شاهين ينشر حواراته مع صاحب “موسم الهجرة إلى الشمال” الطيب صالح
عرار:
عزيزة علي
عمان- صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، كتاب بعنوان “الطيب صالح حوارات ومقالات في الفكر والثقافة والإبداع”، للدكتور محمد شاهين، ويعرض فيه مجموعة حوارات تدور حول مسيرة الطيب صالح الإبداعية. في مقدمة الكتاب، يتحدث شاهين عن رأي الروائي عبدالرحمن منيف، في رواية “موسم الهجرة الى الشمال” للطيب صالح؛ حيث رأى منيف “أن الرواية الخالدة، ما هي إلا رواية تمجد الاستعمار”، ويعتقد شاهين أن رأي منيف لم يأت من فراغ، مبينا أن حكم منيف على درة الرواية العربية يعود إلى الخطاب المعقد الذي أنتج شخصيته بطل الرواية “مصطفى سعيد”، وهو العصب الذي ترتكز عليه الرواية وتنطلق منها البداية؛ حيث ينقل إلينا مصطفى، بكل صدق وحميمية، قصة الاستعمار الأكذوبة، أي أن مصطفى لا يتوقف عند روايته محاكاة مباشرة لحداثة الاستعمار كما حصلت فعلا في التاريخ، كما اعتقد منيف، بل إنه جعل من نفسه منتجا لهذه القصة في ضوء ما يسببه الاستعمار للمستعمِر بطريقة غير مباشرة وخلافا لما يعتقده أرباب الاستعمار، وهو أن “استعمارهم هو خير وبركة تحل على المستعمِر وتهدف إلى تقدمه ونقله من الظلمات إلى النور”. ويرى شاهين أن عنوان الرواية له دلالة لا تخفي العلاقة الدرامية في “موسم الهجرة إلى الشمال”، فلو شئنا تقديم عنوان بجانب العنوان المذكور لربما كان موسم هجرة الجرثومة الأوروبية إلى الشمال، فالعرض المسرحي هو موسم وله زمنيا موسمه، وموسم العرض في موسم الهجرة إلى الشمال قد يستمر سنوات وهو يعرض على المسرح كما هي الحال في المسرحيات الشهيرة، ولا بد وأن الطيب صالح نفسه حضر العديد من المسرحيات في لندن التي استمر عرضها سنوات، وكأن الطيب يقول لنفسه وهو من هواة المسرح “كما يتجلى في حواراته”، لماذا لا يشاهد جمهور المسرح في لندن مسرحية مستقاة من أبرز حقبة في تاريخ الحديث، مخرجها من عاشت أمته تحت نير الاستعمار، وعندما يفرغ بطل الرواية “مصطفى سعيد من دوره في عرض مسرحيته في الشمال يعود إلى موطن قدمه في الجنوب، إلى السودان الذي بدأت هجرته منها، ويعيش بين أهله كواحد منهم بلا تلك الجرثومة طبعا التي كانت وظيفتها درامية في الشمال، لكن الفرق بين مصطفى سعيد وبقية الخلق من حوله هو أنه يحمل ذاكرة عصية على النسيان. ويقول شاهين “من رحم هذه الذاكرة تولد رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، والسؤال الذي يبرز هنا هو كيف يمكننا أن نتقبل المصالحة بين مصطفى صاحب موسم الهجرة إلى الشمال، ومصطفى صاحب العودة إلى السودان على أنهم شخص واحد، وهنا تكمن الإجابة، بحسب شاهين، في “أطروحة الفن المجاز”، بمعنى أن واقع الفن ينشطر عن الواقع المعاش ليخلق بعدا واقعيا جديدا يسمو على حرفية الواقع المعاش المحدودة، وذلك من خلال خلق آفاق تعمق نظرتنا إلى الحياة التي نعيشها فعلا وظاهرا، هذا الانشطار هو الذي يحول التناقض السلبي في معناه في الحياة إلى تناقض إيجابي في الفن”. ويوضح شاهين، أن ما يود الإشارة إليه هنا هو “القراءة الجائرة التي استقبلت بها رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)”، فور ظهورها في مجلة “حوار”، لأول مرة في العام 1966، إذ منعت على الفور من النشر في الكويت رسميا، ورغم أن الكويت كان يشهد نشاطا ثقافيا غير