|
عرار:
إبراهيم خليل بعد روايته (اشتباك 2017) تصْدُر للقاص سعادة أبو عراق رواية ثانية بعنوان ثلاث عشرة ساعة (هبة للنشر2019- ويشير الكاتب ص 217 إلى انتهائه من كتابتها عام 1998) مسلطاً فيها الضوء على الفروق الاجتماعية والطبقية التي تعيشها، وتعاني منها، الأكثرية الصامتة، والفئات المنسحقة، في المجتمع الأردني بصفة عامة، ومجتمع العاصمة عمان على وجه الخصوص. إلى جانب تصويره الساخر لفساد النخبة، والطبقة الحاكمة، بدءا من المستويات العليا في السلطة، مرورا بكبار المسؤولين، والعاملين في الخدمات العامّة، حتى المراسلين. فثمة حيّان في الرواية أولهما ضاحية الأندلس، ويزعم الراوي أن هذه الضاحية سميت بهذا الاسم لأن القصور والفلل التي شُيّدت فيها تذكر السائح، والمشاهد، بما قيل ويقال عن الآثار المعمارية العربية في الأندلس، على أنه لا يكتفي بهذا، بل يوضح - مضيفا - أن بعض المباني في هذا الحي الذي يشهد على ثراء ساكنيه، وبَذَخهم، متأثرة بالتصاميم الرومانية، والأوروبية، وبعضها مستنسخ من تصاميم هندسية روسية، وهندية إلخ... فمن يزرْ ضاحية الأندلس – إذا أتيح له ذلك، على الرغم من أن هذا ليس سهلا، ولا يسيرًا، إلا على خاصَّة الخاصة – يجدْ فيها نمطا من الأحياء التي تتمثل فيها أرقى العواصم في العالم. صفقة وكانت الأرض التي أقيمت عليها هذه الضاحية قد استولى عليها أحدُ المُحتالين (أبو ماهر) من مهاجر أردني – عمّاني مقيم في الولايات المتحدة، ساءَتْ أحواله المادّية كثيرًا، فأراد بيع ممتلكاته من أرض (المِقْيَل) في غرب عمان بأيّ ثمن(ص81) ولأنه يقيم في المهجر، ولا يعرف أسعار الأراضي، فقد وعده أبو ماهر هذا بالاستفسار من أصدقائه أصحاب المكاتب العقارية. وأوهمه أنها قد تباع بثمن ضخم لا يقل عن 50 ألف دينار، وأنه راغبٌ في عقد هذه الصفقة، فما كان من المالك إلا أن وافق على البيع بهذا الثمن البخس، ظنًا منه أنه مبلغ كبير مقابل أرض لا يعرف قيمتها حق المعرفة. وتم تسجيل وثائق نقل الملكية في القنصلية الأردنية في واشنطن، مع أن الأرض كانت- في حقيقة الأمر- أغلى من هذا المبلغ بكثير، إذ تقدَّر قيمتها بما لا يقل عن عشرة أمثال هذا المبلغ، أي نصف مليون دينار (ص83). وبيعتْ فيما بعد على هيئة قطع، وصنِّفت ضمن المناطق الخاصة التي لا يتاحُ لأيّ مواطن أن يشتري فيها قطعة، أو يبتني منزلا، إلا إذا كان من أصحاب الملايين، وملفّهُ الأمني يخلو من السَوابِق. مقابل هذه الضاحية التي يقيم فيها رئيس الحكومة (أبو سائد) وأم سائد، وسائد ابنهما الوحيد، ثمَّة حيّ – وهذا هو الثاني- أسهمت الظروف الاجتماعية في إيجاده. فإلى قطعة الأرض التي لا يمتلكها مالك معين (أميرية) توافدت عشرات العائلات الفقيرة المهمشة، التي لا تمتلك شيئا، وأصلحت ما يمكن إصلاحه، وأتخذت لها بيوتا من الصفيح، أو الطين. وفي سنوات قليلة تحوَّلت هذه البيوت الواطئة إلى حي كبير مزدحم بالسكان عُرف بحي الكسارات لقربه من محاجر يتم فيها تحويل الصخور والحجارة إلى رمال (ناعمة) أو