د. إبراهيم خليل تمثل رواية « المحاصرون « لفيصل حوراني واحدة من روايات عدة يرصد فيها مؤلفوها ويتابعون ما يمكن تسميته بأدب السجون. وهو أدبٌ غنيٌ وثري وذو جذور عميقة ممتدة في القديم من الأدب العربي مثلما هي ممتدة في الأدب الحديث (1). والمحاصرون في الرواية هم في الواقع ثلة من الفدائيين كتب عليهم أن يحاصروا حصارا شديدا من إخوة لهم في إحدى دول المجابهة العربية – دول الطوق- مع الكيان الإسرائيلي. وقد أضرب المؤلف عن ذكر البلد والدولة وتحديدها بالاسم شأنه في ذلك شأن العديد من الكتاب العرب الذين يؤثرون استراتيجية اللا تعيين بتعبير الروائي السوري نبيل سليمان. فأفضل روايات عبد الرحمن منيف، وهي شرق المتوسط، أضرب هو الآخر عن تعيين القطر أو الدولة أو العاصمة التي تجري فيها الحوادث. ولعل في عدم التعيين شيئا مما يمكن وصفه بتعميم الرؤية الانتقادية لواقع عربي متشظٍ، الأخ فيه يعتدي على أخيه، والقريب يأتمر على أقربائه، متخذين من إخوة يوسف نموذجًا يحتذى، فلا يأمن أحد في هذا الوطن العربي على نفسه. ففي «المحاصرون « يختار المؤلف، الذي سبق له أن أصدر روايتين هما: بير الشوم، وسمك اللُجَّة، المدة الزمنية القصيرة التي أعقبت نكسة 5 حزيران- يونيو 1967 فقد برزت في الأثناء ظاهرة وجد فيها الإنسان العربي بعضًا مما يرد إليه الإحساس بكرامته المهدورة ، وهي ظاهرة المقاومة والعمل الفدائي. وتدافع شبان من أقطار عربية عديدة وانضموا للفدائيين. وما هي إلا أشهر معدودات حتى تشكل من هؤلاء ما يوصف بشيء من التجاوز جيشًا للتحرير، غير أن هذا الجيش لم يكن نظاميًا، بل كان يضم في صفوفه أعدادًا من المتطوعين، وبعضهم بلا شك يفتقرون للخبرة التي تجعل منهم ثوارا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وتسلط « المحاصرون « الضوء على الأخطاء التي ارتكبها أمثال هؤلاء، واستغلال بعض الأنظمة العربية لمثل هاتيك الأخطاء، مما عجل في تفجير الخلافات. وبدلا من أن تتوجه البنادق جميعا نحو العدو المحتل، إذا بها تتجه من الرفاق إلى الرفاق، ومن إخوة السلاح إلى إخوة السلاح. ومن هؤلاء بطل هذه الرواية (خالد) وبطلتها التي سماها (سميرة) وفي الرواية شخصيات أخرى أبرزها الرائد الذي يؤدي، وينهض نهوضا ملحوظا بدور المحقق الذي كلف بالتحقيق مع أولئك الذين تم زجهم في السجون، بعد أن حوصروا، ونفدت ذخيرتهم، واستسلموا، وهم بطبيعة الحال ينتظرون أحكاما ما بين المؤبد والإعدام. على أن الكاتب فيصل حوراني لا يفتأ يلقي بالضوء كاشفًا على جذور الشخصية، فمن خلال السرد المباشر للراوي نستطيع أن نعرف من هو خالد. فقد لجأ إلى غزة عام 1948 وبقي فيها لدى أسرة أبي جلال مدة أربع سنوات. خلالها أتم دراسته الابتدائية. وظل يتوق لمغادرة غزة، لا سيما بعد أن أظهرت أسرة العم أبي جلال تبرما وضيقا بوجوده، ولهذا فضل المغادرة إلى دمشق، وفيها تابع دراسته الثانوية، إلى أن حصل على البكالوريا عام 1958 وفي العام المذكور انتسب- مثلما يقول عن نفسه- لجامعة دمشق، وانتهت دراسته فيها بالحصول على إجازة في التجارة 1962 وبشهادته تلك تمكن من أن يجد عملا بقي مستمرًا فيه إلى عام 1967. وربَّ سائل يسأل: ما هذه المعلومات التي توردها لنا عن خالد وكأنها سيرة؟ تعقيبًا على هذا السؤال لا بد من الإشارة، أو التنبيه إلى أن خالدًا بعد العام 1967 انضم للفدائيين، واشترك في دورات تدريبية، وارتقى في مهماته حتى أصبح قائدًا. وجرت له في الأثناء وقائع غير متوقعة منها تعرفه على سميرة البوارشي، وهي أيضا رفيقة من رفاق كثر انضموا للعمل الفدائي المقاوم للاحتلال، الساعي لتحرير الأرض، وتحرير الإنسان. وقد طلبَ ضابط التحقيق (الرائد) من خالد أن يدوِّن قصة حياته بالتفصيل، وهذا أسلوبٌ يلجأ إليه المحققون فيما يذكر المؤلف لكي يعدوا للمُعْتقل ملفًا، لكنَّ خالدًا أوجز كثيرا في ما كتب، ولم يذكر سميرة، مما دعا المحقق للاعتراض غاضبًا بسبب هذه النبذة القصيرة، والأسْطر القليلة، التي لا تتضمن أي معلومات تتعلق بتنظيمه، ولا بسميرة التي جرى اعتقالها هي الأخرى، على الرغم من أنها لم تكن في صفوف المحاصرين. ويروي لنا الكاتب على لسان الراوي العليم شيئًا من أسرار سميرة، التي كانت قد عرفت خالدًا قبل سنتين من الاعتقال، في حينه كانوا قد أبعدوه عن العمل المسلح، وكلفوه بإدارة مكتب العلاقات العامة، فقد جيء بها لتعمل فيه. في البداية لم يكترث بها خالد، لكنه بعد أيام انجذب نحوها، وكانت قد تزوجت من حركيٍّ آخر(وليد) يكنى بأبي الملاحم. ويبدو أن زواجها من وليد هذا لم يكن موفقا، ولا ناجحًا، وانتهى بانفصال الزوجين. وقد أنس خالد لذلك، وشعر بالارتياح لما علمه من أمر علاقتها بأبي الملاحم هذا. وقد نسج لنا الرواي عن طريق التخييل صورة لسميرة تعود بنا إلى جذورة الأسرة في حيفا. فوالدها أبو سمير كان مدرس لغة إنجليزية، وشد الرحال إلى دمشق عندما لاحت له نذُرُ النكبة، وهناك عاش مع زوجته وولديه ورزق بسميرة، فهي من مواليد دمشق. ولم تفتقر الفتاة للرعاية لا سيما بعد أن انتقلت أسرة أبي سمير للكويت. وعلى الرغم من أن الحياة في الكويت رغيدة إلى حَدٍ ما، إلا أنها لم تكن خلوا من بعض المنغِّصات، فإلى جانب الشعور بالغربة والحنين للوطن، ثمة نظرةٌ غير ودية يصوِّبها الكويتيون للوافدين المقيمين بمن فيهم الفلسطينيون. فهي نظرة لا تخلو من ازدراءٍ وانتقاص. ومما زاد الطين بلة أن الحاج عبد اللطيف، وهو طاعنٌ كويتي دُعي مرةً لتناول الطعام في منزل أبي سمير، ووقع بصره على الفتاة، التي لم تكن قد بلغت السابعة عشرة، وما هي إلا أيام حتى طرق البابَ خاطبًا سميرة لنفسه. وكالعادة تردَّدَ الأبُ، والأم، في إجابة الحاج المتصابي، متذرّعيْن بضرورة استشارة الفتاة. أليست هي التي ستتزوج؟ وعندما علمت سميرة بذلك فقدت صوابها. فقد كان حريًا بهما أن يرفضا هذا، وألا يتردَّدا. وقد أحنقها أنهما لم يخبراها بذلك إلا متأخريْن، ووصفت تردُّد أبيها في الرفض بالجبن. أما الحاج عبد اللطيف، فقد فوجئ بموقف الفتاة، وبموقف الأسرة، عمومًا، وسعى لإبعاد الأسرة من الكويت. وعندما أنهي عقد العمل الذي حضر بموجبه أبو سمير للكويت، غادرها إلى الإسكندرية. وفيها التحقت الفتاة بالجامعة. وهذا كله مما تستذكره سميرة عن طفولتها، وماضيها، في دمشق والكويت والإسكندرية، قبل أن تلتقي خالدا الذي باحت له بأن حياتها تفتقر إلى الحميمية افتقارًا شديدًا. فحتى اقترانها بوليد ( أبو الملاحم) لم يكن أكثر من مجاملة اضطرتْ إليها في الظروف المأساوية التي أعقبت الرحيل من الكويت إلى مصر. لكنها لا تخفي أنها أعجبت بوليد هذا عندما اكتشفت انتماءه لنظيم فدائي فلسطيني، وأنَّ هذا التنظيم اختارهُ مسؤولا عن فرعه بمصر. على أن الأيام باعدتْ بينهما، وازداد الأمر سوءا بعيد حرب 1967 ونتائجها المدمرة. فقد كان وقْعُ تلك النتائج صادمًا عليه، وعليها، مما اقتضى أن تنضم هي الأخرى للتنظيم على الرغم من أن أبا سمير – والدها- لم يكن مرتاحًا لهذا، فهي لا خبرة لديها في مجال السلاح. واللافت أنَّ في هذه الرواية شخصياتٍ أخرى إلا أنها تقل أهمية عن هاتين الشخصيتين. أعني خالدا وسميرة. فأبو محمود، الذي كان جنديا في الجيش، وارتكب خطأ عوقب بنقله حارسا في السجن، هو الذي ساعد خالدا على الاتصال بسميرة عن طريق الرسائل، غير أنه اكتشف، وعوقبَ، وسجن هو الآخر. وزكية هي الأخرى اعتقلتْ، والتقت بسميرة. والمحقق (الرائد) هو الآخر من الشخصيات التي صُبَّتْ في قالب واحد لا يتغير، فقد سار تحقيقه مع البطل من البداية في مسارين اثنين، أولهما لمعرفة أسرار التنظيم وخفاياه بعد أن ألحقت به هزيمة منكرة، وهربت قياداته إلى دولة مجاورة. ومعرفة ما إذا كانت لهذا التنظيم خلايا كامنة هنا أو هناك يخشى أن تعود بالمقاومة إلى سابق العهد الذي أدى لتلك الصدامات. والمسار الثاني هو التغلب على عناد خالد، وترويضه، وإقناعه بالعمل معَهُ، ومع السلطة تنفيذًا لرغبات الباشا الذي تتكرَّر الإشارة إليه في التحقيق دون تحديد لاسمه. والمؤلفُ يسلط الضوء على عناد خالد، وصموده، مقابل إصرار المحقق على انتزاع اعترافات باستخدام الترغيب تارةً، والتعذيب تارة أخرى. وقد أماط الرواي العليم الستار عن قاعة التعذيب، وما فيها من أدوات، ووسائط تكنولوجية تم اختراعها وابتكارها لهذه الغاية. ومن المؤسف أن يلجأ الرائد لتعذيب سميرة أمام عيني من يحبها- وهو خالد - في مشاهد يقشعر لها بدن القارئ. وقد اختتم الراوي حكايته هذه بمشهد العُري الذي تتحدى فيه سميرة الجلادين، فما كان منهم إلا أن غضوا أبصارهم، وطأطأوا رؤوسهم، في إشارة لإخفاق التعذيب، وعجزه عن تحقيق أهدافهم ما دام المعتقلون يتصفون بالصمود، وجاءت مغادرة الرائد قاعة التعذيب هذه دليلا على ذاك