يمثل ديوان «النجديات» صورة رائعة للأدب الرفيع والشعر العالي، وها قد مضى على خروجه من بين أسنان المطابع قريبا من أربعين عاما دون أن يلقى ما ينبغي من اهتمام وتكريم، وإن ما طرح عبر الصحف من ملاحظات حوله، لا تتجاوز إشارات فقيرة خالية من كل مقدمات النقد الواعي العميق، وغاية ما خرج به بعضهم انه ديوان نفض عنه غبار الجاهلية ليبعث في القرن العشرين، ولا ادري كيف القي في روعهم مثل هذا الظن، ومع أني استشعر معهم ميل الشاعر إلى استخدام بعض الألفاظ الجزلة التي ما اعتادت عليها ثقافتنا الصحفية...، إلا أن ما يحويه ديوان النجديات أعمق من الصيغ واكبر بكثير، ولعلي في هذه العجالة القي ضوء بسيطا على بعض الدلالات البالغة الثراء والروعة في ديوان النجديات لشاعره الكبير المرحوم عبد الفتاح الكواملة: انظر إليه إذ يقول من قصيدة «الحلول في نجد»: «عجبا أيها الفؤاد اخفقا عاصفا بالضلوع والأوصال أن حللت الديار من ارض نجد بين زرق الذرى وصهب الرمال وكأني بل المحب يلقى بعد مر الفراق حلو الوصال». ويتغنى بالصحراء في معرض آخر فيقول: عفو القصائد يا رمال فإنهم جهلوا عليل فسامحي الجهلاء كم اطلعت هذي أصحاري كوكبا في الدهر يقتحم الدجا وضاء». لا شك أننا نلمس ذلك الفيض الرائع من الجمال والحياة الذي يفضيه شاعرنا على رمال صحراء نجد وكيف انه جعل من سكون رمالها حديثا عبقريا يعزف على قيثارة الريح، جاعلا من كل ذرة غبار من هذه الصحراء أنشودة شعر وشعراء. ولعل عشقه للصحاري ورمالها أعظم مما نتخيل، ولعل أبياته التالية تضيء جوانب من هذا العشق العظيم حيث قال : «أحبك يا صحراء لا المال ابتغي يوصلك مكنوزا ولا عيشه خفضا ولكنه حب إذا حيل بيننا وبينك أذرى الدمع أو منع الغمضا ولو ملئت تلك الرمال افاعيا لما وجدت نفسي لكثبانها بغضا». ولعلك تلمس نفس شاعرنا المرهفة وهي تجاوز البشر إلى الأشياء والجمادات فتبعثه على أن يقول تأثرا بحجر أو اثر أو صورة عابرة أو نخلة منفردة أو جبل يتطاول على أقرانه علوا وصلابة. وفي معرض وصفه للجبال يقول من قصيدة «رحلة»: ورنت شماريخ الجبال كأنها من طول مكث تشتكي إعياء ناءت بأحقاب الدهور صخورها واقلها الدهر الطويل فناء تطفو على ثبج السراب وفي الدجا ترعى القرى وتسامر الصحراء ولعل أكثر ما يثير النفس ويبعثها على الإعجاب، ذلك الشعور الصادق بالالتفات إلى أبناء الأقاليم العربية التي كان يعمل فيها، واستنكاره الشديد لمظاهر اللامبالاة والتقصير والتخلص من بعض من يصفهم «بالمرتزقة». وفي ما يأتي من أبيات نستشعر حرصه الشديد على أهل البلاد ومستقبلهم من خلال دعوته إلى الاعتماد في نهضتهم على جيل الشباب حيث يقول: أغابات النخيل حيال «فرق» سقاك من السحائب مرثعن واقبل من بنيك بجيل صدق إذا خطب دهاك فهو المجن يشق غمار أفاق فساح جناحاه بها علم وفن ويخلف كل مرتزق جليب هو البلوى على وطن يئن وكل منافق معسول قول ومهجة قلبه حسد وضغن أما الحكمة الصائبة، نتاج الفكر العميق والتجربة الصادقة، والثقافة العميقة فانا نكاد نجدها في كل قصائد الديوان ومن ذلك: «لا ضير يا غيلان أن يقضي الحياة الملهمون إلى الورود ظماء فبذلك الظمأ المقدس يرتوي دوح الفنون ويستطيل نماء وترف أجنحة عليه ندية للوحي تخفق بكرة ومساء». وللموت في نفس شاعر النجديات اثر يأخذ عليه جزءا كبيرا من نفسه الحساسة ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن قصائده في الرثاء على قلتها تضعه في مقدمة شعراء الرثاء قوة وجودة وصدق عاطفة، قل أن نجدها في شعر الرثاء. ولعلك تلاحظ معي خلو قصائده من ذلك الأسلوب الذي لا هو بالرثاء الخالص ولا بالمدح الخالص، والذي يغلب على رثاء سائر الشعراء، إنما هو رثاء محض خرج من عمق الفجيعة والألم، ليدخل القلب على غير استئذان ومن رثائه: إن عشت بعد حبيب أو أخ ذهبا فأنت لم تقض للأحزان ما وجبا وأينا لم يكن هذه العقوق له سجية منذ عرفنا الناي والشجبا يبلى أحباؤنا تحت الثرى ولنا فوق التراب مسرات فواعجبا أراك في النوم حيا ثم يفجعني بك الصباح فليت الحلم ما ذهبا ما للقوافي