بَحْص (حصمى) من أجل البناء، وهذه الكسارات- بطبيعة الحال - لا تبخل على سكان هذا الحي الشعبي بالغبار الذي يزيدهم معاناةً على معاناة. الـ B.B.C تبدأ وقائع الرواية بتلقي رئيس الحكومة (أبي سائد) خبرًا أذيعَ من راديو لندن تمكن من الظفر به أحدُ مراسليه في عمّان عن اشتباكات، وحوادث عنف، تدورُ رحاها في ضاحية الأندلس، وعن حريق مستَعر يشبّ في السوبرماركت الشهير فيها، وعن وقوع خسائر مادية جسيمة، وكبيرة. وقد وقع هذا الخبر على مسامعه وقوع الصواعق، فبيانه الذي حازت وزارته على أساسه الثقة من البرلمان يقوم على تبنيه لما يسميه بالاستراتيجية الأمنية الشاملة. وهذا الخبرُ كأنه يُذاع في هذا الوقت بالذات ليفسد عليه هذه الاستراتيجية، فكيف يقنع النواب - بعد اليوم - أن استراتيجيته هذه ليست حبرًا على ورق. وها هي ذي الأحداث تقدم لمعارضيه شاهدًا حيًا ملموسًا على خواء هذا المخطط الاستراتيجي؟ لذا جُنَّ الرجل، وبدأ اتصالاته بوزير الداخلية تارةً، والإعْلام تارةً، ومدير الأجهزة الأمنية تارةً أخْرى. ومن هذه الاتصالات تبلور الموقف، وهو ضرورة (لفلفة) القضية، وإخفاء ما جرى عن الناس، وحظر النشر، والسيطرة على وسائل الإعلام، المرئية منها والمسموعة، وتصوير الأمر بصفته « طوشة زعران «. والذي غاب عن ذهن رئيس الحكومة، أن ابنه سائد – الطالب في الجامعة- هو أحد مسببي الحادث. فأمّ سائد ما إن سمعت بالخبر حتى بدأت البحث عنه، والاتصال به، غير أن هاتفه المحمول لا يجيب. ومن مجريات الحدث، لاحقا، تبيَّن أنه موقوف مع الموقوفين من زعران حيّ الكسارات بتعبير الرائد فهد الحسين، الذي يتطلع لفرصة تسنح للتقرُّب من الرئيس، فيحاول لذلك إطلاق سراح سائد، وإعادته إلى بيت أبيه، وأمه، مُعززًا، مكرّمًا، بيد أن مساعيه هذه أحبطت عندما قرَّر النقيب سليمان إطلاق جلّ الموقوفين بمن فيهم سائد تمشيًا مع خطة (اللفلفة). وفي المؤتمر الصحفيّ الذي عُقد بعيد الإفراج عن الموقوفين، ينفي وزير الإعلام أن يكون ابن رئيس الحكومة سبَبَ المشاجرة، زاعمًا أن تداول اسم سائد في الإشاعات مجرد تشابه أسماء لا أكثر، ولا أقل، ففي عمَّان أكثر من عشرة آلاف شخص بهذا الاسم. بيد أن أم سائد، التي اشتعلت خلافاتها مع زوجها - رئيس الحكومة – اشتعالا دفع به لارتكاب حماقة، إذ صَفعَها صفعةً جعلته نادمًا، حثته على زيارة منزل أبي صبحي، والاعتذار له، ولأهله، على ما سببته علاقة ابنه بابنتهم صبحية من مُشاجرة، علاوةً على الوعد بخطبة صبحية لسائد، وبعد مشادَّة بينهما يُذْعنُ رئيس الحكومة، ويحدِّد موعدًا لزيارة حيّ الكسارات، بَيْد أن الأمورَ سارتْ في اتجاه آخر. أرض الصيح ففي حبْكةٍ أخرى، موازية لهذه الحبْكة، ثمَّة أراضٍ شاسِعة في موقع معماري استراتيجيّ ملَّكتها الحكومة لشخص اسمه أمين بربط، وهي أراضٍ مجاورةٌ لقرية الصيح، تمتلكها- أساسًا - عشيرة الودادات. وفي ذروة الحدث الساخن الذي أقام الدنيا في ضاحية الأندلس، قرَّر القاضي عمران عمران – قاضي الاستئناف- نقض الحكم