غازي انعيم يخط مسيرة التشكيلي صالح المالحي الإبداعية والفنية
عرار:
عزيزة علي
عمان – صدر عن مركز جلعد الثقافي/ متحف هندية للفنون، كتاب بعنوان “صالح المالحي: حياة مؤجلة- قراءة في سيرته ومسيرته التشكيلية” للفنان التشكيلي غازي انعيم، يتضمن الكتاب “145”، لوحة ملونة. يقول أنعيم في كلمة بعنوان “هذا الكتاب.. لماذا؟”، “إن المؤرخون والنقاد لم يذكروا في كتاباتهم الفنان المالحي، ورغم ذلك سيظل هذا الفنان واحدا من أبرز وألمع المبدعين الفلسطينيين الذين واكبوا حركة شعبنا الفلسطيني، فنا وإبداعا ومعرفة، والذي أضاف اسمه الكبير بجدارة وصدق ووعي إلى سفر أولئك الذين سيظل الجيل الجديد والأجيال اللاحقة ترنو إليهم باعتزاز وإكبار. يؤكد المؤلف أنه “في بداية تسعينيات القرن الماضي، غادر (المالحي) الكويت في بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد غزو الكويت من قبل العراق، ليستقر في نهاية المطاف في الأردن، وهنا بدأ مشوارا جديدا في الفن، واتجه إلى رسم الكاريكاتور، حيث أنتج منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وحتى رحيله، عشرات اللوحات الكاريكاتورية المستوحاة من القضية الفلسطينية والواقع العربي”. ويشير أنعيم إلى أن “الفنان المالحي”، الذي ينتمي إلى “جيل الستينيات “في الفن التشكيلي الفلسطيني الحديث” يعتبر ابن الواقع بكل متناقضاته، ومشكلاته، وقضاياه، وهو صاحب قضية، وموقف ثقافي، واجتماعي، وسياسي، وقومي، وهو المتمرد، والثائر، والمناضل، والمقاتل بريشته.. كما له رؤاهُ الفنية التي حملها معه أينما ذهب في شتات الأرض، فحقق الكثير منها فيما قدم من أعمال فنية، فيها إلى جانب روعة التصميم، قوة الخط، وموسيقية الألوان، التي تعكس ملاحم الشعب الفلسطيني وصراعه مع العدو الصهيوني، الذي لم يقف عند حدود اغتصاب الأرض، وطرد وتشريد الشعب، وإنما حاول ويحاول باستمرار طمس، وتزوير، وسرقة الثقافة العربية الفلسطينية قديما وحديثا. ويرى المؤلف أن المسألة الوطنية في الفن عند المالحي، ليست مجرد تسجيل لحدث مصيري، بل هي ثقافة، وعملية تفاعل جدلي بين الفن، وقضيته، لافتا إلى أن المالحي، يبث ثقافة المقاومة من خلال الخط واللون، وعناصر اللوحة المختلفة، حيث قام بتصوير الأحداث ورصدها بدقائقها، وتفصيلاتها، كشواهد تاريخية تشكل في بعض جوانبها كـ”صبرا وشاتيلا” وغيرها من المذابح التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني في مدنهِ وقراهُ ومخيماتهِ، وثيقة إدانة، وصرخة احتجاج، وتكشف عبر المظهر الخارجي للواقع عما حدث من دمار، وخراب، ومذابح إنسانية قام بها الكيان الصهيوني. ثم يتحدث أنعيم عن لوحات المالحي قائلا “إن المالحي تناول على مسطحات لوحاته النكبة الفلسطينية والنكسة، والتشرد، والغربة والخيام والأسوار والحنين إلى الوطن السليب، بالإضافة إلى ذلك سجل على مسطح لوحاته، بعض مظاهر الفلكلور الفلسطيني، كالأزياءِ الشعبية بأنماطها الخاصة، وزخارفها المتميزة؛ وكذلك الأدوات التراثية المستعملة في الحياة اليومية؛ بالإضافة إلى تناوله مظاهر الأفراح، والأتراح، والحكايا والأساطير؛ خشية عليها من الضياع، والاندثار، نتيجة المحاولات الصهيونية المتكررة لطمسها، وتزييفها، وسرقتها، له على أن كل ما ذُكر يمثلُ جزءا من تراثه. ويضيف: يستوحي المالحي التراث، ليُعالج الحاضر، ويخطط للمستقبل، لذلك لم يكن، بعيدا عن الروح الفلسطينية والعربية، شكلا أو مضمونا، كانت تلك الروح ملهِمه، ومنبعه الذي لا ينضبُ، من واقع