عصيات القياد ولو اسمحن أفسحن للأحزان مضطربا من لي بقلب جديد حزنه أبدا وقف عليك ودمع لم يزل سربا فقد رثيتك بالقلب الذي أخذت منه الفواجع والدمع الذي نضبا وإنك لتلمس وأنت تقلب النظر في قصائد الديوان ذلك الأثر الديني الذي ينير زوايا الإيمان في نفس مشاعرنا المعذبة ويبدو ذلك في أبيات كثيرة مبثوثة هنا وهنالك. ومن ذلك قوله: «ويح ابن ادم لا دنياه باقية وليس يعمل للأخرى فيغتنم نعم الفتى من قضى عمرا فلا كسبت سوءا يداه ولا زلت به قدم يا رب حال فؤادي مشفقا وجلا الدمع ينبئ عما فيه لا الكلم يودي به الشك أحيانا ويقهره حتى إذا ما ارعوى أودى به الندم» وللشاعر فلسفته الخاصة في الحياة والجود والعدم، يقول من قصيدة «النهاية»: «يا صاح أوشك هذا العمر ينصرم وكاد إشكال هذا الدهر ينحسم وددت اذهب في إغفاءة كرمت بدءا وليس لها في الدهر مختتم» وله أيضا فلسفته في الحب لما بعد الحياة حيث يقول : «إذا مات الهوى في يوم بعث فكيف إذن على بر أثاب وما الفردوس عند أبي علي إذا انسي الأحبة والصحاب ويا للموت من وحش فظيع إذا أودى بعاطفة تباب لعل العالم الروحي فيه لقاء أو سلام أو كتاب». كان الشاعر عبد الفتاح الكواملة رحب النفس منفتحا على الحياة الغنية الثرية بكل أبعادها وان اختلف عن سائر الناس في ما يذهبون إليه وقد كان
متحيزا في كل شي للأدب الرفيع والشعر العالي والغناء المرهف المطرب وقد كان للموسيقى والغناء العالي في نفسه اثر واضح انعكس على شعره ومن ذلك ما قاله في قصيدة أسمهان وكذلك قصيدة أم كلثوم. حيث يقول في بعض أبياتها: «يا أم كلثوم هاتي اللحن منسكبا يجري فيجري الهوى والشوق والطربا ينثال فالنور لا مجراه منخدش ولا تدافع منه الموج مضطربا يعلو فتنتفض الأشجار من طرب ويوشك الحجر الجلمود أن يثبا..». للحب مجاله الرحب الذي حلق فيه الشاعر كما لم يحلق شاعر من قبل واني أكاد ازعم انه لم يبلغ صدق أحاسيسه وثراء مشاعره ودقة صورة النفس العاشقة العذرية شاعر أخر، ولعلي ازعم انه لم تبلغ قصيدة حب ما بلغته قصيدة « الجماء» أو قصيدة « قران» فان أحداهما آية تفيض سحرا و إحساسا وحزنا. وإذا حفظ لنا تاريخ الأدب سيرة شعراء عشاق أمثال جميل وابن الملوح فاني أجد شاعر النجديات حقيق أن يخلد ما خلد الدهر شاعرا عاشقا أعاد للحب صورته الطاهرة النقية العفيفة العذرية، فهو شاعر العذرية في عصرنا الحاضر بلا منازع ويكفى للدلالة على هذا قوله من قصيدة «عتاب»: «رغم الفراق وضيعة الأمل مزروعة في القلب لم تزل يا ويح نفسي كلما زهقت شوقا إليها مد في اجلي ضنوا بصورتها علي فلم أر مثلهم يوما ولا مثلي ما راهب متعبد ورع في الدير بالتسعين مشتمل» هذا هو الحب عند شاعر النجديات ويكفي أن تعرف انه زهد في النساء وفاء لشعوره وإحساسه إلى يوم وفاته. ولعلي أزعم مرة أخرى انه لم يصل شاعر عاشق ما وصل إليه شاعرنا من تفاصيل للمشاعر والأحاسيس ولعله بلغ بحديثه عن اسم محبوبته بتلك الكثافة والرقة ما لم يبلغه شاعر أخر لا في زماننا الذي نعيشه ولا في مما مضى من الزمن ويكفي أن ننظر إلى قصيدة «الجماء» لتعرف كيف أحاط بالاسم ما أحاط من هالات التقديس والإكرام، ولعل قصيدة «اسم» إذ انثر بعض أبياتها تعطي دلالة على ما ذهبنا إليه: «ما أعذب اسمك في ثغري وان كتبت حروفه اثمل العينين والكبدا فأي شهد سماوي به نضحت تلك الحروف وأي الراح متقدا أما إذا احد ألقاه في إذني أصمني جزعا واغتالني كمدا لن يوجد الدهر في الأسماء مشبهة كانت في الناس من حسن ولا وجدا». هذا جانب من وجدان شاعر النجديات، يشير إلى بعض من نفسه الغنية الرقيقة، واني أخالها بحرا عظيما، هادر الموج حينا... هادئا رقيقا حينا آخر... يتسع للمتوحش المفترس، كما يتسع للأليف الوديع، يحمل الموت والدمار، كما يحضن الحياة والحضارة. ولعل لأحاسيسه المتباينة ونفسه المتشابكة فضلا في إمتاعنا بتلك الأشعار الغنية الرائعة. وبعد لعلي أكون قد وفيت ديوان النجديات وشاعره بعض حقه بكل أمانة وتجرد ولعلي أكون بهذه الملاحظات قد ألقيت بعض الضوء على جوانب من هذا الديوان المبدع.