السابق، وردَّ الأرض إلى مالكيها الشرعيّين من عشيرة الودادات. وما إنْ سمع هؤلاء بقرار الحكم حتى بادروا للاحتفال باقتحام المؤسَّسات، والمرافق الاستثمارية التي كان بربط قد أقامها، فعاثوا فيها فسادًا، مما دعا لتدخل رئيس الحكومة الذي لم يعرف في البداية كيف يتصرّف إزاء هذه المستجدّات، وهو لما ينْتهِ من تبعاتِ الحدَثِ الذي وقع في الأندلس، فما كانَ منه إلا أن فوَّض الداخلية، ومدير الأمن، للتعامل مع تلك العشيرة، وإفهامها- بالتي هي أسوأ - أنّ صدورَ الحكم القضائي لا يعْني تنفيذه. وزاد الطين بِلّةً ما قام به الرائد فهد الحسين، فبعد جمعه أهالي حيّ الكسارات لكي يؤمّوا دار الرئاسة ويُعْلنوا ولاءَهم، واعتذارهم للرئيس، وهو إجراءٌ تقليديٌ متّبع، انقلب صهريج المحروقات بتدبير منه على كثَبٍ من بيوت السكان في حيّ الكسّارات، مما أضاع عليه الفرصة مرة أخرى، فالحرائق دفعت بالسكان للهروب، ومغادرة الحي، فكأنهم يستجيبون عن غير إرادة، ولا دراية، لرغبات هذا الرائد الطائش، وفي مقدمتها ترحيلُ سكان الكسّارات، الشيء الذي يتمناه رئيس الوزراء، والوزراء، وعُموم المقيمين في ضاحية الأندلس. صبحية وسائد وثمة حبْكةٌ ثالثة أقلُّ حضورًا من هاتين، ولكنها موازية للحبْكة الأولى، أي نزاع الأندلس والكسارات. فسائد، وهو الابن الوحيد للرئيس، طالبٌ في الجامعة، إلا أنه لا يتصف بما يتصف به الطلاب الشباب في العادة، فلدية تعقلٌ، ورزانةٌ، وحكمةٌ، قد تبدو لكثير من القراء شذوذًا، فهو، على سبيل المثال، يرفض أن يشتري له أبو سيارة، ويفضل استخدام وسائل النقل العامة في تنقله وذهابة للجامعة، كالتاكسي مثلا. علاوةً على ذلك يُفضِّلُ التعامل مع الوسط الطلابي دون أنْ يعرفوا عنه أنه ابن رئيس الحكومة، فتواضُعُه هذا قد يشكك في مصداقية التشْخيص الروائي، وبمدى واقعية هذا النموذج، أما علاقتهُ بالفتاة صبحية، وهي من أبناء حيّ الكسارات، فقد نشأت في ظروف طبيعية جدًا، إذ لم يكن يعرف أنها من أبناء حي الكسارات عندما رآها للمرة الأولى في ندوة، فوقعَتْ من نفسه موقع المعشوق من العاشق. وصبحية بدورها تجاوبت مع هذا العشق دون أن تعرف أنه ابن رئيس الحكومة، أو من سكان ضاحية الأندلس. فهي، وإنْ غادرت الجامعة مساءً برفقته، إلا أنهما لا يستخدمان سيارة تاكسي واحدة، بل كلٌ منهما في سيارة، دفعًا للحرج، وتجنبا للشائعات. ومع ذلك ما فتئت الأقاويل أن انتشرت بين سكان حي الكسارات انتشار النار في الهشيم، على الرغم من تلك الحيطة، وذلك الحَذَر الشديد. من هنا كانت الشرارة التي أضْرمَت النار في برميل البارود، ووضعت رئيس الحكومة- أبا سائد - في ذروة القلق على مآل استراتيجيته الأمنية الشاملة. وتطويرًا لهذه الحبْكةِ يروي المؤلف بعض المشاهد الغراميّة في لغة تفيضُ عذوبةً لكل من صبحية وسائد. واللافت أنَّ أم سائد - وهي التي تتمتع بمركز اجتماعي مرموق بحكم أنها امرأة رئيس الحكومة - تُفصحُ عن موْقفٍ ينسجم مع شخصية الابن الذي ترى فيه – خلافًا لرؤية أبيه- شابًا واقعيًا، مكتمل