الجموع الشعبية، إلى واقع الحياة الكفاحية، إلى شموخ البيوت الفلسطينية، ما أسس له منظومة جمالية متكاملة، وصار لها بصمتان فريدتان يمكننا تمييزهما بين مئات البصمات الفنية: “الأولى: بصمتهُ كفنان فلسطيني صميم يمتلكُ كلَ سمات الحداثة والمعاصرة. الثانية: بصمتهُ الشخصية المتفردة بأسلوبه الذاتيِ”. يرى انعيم أن المالحي استطاع أن يبني لنفسه قاعدة راسخة، صارت – مع الزمن – منصة انطلاق وريادة روحية كشفت عن سلوك فنان مثقف، ومناضل، وعن التزام نابع من معاناته، من ذاته التي لا يمكن أن نفصلها عن الواقع في كافة مراحل حياته، ولعله صار أقرب إلى فكر (ابن عربي) في تمجيد الروح، متطوحا عبر تجلياته الصوفية المليئة بالحلم، والغموض، مترعـا بالخيال والاشراقات الروحانية، بما يمنح المشاهدين قدرا أوسع من المشاركة في العمل الفني، وما ينعكسُ من تعدد الرؤى والاحتمالات، والنتيجة مزيدا من ثراء العمل الفني وتجدده. ويعتبر المؤلف أن أبرز ما كان في حياة المالحي، هو محاولته الربطَ بين الفن، والمجتمع: فهو يراهما وحدة متكاملة، لا انفصال بين مكوناتهما المختلفة، ولا يرى اتخاذه موقفا سياسيا واضحا، بل يرى ضرورة في أن يحدد الفنان موقفه من المجتمع، ومن الاتجاه السياسي الذي يختاره بوضوح، وبصدق، وإخلاص. ثم يتحدث أنعيم عن الجبهات التي حارب فيها “المالحي”، والتي تُعتبرُ واسعة متعددة، سواءَ كانت فنية، أو ثقافية، أو سياسية، أو معنوية، لذلك ظلت تجربة المالحي التي حققت حضورا متميزا في ستينيات القرن الماضي، وعبر شخصية جمالية متعددة المناهج؛ تكونت في تلك المرحلة واستمرت حافظة خصائصها، وسمات تميُزها، إلى منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وخلال مسيرته التشكيلية، عبر “المالحي” عن معاناة شعبه ومقاومته للاحتلال، فالحياة الفلسطينية كانت قبل الاحتلال زاهية ومفعمة بالحب والخير والفرح، وأصبحت حياة الفلسطيني بعد الاحتلال، حياة معاناة، وتشرد، وألم، ومقاومة، “حياة مؤجلة”، ينبلج من خلالها نور الحرية والنصر. يضيف المؤلف “لم تُظلم تجربة في الرسم الفلسطيني، كما ظلمت تجربة (صالح المالحي). بل الفارقة المؤلمة أن النقد لم يسلط الضوءَ على أبرز خصائصها، كما حصل العكس لمواهب نالت شُهرة لا توازي أهمية انجازها، وربما يعود ذلك لشخصية الفنان، حيث اكتفى بالإنجاز الفني دون افتعال ضجة حولَه”، لافتا إلى أنه رغم ذلك التهميش، ظلت تجربة الفنان (صالح المالحي)، تكشف عن فنان فلسطيني متميز، ساهم في النشاط التشكيلي الفلسطيني في الكويت، منذ بداية السبعينيات، حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وتحت عنوان “تمهيد”، يرى أنعيم أن المالحي يُعدُ من الفنانين الذين اكتسبوا تجربة فنية تجلت في تفرُدِهِ وتأكيدهِ على أسلوبهِ الذي دأبَ على إثرائهِ وتطويرهِ وفق ما تمليه عليه مخيلته الإبداعية؛ وقد استطاع أن يُحولَ قسوة الغربة إلى نجاحات متكررة، فهو عاشق للترحال حاملا على عاتقه رسالة الفنِ معبرا عن أصالته وقضايا وطنه، لذلك لم يكن يكترث للغربة التي صاغها إلى جانب التشرد بشيء من الحنين الدفين إلى الوطن السليب الذي صوَره في عشرات اللوحات التي تحمل في طياتها مخزونا من الرفض للقهر والظلم اللذين يتعرض لهما الإنسان الفلسطيني، كما تعكس لوحاتُه مُختلف حالات ومتغيرات القضية الفلسطينية من النكبة والنكسة إلى الثورة والانتفاضة، لذلك لا يمكن أن نفصل النصِ عما يخامرُ أعماقهُ من رؤية تجاه الواقع؛ لأنَ فلسطين في قلبه ووجدانه لذلك