرِ/ يجمعُنا الشروقْ/ هو موكبُ اليوم/ المشجّر بالطفولةِ/ إذ تضجُّ على المداخل/ أو تروقْ».
ولمّا كانت إحدى وظائف المكان التعبير عن الزمن مكثفاً، فإنّ الشلبي يستغل جماليات مكانه الغوري؛ ليكسبها ملامح طفولته الهانئة التي سلبها الزمن رونقها، وجعلها تكتسب بنشوة الحنين إلى ماضٍ راحل، كما في حديثه عن وادي اليابس الذي عاش فيه مرحلة مهمة من طفولته(9):
«هذا مكانُ الخُضرةِ الأولى/ وغناؤها المسبيُّ/ في وجه تألَّقَ في دروبٍ/ نشتهيها كُلَّما رحل النهارْ/ الشمسُ قنديلُ المحبّةِ/ والرؤى قرصُ الحنين/ إلى فضاء ِ كحّلَتْهُ الريحُ/ بالحورِ المنضَّدِ/ والطيورْ».
وقد تتشظى الذاكرة التي ارتبطت بأفق الشاعر؛ لتنبعث من خلالها ذاكرة جديدة أشدُّ ولعاً من الأولى، إذ تعيد إنتاج العلاقة داخل نسق إبداعي، يهيم بالغور، وسحره الجمالي، كما في قوله(10):
«طقسٌ يَهِلُّ.. ولا يغيبُ/ ويمتلي بالأرجوانِ/ ويعتلي خيل المياهِ/ إلى دروبِ الغورِ/ كي تبقى الحياة».
فالشاعر يتسامى بالمكان منسجماً مع ذاته، فيضفي عليه طابعاً حداثيّاً، يعمّق من دوره الجمالي، ويعزز من قدرات المتلقي التواصليّة.
ويرتدّ الشاعر إلى وادي اليابس الذي شهد طفولته، بعدما أسهم الزمن الحاضر في تأزم مأساته، مما جعله يألف ـ بشكل لا شعوري ـ ذكريات الماضي، وما تأصل فيها من عفوية، وهناء، حيث يقول(11):
«أرنو إلي رُمَّانةٍ/ تحنو على نَبْعٍ تَفَجَّرَ في دمي/ ويفيض ماءُ القلب/ مُنسْرباً/ إلى سِرْبِ القَطا.. والبيتْ».
ويرسم الشاعر صورة بصريّة للمكان، تجعل إدراكه بوساطة اللغة ممكناً، إذ إنّ وظيفة الكلمات في المحيط الخارجي لا تعدو أن تكون مجرد إشارات لأشياء بعينها، ذلك أن وجودها داخل سياق النص يمنحها بُعداً دلاليّاً أعمق، إذ تخرج هذه الكلمات من مجرد كونها إشارات أو علامات إلى كونها رموزاً ذات كثافة دلاليّة، وهي بذلك تنتقل من معناها الدلالي المباشر إلى مستوى أعلى في الدلالة، حيث يستحضر أسماء الأحياء، والأماكن في الباقورة، مثل الحمرا، وحواسّة، ودكانة منّاد، وغيرها من الأماكن التي طالما عشقها، وتغنّى بها، فضلاً عن ذكره لأسماء النباتات الغوريّة، كالحلفاء، والطرفا، والطلح، مما جعل من شعره معجماً راصداً للبيئة الغوريّة، كما في قوله(12): 
«لا يُمهلُني الوقتُ/ لأقرأَ وجدانَ الأرضِ/ وزغردةَ الماء/ من النهرِ إلى (خابيةِ) الدارْ/ أُسْرِعُ للفرحةِ/ أنهلُها من عُرسٍ، مُكتملِ البهجةِ/ في «حواسة» أو في «تعليلةِ» حارتنا/ أو في ساحة دُكّانة (منّادْ)».
لقد مثلت الغوريات في شعر محمود الشلبي طللاً خالداً، أخصب القصيدة بجماليات التعبير بعيداً عن مظاهر الزوال والفناء، تنبض بأحاسيس الشاعر، وحركة نفسه بتقلباتها المستمرة، وحركتها الدائبة، إذ تمتد الذات الشاعرة إلى الماضي القريب؛ لينقذها من قتامة الحاضر.