النضج، متصفًا بالحكمة، لا برعونة المراهقينَ، أو طيشهم. لذا تؤكّد لزوجها المتكبر، المتعَجْرف، أنّ اختيارهُ لصبحية اختيارٌ جيدٌ، ومُناسِبٌ، ولا يقلقها أن تكون من حيّ الكسارات لا من ضاحية الأندلس، وألا يكون أخوها، أو أبوها، منْ عِلْيةِ القوْم، أو من كبار المسؤولين، أو منْ شيوخ العشائر، فالناسُ، على اختلافهم، لا يتفاضَلونَ بالثروة، أو الحسَب والنَسَب، وإنما بالعقل، والأخلاق، والحكمة. كسْرُ النمَط ومع أنَّ هذه الخِصال التي يُضفيها المؤلف على السيدة قد تبدو لبعض القراء، أو لأكثرهم، خصالا نادرة، وغير متوقعة من امرأة، إلا أنَّ النسقَ السرديّ الذي ينتظم هذه الأحداث، والمتتاليات، يسوّغ للمؤلف هذا الاختيار، وهذا التحديد لطباع الشخوص. فهو بذلك يَكْسر الطابع النمَطيّ للنُخبة، مقابل سخريته اللاذعة التي تكشفُ عمّا أدمنته هذه النخبة من فساد، ومن اجتراء على عقد الصفقات المشبوهة، التي تجعلُ من بعض المُفلسين، المُعْدمين – بين عشيةٍ وضُحاها- من أصحاب الملايين. كما تكشفُ الرواية عن استغلال النفوذ، والوظيفة العموميّة، لتحقيق المكاسب الذاتيّة بصرف النظر عن الوسائل المتَّبَعة في ذلك، مقبولة كانت أو غير مقبولة، فالغاية تبرِّرُ الوسيلة، وخير الحكماء عندهم ميكافيللي صاحب هذه المقولة. ويبدو من العنوان، ومن سبْك المؤلف للمُجْريات، أن وقائع هذه الرواية تجري في يوم واحد، أو بكلمة أدقّ في نصف يوم؛ ومن هنا كان العنوان 13 ساعة، فما بين نشْر خبر الأندلس والتوقف عن متابعة حريق الكسارات، والقاضي عمران عمران، و أراضي الصيح، لا يتجاوز الثلاث عشرة ساعة. وأنْ يكتُبَ المؤلفُ رواية بمثل هذه الوقائع، والمُجْريات، في هذا الزمن المحدود جدًا، وفي فضاء مكاني محدود، شيءٌ يحتاج إلى طول الخبرة، وذلك أمرٌ لا يفْتقر إليه الكاتب فيما نحسَبُ، ونظنّ. علاوةً على ما ذُكر تشدُّنا الرواية بلغتها السردية القريبة جدا من لغة التخاطب اليومي، بعيدًا عن التقعُّر، والتصنّع الذي يشيع في الروايات التي يكتبها شعراءُ سابقون. يقول من فقرة اختيرتْ عشوائيًا « الحكومة لا تعفو ولا تغْفرُ. من يوم عرف هذا الشعب الحكومات لا يعرفونها إلا حكومات جباية.. يرونها فقط في الفرسان الذين يرافقون التحصيل دار على صَهَوات خيولهم مُدجّجين بالكرابيج « أما الحوار الذي يجري بين أم سائد ورئيس الحكومة في الهاتف (ص165- 168) فيكاد يكون بالعامية لكنه مُعْرب. وهذه هي اللغة التي تصلح لكتابة الروايات، لا لغة المتأنِّقين الذين يبحثون عن التشبيهات الغريبة، والمُسْتهجنة، كأنَّهم يبذّون أدونيس في غُموض شِعْره. وصفوة القول هي أنّ الرواية، بما تتَّصفً به من تشويق، ومن حبكةٍ مُركّبةٍ، مُتْقنةٍ، وبما تُسَلّطه من أضواء على الواقع بما فيه من صراع، وتناقُضٍ، وما فيه من شخصيّاتٍ تثيرُ الشفَقة، وأخرى تثير السُخْرية، رواية مُحكمة النسْج، بديعَة التكْوين. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 24-09-2021 06:41 مساء
الزوار: 633 التعليقات: 0
|