مسبوق في العالم العربي، كذلك منعت من النشر في مصر، رغم ما تتمتع به مصر من حيز ثقافي واسع، مرد كل هذا التطرف أو التصرف مع الرواية هو الاعتماد على قراءة لا تذهب إلى أبعد من البعد الخارجي للحدث. ويقول شاهين إن رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، في أحسن الأحوال تدون تاريخ الاستعمار تمهيدا لتمجيده وربما مثل هذه القراءة هي التي جعلت عبدالرحمن منيف يذهب في تقييمه للرواية إلى ما ذهب إليه، مبينا أن هذا الاستقبال المجحف للرواية لم يطل؛ إذ سرعان ما حظيت الرواية بمكان يكشف عن مكنونها من خلال كوكبة من النقاد، وفي طليعتهم “رجاء النقاش”، الذي امتلك الجرأة وقام بنشرها لاحقا في مجلة “الهلال”؛ حيث انطلقت الرواية بعدها تطوف أرجاء المعمورة شرقا وغربا كرواية طليعية في دراسات ما بعد الاستعمار، إذ أضحت أيقونة في هذا الجنس الأدبي النقدي الجديد، ورغم كل ما أحرزته الرواية من قراءات تنويرية، إلا أن البعض ما يزال يتوقف في قراءاته عند البعد الخارجي للحدث. يقول شاهين، إنه التقى بالطيب صالح أكثر من مرة وفي مناسبات عدة وأمكنة مختلفة؛ حيث يشير إلى بعض اللقطات من تلك اللقاءات فقط لتأكيد حسن معشر الطيب ورفعة أخلاقه، كما توضح لنا تفاصيل هذه اللقاءات في هذا الكتاب، لافتا إلى أنه عندما التحق الطيب بمكتب اليونسكو في عمان التقى معه شاهين مرات عديدة، كما دعاه للقاء بطلة الدراسات العليا في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة الأردنية، كما التقى بالطيب في لندن خمس مرات، أربع منها أمام المتحف البريطاني، والخامسة أثناء دعوة للعشاء في بيته بمعية أصدقائه الذين عملوا معه في محطة الإذاعة البريطانية-القسم العربي، أما آخر لقاء لي مع الطيب في مصر فكان في مؤتمر الرواية التي حملت اسم الراحل إدوارد سعيد، ويستعرض شاهين من خلال هذا الكتاب لقاءاته مع الطيب صالح. وفي كلمة على غلاف الكتاب، يقول شاهين “تسعى هذه المقابلات إلى قراءة تنويرية لمسيرة الطيب الإبداعية وسيرته الذاتية، خصوصاً ما يتم من تقاطع بين شخص الطيب وشخوص رواياته وما يتعلق بموسم الهجرة إلى الشمال التي تحتل حيزاً واسعاً في هذه المقابلات نظراً لما تفرزه من جدلية في تأويلها”. ويؤكد الطيب، في مناسبات عدة، أن رواياته مهما كان ارتباطها بالحياة التي عاشها في السودان أو في لندن، ليست محاكاة لتجربته الشخصية، بل هي في غالبها من إبداع الخيال الفني الذي يتخطى ظاهر الحدث إلى باطنه الذي سيشكل بداية بوصلة القراءة. هذا هو مصطفى سعيد، مثلاً، الذي أبدع الطيب في تصويره عندما جعل منه شخصية أسطورية تتحدى بعدي الزمان والمكان، يظهر للقارئ في أحيان كثيرة على أنه السوداني الذي هاجر إلى الغرب ليثير قضية الاستعمار معاتباً أو منتقداً أو مشخصاً لتلك القضية الأزلية، وكان مصطفى سعيد نفسه الطيب صالح الذي يروي القصة ويقدم أحداثها التاريخية ويعاين وقعها على أصحاب البقعة الجغرافية الذين رزحوا تحت نير الاستعمار. يحاول الطيب صالح أن يبين لمقابليه أن مصطفى سعيد نتاج تداعيات الاستعمار؛ أي أنه في باطنه، غير ما هو ظاهره؛ شخصية تولد أصلاً من رحم الاستعمار الموبوء وهذا ما يفسر علاقة الصراع القاتل بين مصطفى سعيد وجين موريس الذي يقوم على وجود تنتقل عدواها بين من حملها بداية (جين موريس) وبين من أصيب من بعدواها لاحقاً (مصطفى سعيد).