عكس فنه موقفه المنحاز لوطنه وأمته، فجاءت أعماله الفنية انعكاسا للواقع الفلسطيني باختلاف زمانه ومكانه، ومواكبة لأحداثه السياسية والاجتماعية. ويتحدث المؤلف عن لوحات المالحي “نستطيع أن نرى في لوحاته أبناء الشعب الفلسطيني من أطفال ونساء ورجال وكبار سن، وكذلك الفلسطينيِ المشرد والقابع تحت نير الاحتلال، والفدائيِ الذي يمتشقُ بندقيتهُ مدافعا ومقاتلا عن عروبة فلسطين، وحدقات العيون التي تنطلق منها نظرات مثل طلقات الرصاص، وشفاه ارتسمت عليها مسحة خفية من الازدراء، وأقدام حافية، وأذرع متشابكة على الصدور، وراحات مطبقة على الصلبان وقد تشبثت بها أصابع قابضة كأنها وجدت الشيء الذي يجب ألا يفلت منها أبدا، وشخوصٌ لا تعرف الاستكانة ولا تشعر براحة… ولا تهدأ، يعذبها تأججٌ داخليٌ، وتطاردُها سياطٌ خفيةٌ تُلهب ظهورَها، وهناك أيضا ما يتأجج في النظرات والحركات والإيماءات، إنَ الشخوص التي نراها في لوحات (المالحي) أبطالا معذبين”. وخلص أنعيم إلى أن لوحاته المالحي كانت مملوءة بالحب والحنان والأحاسيس الصادقة المعبرة عن واقع الحال الفلسطيني بمحطاته الحلوة والمرة ولحظاته الجليلة في عمر النضال الوطني الفلسطيني الذي تناوله بطريقة مميزة وخاصة، تشبه لحد ما الطريقة التعبيرية للشهيد ناجي العلي في كاريكاتوراته اليومية، كما يمكننا أن نقرأ بوضوح الأهمية التعبيرية للجانب التـلويني والتأليفيِ التكوينيِ؛ لكن يبقى من الصعوبة بمكان الإحاطة بكامل تجربته التي استمرت أكثر من نصف قرن من العطاء الفنيِ إنتاجا وتفاعُلا، واستمرت حافظة خصائصها وسمات تميزها الإبداعيِ في إبراز الطابع الوطنيِ في لوحاته؛ ومتحديــا الإجراءات الصهيونية التي ترمي إلى طمس كلِ المعالم المميزة لهويته الفلسطينية. في كلمة على غلاف الكتاب يقول المؤلف “تعرفنا على كثير من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، لكن يبدو أن حياتنا الفنية مثقوبة الذاكرة، ومن بين من سقطوا من الذاكرة الفنان التشكيلي الفلسطيني صالح المالحي الذي لم ينصفه النقد ولا الإعلام، وبقي في طي النسيان، لذلك يأتي هذا الكتاب لتسليط الضوء على سيرته ومسيرته الفنية وإبلاغ رسالته الجمالية والإنسانية بعد أن حالت الظروف دون وصولها إلى محبي الفن ودارسيه ونقاده؛ لاسيما أنه صاحب موهبة وتجربة وخبرة وثقافة وأسلوب فني مميز. كل هذه الروافد كانت تصب في محيط فني يموج بالرؤى الشعبية والتراثية والوطنية والأسطورية، ويحمل نكهة فلسطينية مميزة بالنضال والكفاح من أجل الحياة، كما كان المالحي مهموم بأوجاع وأحزان وأفراح شعبه ووطنه، وله موقف من الواقع والحياة. لذلك لا يختلف اثنان على أن صالح المالحي كان تعبيرا حيا وصادقا عن حس شعبه وعن فلسطين حيث كان يحلم بتحريرها واستقلالها. حتى ليمكن القول إن نبضات قلبه كانت ملتحمة بنبضات شعبه وقضيته. في كل الأحوال، تعمد الفنان صالح المالحي تصوير الواقع على مسطحات لوحاته بغير ضجيج، إذ صور الحياة اليومية والنضالية الفلسطينية في اللحظات التي تكون فيها زاخرة بالمعاني. وبأسلوبه التعبيري جمع في لوحاته بين المحسوس والمجرد ومزج بين المرئي والمتخيل. كما أظهر قدرته على المزاوجة بين اللون ومعمار التكوين، لقد كانت حياة المالحي عبارة عن “حياة مؤجلة” لحين العودة للوطن الأم، وكانت هذه الحياة مثلا يحتذى به في الكفاح والمثابرة والتضحية والألم والمتعة. وكان نتاج كل ذلك أعمال تشكيلية مبهرة، منتمية، صادقة، لها سحر خاص، من الصعب ألا تؤثر فيمن يشاهدها”.