الإخفاق. ومما ينبغي أن نشير له، وننبه عليه، أن معرفتنا بالشخوص لا تتوقف على ما يذكره السارد، وما يرويه من أحوال، وما لقيه شخوصها من أهوال، فلو اقتصر على ذلك لكانت الرواية فجة، وسطحية، ولكننا نتعرف، ونزداد معرفة بالشخصيتين الرئيستين سميرة، وخالد، من خلال الأفعال التي يقومان بها، علاوة على الحوار. فالكاتب لجأ إلى هذه الطريقة التمثيلية في سبر غور الشخصيات. وقد ذكرنا بعض ما قامت به سميرة، وبعض ما قام به خالد، مما يشير بوضوح لهذه الطريقة الفنية في التشخيص، أما الحوار، فقد اغتنت الرواية به، وهو يمثل علامة تفرق بين هذه الرواية الدرامية وغيرها من روايات تقتصر على السرد وحده. والحوارُ يلفت النظر بما فيه من نبرة حادة، وعالية، مدوية، لا سيما تلك التي يتصف بها حوار خالد، ورائد - المحقق. فكلما قرأنا ما يردُّ به خالد على المحقق ازددنا قناعة بالمزايا القيادية لهذا الرجل الذي يبدو لنا على قدر عالٍ من التثقيف السياسي، والإيديولوجي, وبعض هذه الحوارات تشهد على أنه (خريج) سجون، متمرس، وقد عرف محققين كثرا بأساليب تحقيق متعددة، وهذا الذي يسمى رائدًا ليس أكثرهم قسوة، ولا أقلهم ذكاءً. والأساليب النفسية التي يتبعها المحققون لكسر شوكة المعتقل معروفة لدية، وقد مر بها ومرت به، لذا فهو يقدم نموذجا للصمود ناتجا عن سابق خبرة. والحوار الذي يتصل بينه وبين السجان أبو محمود حوار مختلف، فهذا ينم على مشاعر إنسانية لا موقع لها في الحوار السابق مع المحقق. أما ما يتفوه به الرائد- المحقق- فهو الآخر ينم على خبرة في التحقيق، وعلى تجارب في ترويض المعتقلين، وتجنيد الأتباع، وتليين رؤوس الرافضين للخضوع، المتمردين الرافضين للانحناء والركوع، وتحويلهم بالدهاء من العصيان إلى الإذعان. مع التظاهر بالدماثة حينا، وبالعنف حينا آخر، والتلويح بالتعذيب تارة، وبالترغيب تارة أخرى. فهو ثعلبيُّ الحوار، لا يعوزه الذكاءُ والخبث. ولا تفتقر شخصية سميرة لما ينم على علو النبرة في الكلام الذي يجري تبادله مع المحققين، من قميء القامة إلى الرائد وغيره. وبهذا تكتسي رواية فيصل حوراني الطابع التمثيلي، أي ذلك البناء الذي تصقل فيه الشخوص بما تقوم به من أفعال، وما يُنْسب إليها من حوار وأقوال، وهو الطابع الذي يقرّبها من الرواية الجيّدة شكلا، والقيمة فحوىً. ـــــــــــــــــــــــــ (1) من الروايات التي تضيف جديدا لأدب السجون رواية القوقعة لمصطفى خليفة، ورواية سمر الليالي لنبيل سليمان، ورواية القلعة الخامسة لفاضل العزاوي، ورواية سبعة أبواب لعبد الكريم غلاب، والأرجوحة لمحمد الماغوط، والساحات لسالم النحاس، والزنزانة رقم7 لفاضل يونس، وأخيرا رواية غوانتنامو ليوسف زيدان. للمزيد انظر فضاء السجن في الرواية العربية(ر.ج) لجمانة صو .
الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 04-10-2019 10:51 مساء
الزوار: 1400 التعليقات: 0